لقد اعتادت على حياة القصر الإمبراطوري بفضل عيشها خلال السنوات العشر الماضية كـ”أليشيا”.
لكن الحقيقة الواضحة أنّ عودتها إلى سنّ العشرين لم تُحسِّن شيئًا على الإطلاق.
“ألا يوجد سبيلٌ للهرب؟”
إمبراطور الإمبراطورية، كايين داريوس، كان رجلاً لا يُحبّ أحدًا.
بل، بدا وكأنّه يكره كلّ ما في القصر، بما في ذلك زوجته والإمبراطورة أليشيا.
“جلالتكِ ، ماذا أمرتِ قبل قليل؟”
سألتها آنيس بدهشة وهي تُقدّم صينيةً فضية عليها شاي دافئ.
“لا شيء.”
حين صارت أليشيا لأول مرة إمبراطورة، لم تستطع أن تفهم شيئًا.
ولهذا السبب أمضت حياتها الماضية وهي تُوصَف بالمجنونة التي أصابها الهذيان بسبب الحُمّى.
كانت تظن أنّ الأمر سينتهي بموتها، لكن لم يخطر لها أنّها ستعود لتصبح أليشيا ذات العشرين عامًا مجددًا … لم يكن هناك خيبة أمل أكبر من ذلك.
غير أنّ الوضع الآن مختلف قليلًا.
فلم تَعُد تتقمّص جسدًا في عالَم غريب كما في السابق، بل عاشت فيه أكثر من عشر سنوات، ثم عاد بها الزمن إلى الوراء وحسب.
“أستميحكِ عذرًا، لقد تراكمت كثير من الرسائل الواردة من لوكان.”
“ضعيها في الصندوق.”
“نعم …”
وضعت آنيس الرسائل داخل الصندوق في زاوية قاعة الاستقبال بأمرٍ صارم من أليشيا.
وقد بدت الرسائل التي تراكمت منذ إصابة الإمبراطورة بالحمّى على وشك أن تفيض من الصندوق، حتى إنّ الغبار بدأ يتراكم على الرسائل السفلية.
“لوكان هي أكثر بقاع هذه القارة تناقلًا ، فلا بدّ أنّهم يعلمون بمرضي.”
“بالتأكيد … ولكن …”
حدّقت أليشيا بعينيها الزرقاوين الباردتين في الصندوق المليء بالرسائل.
كل رسالةٍ منه كانت دليلًا على عجزها عن أداء واجباتها ومسؤولياتها.
‘ولِم أنتِ بالذات؟’
لا تزال تتذكر بوضوح ملامح خيبة الأمل على وجه الحكيم الأكبر للوكان وهو يتنهّد.
‘لا خيار آخر … أنتِ أيضًا ناقصة، لكنكِ حفيدة لوكان. تستطيعين على الأقل أداء واجبكِ. ما دمتِ تنقلين كلامنا فحسب، فلن يكون هناك مشكلة. خلفكِ لوكان، وأنا أيضًا.’
لم تستطع نسيان النظرة الغريبة في عيني الحكيم كورنيليوس حين قال لها ذلك.
‘تذكّري دائمًا، مهمّتك أن تنقلي كلام لوكان إلى الإمبراطور لتمنعي حرب هذه القارة. ذلك هو سبب ميلادكِ وسبب حياتكِ.’
كانت لوكان أرضًا مغلقة يحكمها الحكيم الأكبر، حيث يهبّ الناس كلّ شيء في سبيل الحقيقة والحكمة.
وكان من الطبيعي أن تُزوَّج بنات لوكان إلى أصحاب السلطة في أرجاء القارة ليُبلّغن تعاليم الحكيم.
إنّه تفكيرٌ لوكان-مركزيّ بغيض، قائم على إيمانهم بأنهم وحدهم الأقرب إلى الحقيقة.
“لو سألوكِ من لوكان، فقولي لهم إنني أعاني منذ إصابتي بالحمّى من اضطرابٍ شديد في الذاكرة والتأقلم … نعم، إلى درجة أنني لم أعد أفهم حتى تعاليم لوكان المقدّسة.”
اتّسعت عينا آنيس دهشة، لكنها ما لبثت أن أومأت برأسها.
فهي التي لازمت أليشيا منذ ولادتها كمربيةٍ وخادمة، لا بد أنها تفهم مشاعرها جيدًا.
“جلالته دائمًا ما يزور القصر في الربيع لإحياء ذكرى والدته، لذا ما زال هناك وقت.”
قد يكون الخريف قصيرًا، لكن الشتاء طويل.
والإمبراطور لم يكن يحضر إلى القصر إلا لحضور مراسم التأبين، ثم يغادر فورًا، دون أن يلتقي بها.
“نعم، وحين يحين ذلك الوقت ستكون جلالتكِ قد تعافت تمامًا.”
“… لا، لن أتعافى.”
قالت أليشيا ذلك من غير تردّد.
“ستُخبِرين لوكان بنفس ما قلته الآن”
“لكن … جلالتكِ …”
أطرقت آنيس برأسها، إذ لم تستطع أن تقول إن موقع الإمبراطورة نفسه هشّ للغاية.
جلالته رجل بلا قلب.
كان كايين وريثًا لدماء أسلافه من المحاربين الأقوياء، لكنه لم يكن كافيًا ليغدو إمبراطورًا فوق الجميع.
على أية حال، هو لا يهتم بي مطلقًا.
فقد كانت موافقته على الزواج من ابنة لوكان شرطًا من شروط تتويجه إمبراطورًا.
وكانت صفقةً مهينة حتى بمقاييس الزواج السياسي، إذ كان معناها الواضح أن يحيا بجانب تعاليم لوكان ويستمع إليها ما دام حيًّا.
لوكان أو جلالته … لا فرق.
لقد عاشت كأليشيا أكثر من عشر سنوات.
حياة باهتة، تافهة، لا تُمحى من الذاكرة.
حتى موتها كان وحيدًا، لم تنفعها فيه لا مكانتها كإمبراطورة ولا نسبها من لوكان.
لطالما احتقر جلالته لوكان.
في حياتها السابقة، لم تفطن أليشيا العشرينية إلى ذلك.
فقد كرّست جهدها لتأدية واجبها، ولم تدرك أنّ ذلك وحده كان سببًا إضافيًا لازدرائه لها.
<حتى ببغاء القصر ربما يكون أقدر منكِ. على الأقل ، لن يُثير استيائي كلما فتح فمه>
عدد اللحظات التي واجهت فيها كايين كان قليلًا، لكنّها كانت كافية لِتُحفر في ذاكرتها حتى الآن.
بما فيها تلك العينان السوداوان الباردتان، العميقتان بلا قرار، اللتان نظر بها إليها.
“وماذا لو قلق جلالته بسبب مرضكِ الخطير؟”
ابتسمت أليشيا بسخرية إزاء سؤال آنيس البريء.
“ذلك لن يحدث ، أبدًا”
رفعت عينيها الزرقاوين نحو الفراغ.
حتى آخر يومٍ في حياتها السابقة، لم يعتبرها كايين زوجة.
“ثمّ إنّ جلالته لا يزور القصر إلا لذكرى والدته.”
“و لكم بُعِثَت رسالة عن مرضكِ …”
“هل وصل رد؟ متى أُرسلت تلك الرسالة؟”
أطبقت آنيس شفتيها صامتة.
فحتى الآن لم يأتِ جوابٌ على الرسالة التي أُرسلت على عجل يوم أصيبت أليشيا بالحمّى.
ولا يُعقل أنّ الإمبراطور يجهل أنّ استمرار الحُمّى يهدّد حياة المريض.
“يكفي. سأخلد للنوم باكرًا اليوم. لدي الكثير لأفكر فيه.”
لا يمكنها أن تكرر مأساة عشر سنوات بائسة.
في المرة الأولى كانت جاهلة في عالم غريب، أما وقد خبرت حتى الموت، لم يبقَ في نفسها سوى رغبة في الفرار.
“لعلّ جلالته كان منشغلًا بالمعارك”
رغم امتنانها لمواساة آنيس ، إلا أنّ مشكلةً جوهرية كانت قائمة بين الزوجين.
“وماذا عن لوكان؟ هل يقلق الحكيم الأكبر على صحتي؟”
حتى من دون فتح الرسائل، كانت تعرف موقفهم.
فأليشيا لم تكن في نظرهم سوى أداة لتبليغ أقوالهم ودفع الإمبراطور إلى ما يشاؤون.
“آنيس ، أريد أن أجد معنىً في حياتي.”
لعلّها تجاوزت عتبة الموت مرةً، فبدت ملامح الإمبراطورة العشرينية أكثر حزمًا.
“وليس هناك من يساعدني في ذلك إلا نفسي وأنتِ.”
“…كيف لي أن أرفض؟”
ابتسمت أليشيا ابتسامة باهتة أمام كلمات آنيس الدافئة.
“فلنبدأ بترتيب الأمر”
لكن، في اللحظة التي همّت فيها بهزّ رأسها، دوّى من وراء النافذة صوتٌ لم يكن يُفترض أن يُسمع.
“…!”
تجمّدَت عينا المرأتين وهما تتبادلان النظرات، دون أن ينبس أحدٌ بكلمة.
“…لا، هذا مستحيل.”
ارتجفت شفتا أليشيا.
تمنت أن يكون وهمًا، لكن وجه آنيس المتجهم قال العكس.
“لقد سمعتُه أيضًا، منذ قليل …”
وقبل أن تُكمل حديثها، علا مجددًا صوت الأبواق التي لا تُسمع إلا عند موكب الإمبراطور.
“لكن … ما زال الفصل خريفًا”
ارتجفت عيناها الزرقاوان.
لقد أرادت أن تُخطط لحياتها الجديدة برويّة بعد أن عادت إلى سن العشرين، لكنّ الزمن لم يمهلها.
“إنها بالتأكيد أبواق وطبول إعلان موكب جلالته”
حتى دون كلام آنيس، كانت تعرف.
في هذا القصر، لا يعلو مثل هذا الصوت إلا عند تحرّك كايين.
“مستحيل … جلالته لن يأتي. حتى لو كنتُ على حافة الموت … لن يأتي أبدًا.”
كانت تتذكر جيدًا موتها البارد والوَحيد.
“نعم، لن. .. لن يعود أبدًا.”
“لكن، جلالتكِ … ما دامت الأبواق قد دوّت، فلا شك أنّه موكبه.”
الإمبراطور لا يعود.
لم يأتِ حتى في لحظة موتها، لذلك كانت متيقّنة.
لكن الأبواق واصلت الاقتراب، وكأنها تسخر من يقينها.
“…!”
لا يُعقل.
لقد أقسمت أن ذلك لن يحدث.
“جلالتكِ، الموكب يقترب.”
تحدثت آنيس بقلقٍ متسارع.
“الآن ليلٌ متأخر. حتى لو عاد جلالته … فلن يأتي إلى جناح الإمبراطورة.”
“أستميحكِ، لكن لا مكان في القصر مغلقٌ في وجه جلالته.”
كان هناك شيء واحد لم يتغير بين الحياة السابقة والحالية.
أنّ في الحياة لا وجود لِما هو مطلق.
“… صحيح.”
فالشيء المطلق الوحيد في هذا العالم هو إرادة كايين و وجوده نفسه.
حتى بعد أن عادت من الموت ونالت فرصة جديدة، لم يكن ذلك ليغيّر هذه الحقيقة.
إرادتي لا قيمة لها.
فالمهم دائمًا هو إرادة الإمبراطور.
زواجها، وهجره لها ليلة الزفاف، وتجاهله لها عمرًا كاملًا، كلها كانت قراراته.
على الأقل … ليس بعد.
لم يكن كايين في هذه اللحظة يحمل كراهيته لها بعد عشر سنوات.
فكيف إذًا كانت مطمئنة إلى أنّه لن يعود أبدًا؟
تمنّت لو أنها صفعت نفسها قبل قليل، حين تحدّثت بيقين عن شيء لا يقين فيه.
لكنها فكّرت أيضًا: لو ظلت جامدة كما في حياتها السابقة، فلن يتغير شيء.
“آنيس، أغلقي جميع الستائر وأطفئي الأنوار.”
“ماذا؟”
“أسرعي!”
كانت أصوات الموكب تقترب أكثر، لكن لطالما كان الطريق المؤدي إلى جناح الإمبراطورة متعرّجًا، لذا لم يظهر بعد.
جلست أليشيا في جناحٍ مظلم، وقلبها يكاد يقفز من صدرها.
وحين أنصتت جيدًا، أخذت الأبواق تبتعد شيئًا فشيئًا.
“ها …”
زفرت أليشيا تنهيدة ارتياح وجلست منهارة على الأريكة.
على الأقل ، هذه الليلة لن تراه.
نعم … هذه الليلة فقط.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات