قدمها فرانسيس إلى ربّ العمل على إنها شخصٌ يعرفهُ في الماضي.
وبفضل مراعاة ربّ العمل، أتيحت الفرصة للوناريا للتحدث مع فرانسيس على انفراد.
“أين تقيمينَ الآن؟”
كان صوتهُ يبدو عاطفيًا بطريقةٍ ما.
لكن هذا مستحيل.
فهو لم يكن يمتلكُ علاقةً مقربةً معها لتلك الدرجة.
“…..”
“آنسة لوناريا.”
“لم أعد أُدعى بهذا الاسم الآن.”
“وما هو إسمكِ الآن إذن؟”
لم تُجب لوناريا، لأنها لم تكن ترغب في أن يتذكرها فرانسيس بهذا الاسم،
لقد أرادت ان يظل اسمها حين كانت فتاةٌ حيوية ومليئة بالبهجة، عالقًا في رأسه.
عوضًا عن ذلك، سألته.
“هل تزوجت؟”
لقد أزعجها كثيرًا رؤية الماسة اللامعة في إصبع يده اليسرى منذ قليل.
“آه.”
أخفى الخاتم بيده اليمنى، وعلامات الحزن باديةٌ على وجهه.
بدا لها أنها سألت سؤالاً لا طائل منه.
“نعم.”
انقطعت المحادثة عند هذا الحدِ. واستأذنت لوناريا وانصرفت، تاركةً القصر على الفور.
ومع خطواتها المتعثرة التي توحي بالضعف،
سمعت أصواتًا تناديها للعودة إلى المطبخ، لكنها لم تكترث.
ستنهي علاقتها بهذا المكان. ستغادر كما فعلت دائمًا.
فعدم وجودها لن يغير شيئًا في هذا القصر، ولن يؤثر على العالم.
هبّت الرياح بقوةٍ محدثةً ضجيجًا كبيرًا، ناثرةً معها الأوراق اليابسة على الطريق.
كان وضعها مشابهًا لتلك الأوراق.
التقت لوناريا بفرانسيس مرتين بعد رفضها عرض زواجه.
وفي كل لقاء كان شعورها بالبؤس يزداد.
لقد كان يظهر دائمًا في أكثر لحظاتها بؤسًا.
وبالرغم من اعتقادها بأنها تخطت ذلك الشعور منذ فترة طويلة،
إلا أن مواجهة عينيه كانت أمرًا لا يُحتمل.
“لوناريا!”
أدارت لوناريا رأسها و أعتقدت أنها سمعت هلوسة.
كان فرانسيس يلحق بها، وعندما وصل إليها أمسك برسغها النحيل،
محاولًا التقاط أنفاسه. كان مظهره مختلفًا عن أيِّ وقتٍ مضى.
“ما هذا…؟”
دون أن ينطق بكلمة، أخرج فرانسيس ساعة جيب قديمة من جيبه،
ووضعها في يدها. حاولت لوناريا إعادتها له، لكنه أمسك بأصابعها بقوة.
“هذه آخر هدية من عمتي لكِ.”
لقد كانت إرثًا من السيدة العجوز.
كيف يمكن للوناريا أن ترفضها بعد قوله لهذا؟
استدارت لوناريا بعيدًا عن فرانسيس، وبدأت تمشي ببطء.
وعندما نظرت خلفها بعد مدة، كان فرانسيس لا يزال واقفًا هناك، ينظر إليها بصمت.
***
بمجرد دخولها إلى غرفتها البسيطة، إنهارت لوناريا و سقطت ساعة الجيب من يدها،
وتدحرجت على الأرض.
شعرت بضيقٍ في التنفس، كان شعورًا مختلفًا عن المعتاد.
حينها أدركت أنها اللحظات الأخيرة من حياتها.
-بوم!
يبدو أن الساحر الشاب الذي يسكن الطابق العلوي فشل مجددًا في تجربته،
حيث وصلها صوت الانفجار كأنه آتٍ من مكان بعيد.
‘من الجيد أنني سأغادرُ دون إزعاجِ أحدٍ ما…’
لو كانت قد انهارت أثناء عملها في قصر ربّ العمل، لأثار الأمر الكثير من الضجة.
وفي لحظات وعيها المتقطعة، خطر ببالها خاتم فرانسيس الذي كان يزين أصبعه.
يا ترى، أهو رمزٌ لزواجٍ سياسي لإكمال خط الأسرة،
أم أنه أخيرًا وجد سعادته؟
حتى في هذه اللحظات، وجدت نفسها تتساءل عن مثل هذه الأمور،
مما جعل ابتسامة ساخرة ترتسم على شفتيها.
ماذا لو كنتُ قد أمسكتُ بيد فرانسيس في ذلك الوقت؟
فهي لم تكن لتعيش طويلًا على أيِّ حالٍ، وربما كانت لتلبي شروط عقده.
فالموتى لا يتكلمون، والأسرار تبقى للأبد.
لقد كان عرضًا تم تقديمه بناءً على وصية السيدةِ العجوز،
لكنني أردتُ قبوله لأنني كنتُ ممتنة.
لقد أرادت أن تثبت أنها يمكن أن تكون مفيدةً لشخصٍ ما،
وأن تسافر معه إلى العاصمة لتثبت ذلك.
أغلقت لوناريا عينيها برفق، وانغمست في الظلام.
بعد مرور برهة، ساد السكون في الغرفة، وارتفع ضوء بنفسجي خافت.
-تيك.
بدأت عقاربُ ساعةِ الجيب بالدوران إلى الوراء.
***
“هاه…”
استيقظت لوناريا و هي تتصببُ عرقًا باردًا.
‘أنا…ما زلت على قيد الحياة…’
كانت متأكدةً أنها ماتت. لكنها لم تمت.
وضعت يدها على صدرها و تنفست بهدوء، لقد اختفى الألم الذي كان يعصف بقلبها.
هل أنقذها ذلك الساحر الشاب في الطابق العلوي؟
ربما كان قد جاء لغرفتها بعد فشل تجربته.
لقد كان طفلًا جديرًا بالإعجاب.و اعتنت به كأخٍ أصغرَ لها.
مسحت لوناريا العرق عن جبينها وجسر أنفها، ودفنت وجهها بين ركبتيها.
هل عليها حقًا أن تستمر في هذه الحياة المرهقة؟
و تعيش دومًا بقلقٍ من الموت الذي قد يأتي في أي لحظة؟
لفت نظرها لون غطاء السرير، الذي بدا غريبًا ومألوفًا في آن واحد.
رفعت رأسها، ونظرت إلى المشهد أمامها.
كان كل شيء واضحًا ومألوفًا، بعكس حلمٍ مبهم.
غرفة صغيرة، لكنها مريحة.
كانت الغرفة التي قضت فيها لوناريا حياتها فيها و أيام طفولتها قبل خطبتها الثانية.
‘كيف يمكن أن يحدث هذا…؟’
فتحت لوناريا كفّيها على عجلٍ لتتفحصهما.
كانت هناك بعض آثار التشقق، وكانت جافةً مغطاةً ببعض التجاعيد.
لكنها كانت نظيفة وناعمة مقارنة بآخر مرة رأتها فيها.
‘عليّ أن أتأكد….’
دفعت لوناريا الغطاء، ونهضت من السرير بسرعة.
ثم نزلت مباشرة إلى الطابق السفلي وطرقت باب غرفة أختها الصغرى، لوبيليا.
كان الوقت مبكرًا في الصباح، لكن تلهفها لم يسمح لها بالتفكير في ذلك.
“مَن الطارق؟”
جاءها صوتٌ رقيقٌ، صافٍ كحبات اللؤلؤ من خلفِ الباب.
‘إنها هنا…’
كانت لوبيليا في هذه الغرفة.
نبضَ قلبُها بقوة، حتى شعرت وكأنَّهُ سيخرجُ من صدرها.
اختلطَ شعورٌ الخوفِ مع الفرحِ، حتى بات التنفس صعبًا.
“لوبيليا، إنها أنا…أختكِ الكبرى.”
حاولت لوناريا تهدئة صوتها وهي تتكلم.
“آوه، جئتِ لتوقظيني؟ لا حاجة لذلك… أريدُ النومَ أكثر.”
قالت لوبيليا ذلك، وسرعانَ ما عاد الهدوء،ربما عادت للنوم.
فتحت لوناريا الباب بحذرٍ، ورأتها مستلقية على السرير، تغطُ في نومٍ عميق.
تسللت أشعة الشمس عبر النافذة المفتوحة،
لتنعكسَ على شعرها الفضي الجميل اللامع.
وأسفل تلك الخصلات، كانت عيناها الهادئتان المغلقتان تبدوان بريئتين،
لا تحملان أيَّ ذرةٍ من الشرّ.
عندما تفتح عينيها الأرجوانيتين اللامعتين، كانت تسحرُ كل من ينظر إليها.
إنها صورةُ النقاء البريء، كالملاك،
لقد كانت لوبيليا في شبابها، حينما أحبتها لوناريا بصدق.
مشاعر لا يمكن وصفها اجتاحت صدرها بعنف.
فكما كانت تحب أختها، كان خذلان روبيليا لها أشبه بتمزيق جسدها.
في حين كانت تعيش حياتها في أعماق اليأس من أجل عائلتها،
كانت تسمعُ أنباءً عن حياة لوبيليا السعيدةِ مع خطيب لوناريا السابق.
ظنت أن هذا ما أرادته، أن تكون روفيليا سعيدة.
لكن…
كان تَقبُل فكرةِ أن قلب عائلتها لا يشاطرها المشاعر ذاتها بمثابة ألمٍ يقطعها من الداخل.
نظرت لوناريا إلى وجه أختها النائم بهدوء، ثم أشاحت بوجهها بمرارة.
كانت لوبيليا وخطيبها السابق سويًا منذ هذا الوقت على الأرجح،
لكن لوناريا وحدها كانت تجهل ذلك.
ربما كانت تتجاهل هذا عمدًا، متظاهرة بعدم العلم.
اتجهت لوناريا نحو منضدة الزينة الخاصة بلوبيليا.
بعد إفلاس والدها وبيع أثاث البيت وحليّه، اختفت المرآة من غرفتها،
لكنها ظلت موجودة في غرفة لوبيليا وزوجة أبيها.
بيدٍ مرتعشة، أمسكت المرآة الصغيرة، وقرّبتها إلى وجهها.
تحطمت المرآة على الأرض محدثة ضجة.
“أختي، لو سمحتِ، كوني أهدأ.”
قالت لوبيليا بصوتٍ حادٍ متذمر.
“عذرًا.”
اعتذرت لوناريا بتلقائية، ثم رفعت المرآة بحذر، وتفحصت وجهها مجددًا.
ظهرت في المرآة وجهها الصغير، مع شعرها الذهبي المموج المتلألئ.
كانت عيناها الخضراوان مليئتين بالفضول، وتعلو شفتيها ابتسامة طبيعية.
‘هكذا كان وجهي… أليس كذلك؟’
أهذا حلمٌ؟
وإن كان حلمًا، هل ينبغي أن أتمنى الاستيقاظ منه، أم أفضّل أن أظل في هذا الحلم؟
كان هذا لأنها تعيشٌ حياةً محكومٌ عليها بالبؤس مهما فعلت.
“لوناريا!”
وصلها صوت خطواتٍ ثقيلة تقطع الممر من خلف الباب المفتوح.
“أنا هنا.”
فتحت لوناريا الباب قليلاً وقالت.
حينها، توقفت زوجة أبيها، إيميلدا، عن صعود الدرج، وأمسكت بمعصمها بخشونة.
غمرت لوناريا مشاعر الاشمئزاز بمجرد أن رأت إيميلدا.
“ماذا تفعلين هنا؟ أخرجي من هنا.
أختكِ نائمةٌ، وأنتِ هنا تصدرين كل هذا الضجيج!”
من المدهش أن تظل انتقادات زوجة أبيها واضحة بهذا الشكل.
‘يبدو أنه ليس حلمًا..’
نزعت لوناريا يدها من قبضة إيميلدا بقوة.
“ما الأمر؟”
“لماذا لم تحضّري الإفطار؟ هل أنتِ مريضة؟
لم أتوقع منكِ أن تتركي أسرتكِ جائعة.”
يا تُرى، هل كانت لوناريا مشمولةً بعبارة “أسرتكِ”؟
منذ أن استغنوا عن الخدم بسبب الإفلاس، اضطرت لوناريا للقيام بمهامهم بنفسها.
‘لماذا فعلتُ ذلك، حقًا؟’
رغم كل ذلك، كان جزاؤها خيانة أختها و محاولة تزويجها بذاك الكونت العجوز المروّع.
لم تحصل حتى على كلمة “شكرًا” البسيطة.
لقد كانت مغفلة.
“لا، لستُ مريضة.”
“إذًا لماذا؟”
قالت إيميلدا بحدة.
“أمي.”
خرج صوت لوناريا ببرود.
“لا بدّ أنكِ مررتِ بالكثير من الصعوبات، وأنتِ تعتنين بأبي، وبي،
وبلوبيليا في ظلّ الظروف القاسية.”
“لا تراوغيني بالكلام. إذا كنتِ أخطأتِ، فعليكِ الاعتذار، هذا كل ما في الأمر.”
“كيف ستنالينَ حُبَّ زوجكِ إذا واصلتِ الردّ على كل شيء؟”
“انزلي وأعدّي طاولة الطعام. لا أريد أن يغضبَ والدكِ.”
“من غيري يهتم بكِ مثلما أفعل؟”
كانت هكذا دائمًا.
كانت إيميلدا دومًا تلقي باللوم على لوناريا.
“لماذا تفعلين هذا؟ لا أريد أن أشعر بالحرج بسبكِ، فلا تتصرفي هكذا.”
“أنا أقول هذا من أجلكِ، فاستمعي جيدًا.”
“هل ترفضين؟ إذًا سيبقى الجميع جائعين بسببكِ.”
كانت تشعرُ وكأنها اقترفت ذنبًا كبيرًا في كلِّ مرةٍ.
كانت كلمات إيميلدا تطعن قلب لوناريا كالخناجر.
ووقعت فريسة لوهم أن شعورها بالذنب كان طبيعيًا،
وأن تضحيتها من أجل عائلتها كانت خيارها.
لكن، عندما ابتعدت عن عائلتها، أدركت الحقيقة تدريجيًا.
أدركت أن كل تلك الكلمات لم تكن سوى وسيلة لترويضها والسيطرة عليها.
وأخيرًا، قالت لوناريا الكلمات التي كان يجب أن تقولها منذ زمن.
“سأصبحُ مستقلةً لوحدي.”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات