5
حدَّقت أناستازيا في ليام مطولا أثناء ارتداءه لثيابه استعدادًا لحفل تسلُّم منصب القيادة.
قبل أربع سنوات، دخل هذا الفتى إلى الفرقة فجأة لأنه اعتبر طفلاً تحت رعاية تيري رومان.
عاش حياة لا يُعامل فيها كإنسان، فتولَّت أناستازيا بنفسها تعليمه الكلام والقراءة والكتابة.
كان ذلك لأربع سنوات فقط، ومع ذلك يمكنها القول بجرأة أنها ربَّته كابن لها.
وكان ليام يعرف هذا الجميل جيدًا.
لكن هناك شيئا يتجاوز الجميل.
شيء لا يتجه إليها، بل إلى شخص آخر.
‘كيف استطعتِ أن تسحريه؟’
تحرك خدَّا أناستازيا المجعدان في ابتسامة خفيفة.
“هذه الساحرة العظمى المتعجرفة تقول أنها ستحضر من أجلك وحدك.”
“لا.”
جاء الرد فورًا. رفعت أناستازيا حاجبًا واحدًا بدهشة.
“ما الذي ليس صحيحًا؟”
“ليست متعجرفة.”
نطق ليام بهذا الكلام بسرعة وكأنه يرميه، ثم ارتدى معطفه.
كان ليام الذي يرتدي الزي الرسمي قد تحول إلى شاب أنيق تمامًا، لا يمكن تخيُّل أنه كان ذلك الصبي المتسخ الشبيه بالوحش قبل بضع سنين.
نظرت أناستازيا إليه بهدوء، ثم أطلقت ضحكة ساخرة.
“لمَ؟ هل هي لطيفة معك؟”
“نعم.”
“شخص لم يأتِ لرؤيتك ولو مرة واحدة طوال أربع سنوات.”
“أرسلت رسالة.”
“ورسالة واحدة فقط.”
“وقالت أنها ستدللني.”
نظرت أناستازيا نظرة خاطفة إلى المكان الذي غادر منه الرسول، ثم سألت:
“فهل هذا ما تسميه دلالاً؟”
“نعم.”
“أنت واقع في غرام الكونتيسة تمامًا. من يراك سيظن أنها مالكة روحك.”
توقف ليام فجأة عندما فتح باب غرفة القائد.
بعد صمت قصير، قبل أن يغادر تمامًا، نطق بكلمات مقتضبة:
“هي… الكونتيسة.”
“هوو؟”
“…يجب أن أناديها بسيادة الكونتيسة. لا مجرد كونتيسة.”
يقولون أن من يفقد عقله من أجل شيء، يمكن أن يحلَّ المشكل بإلقاء ذلك الشيء بعيدًا.
أما من يفقد عقله من أجل إنسان، فحتى لو اختفى ذلك الإنسان، لن يُحلَّ الأمر، بل قد يزداد سوءًا.
فكرت أناستازيا في نفسها:
‘هذا الفتى قد وقع في هذه الحالة و بشدة.’
* * *
قاعة القصر الملكي المزينة بالزهور والأعلام.
في هذا اليوم التاريخي الذي يتغير فيه منصب قائد فرقة فرسان الملكية بعد خمسين عامًا، تجمع عدد هائل من الناس.
كان يوم تعيين رئيس الجماعة التي تحمي البلاد، فحضر كل أنواع النبلاء والأشخاص المرتبطين بفرق الفرسان والذين حصلوا على إذن بالحضور.
“المرتبطون” يعني أقارب أعضاء الفرقة.
لكن لا عائلة لليام هوسون.
باستثناء شخص واحد فقط: الراعية تيري رومان.
قبل ثلاثين دقيقة من بدء الحفل.
بينما كان دانتي يتجه إلى مقعده، توقف عندما رأى تيري رومان جالسة في المقعد الرئيسي.
“آخر مرة رأيت فيها وجه الكونتيسة في حفلة أو مناسبة كهذه كانت قبل عامين، أليس كذلك؟”
“لا ينبغي مقارنة مثل هذا الحدث بحفلة عادية، يا صاحب السمو. إنه لحظة تاريخية، بعد خمسين عامًا يتغير فيها منصب قائد الفرقة.”
“صحيح. لكن الكونتيسة لا تحضر حتى هذه اللحظات التاريخية عادة.”
“هل فعلتُ ذلك؟ ذاكرتي غائمة قليلاً.”
“سأسأل بشكل آخر. هل ستحضرين الحفل الذي سيُعلن فيه أنني ولي العهد؟”
أجابت تيري بلامبالاة:
“صاحب السمو هو الابن الوحيد لجلالة الملك الحالي، ويمتلك مواهب استثنائية، أنت الأول في ترتيب ولاية العرش بلا منازع. إذن فأن تصير وليًا للعهد أمر مفروغ منه. فما الداعي إلى أن يحتاج صاحب السمو إليَّ في أمر بديهي كهذا؟”
كان كلامًا متعجرفًا جدا.
في العادة، لو نطق به أي نبيل آخر، لكان كافيًا ليُسحب إلى السجن.
لكن… في مثل هذه الحالات دائمًا، يغفر لتيري رومان لأنها تيري رومان.
هي نفسها تعرف ذلك، ولهذا تتصرف هكذا.
ابتسم دانتي ابتسامة خفيفة.
الطرف الآخر هو تيري رومان.
هذا هو أسلوبها المعتاد.
لكن دانتي شعر فجأة بنوع من التحدي.
“اسمعي يا كونتيسة.”
مُميلًا رأسه قليلاً نحوها، رفع دانتي زاوية فمه بطريقة ماكرة.
“الذي يشعر بالأسف بيننا هو أنتِ، أليس كذلك؟”
حينها فقط توجهت عينا تيري نحوه.
“فقد قيل أنني الأكثر شبهاً ببطل رواية رومانسية في استطلاع الرأي… ولهذا تريدين أن تتعلّمي مني الرومانسية؟”
“…نعم، هكذا كان الأمر.”
“أنتِ أيضًا من يتصرف كأنني لا يُفوت، يا كونتيسة.”
“…صحيح.”
“إذن يجب أن تتصرفي بطريقة رومانسية أكثر، أليس كذلك؟”
عندما فكرت في الأمر، وجدت أن كلامه صحيح.
أصبح وجه تيري جادًا ومهيبًا.
“…فهمت.”
دهش دانتي لهذا الرد.
في العادة، كانت سترد بـ”ولماذا أذهب إلى هناك بالضرورة؟” ثم تنتهي المحادثة.
يبدو أن زيارتها السابقة له بسبب احتلاله المركز الأول في استطلاع “الأكثر شبهاً ببطل رومانسي” لم تكن أمرًا عابرًا.
وإلا ما كان لتيري رومان أن تغير موقفها فجأة إلى هذا الحد.
‘…هذا… مثير للاهتمام نوعًا ما.’
مسح دانتي شفتيه بتعبير غامض.
“إذن، في مثل هذه الحالة، ماذا يجب أن أفعل؟”
بل إنها طلبت منه المساعدة.
بعد صمت قصير، فتح دانتي فمه ببطء:
“…يكفي أن تقولي أنكِ ستذهبين.”
“هل تكفي كلمة واحدة؟”
“لن تقولي شيئًا ثم تخلفي بوعدك، أليس كذلك؟”
“لا، أنا من النوع الذي يتحمل مسؤولية كلامه.”
“هذا مطمئن.”
تنهد دانتي ببطء.
“…وعندما يسألونك عن السبب، قولي أنه “من أجل رؤيتي”.”
فجأة، ظهرت ابتسامة خفيفة غامضة على شفتي تيري.
“يبدو أن صاحب السمو قال هذا الكلام لأشخاص آخرين من قبل.”
ضحك دانتي ضحكة ساخرة.
“تقصدين أنني أبدو كمن اعتاد على مغازلة النساء؟”
“لستُ أقول أن ذلك سيئ. بل على العكس، هذا ما أحتاجه بالضبط.”
ردت تيري ببساطة وصراحة.
“من الآن فصاعدًا، سأتعلم من صاحب السمو الكثير. فلنشدَّ العزم.”
“التعلم شيء جيد، لكن أن نشد العزم؟ نحن؟ على ماذا؟”
“على الرومانسية.”
صرخ دانتي في سره:
يا كونتيسة، الناس العاديون يسمون ذلك “الحب”!
يا كونتيسة، هل تقولين لي الآن “فلنشد العزم معًا في الحب”؟
ولم يكن بإمكان تيري أن تعرف ما يدور في خاطر دانتي.
“يدخل السيد ليام هوسون!”
فتحت أبواب القاعة.
كانت تلك بداية حفل تسلُّم منصب القيادة.
* * *
يمر حفل تعيين قائد فرقة فرسان الملكية في مملكة فيلترا بمرحلتين.
الأولى: تسليم السيف من القائد السابق إلى القائد الجديد.
والثانية: تلاوة اليمين أمام الملك.
بما أن قائد فرقة فرسان الملكية هو أعلى منصب عسكري يشرف على جميع فرق الفرسان في الإقطاعيات، فإن الطقوس المرافقة لهذين الإجراءين البسيطين كانت فخمة.
وقفت الفرقة الموسيقية على جانبي السجادة الطويلة وعزفت على الأبواق.
في أجواء مهيبة، مشى ليام هوسون وسط الأنظار المسلطة عليه، عابرًا القاعة الطويلة.
في زاوية بعيدة من المقاعد الرئيسية، كانت تيري تكبح تثاؤبها، ثم ابتسمت برضا عندما رأت ليام.
هل هذا هو الشعور الذي ينتاب الوالد عندما يرى ابنه يحقق النجاح؟
رغم أنها لم ترَ وجهه طوال أربع سنوات.
ورغم أن من رباه فعليًا لم يكن هي.
لكن من رباه بالمال يُعد مربيًا، أليس كذلك؟
“سأمنح سيفي إلى نائب قائد فرقة فرسان فيلترا الملكية، ليام هوسون.”
توقفت الموسيقى، ودوّى صوت أناستازيا الجهوري في القاعة.
نظر الجميع إلى العجوز التي قضت خمسين عامًا في منصب القيادة، تجوب ساحات القتال، بنظرات مليئة بالإجلال والرهبة.
باستثناء تيري.
‘من الآن فصاعدًا لن تكون أناستازيا موجودة في المهمات المرسلة.’
نظرت تيري إلى العجوز بنظرة أسف بدلاً من الإعجاب.
‘كان شخصية أحبها كثيرًا.’
رغم أنها لم تتبادل معها سوى كلمات قليلة.
تسلم ليام السيف المزين بالذهب من أناستازيا بحركات مهذبة ودقيقة، كأنه فارس من السماء.
“بهذا أورثك شرفي الذي حافظت عليه، والواجب الملقى على عاتقي.”
تراجعت أناستازيا إلى الخلف. كان قد حان وقت ظهور الملك.
لم يعد هناك ما يستحق النظر إليه. ما تبقى هو يمين قصيرة ممل ومعتاد.
“… أعلن أنك أصبحت قائد فرقة هيسرون الجديد.”
وقف الجميع في القاعة وصفَّقوا بحرارة.
وكانت تيري بينهم.
بينما كانت تيري تنظر إلى ليام بفخر واعتزاز، شعرت فجأة بشيء غريب.
يبدو أنه ينظر إليَّ.
هل هذا وهم؟
••••◇•••••••☆•♤•☆•••••••◇••••
ترجمة : 𝑁𝑜𝑣𝑎
تابعونا على قناة التلغرام : MelaniNovels
التعليقات لهذا الفصل " 5"