كانت حياةً عاديّة للغاية.
وإن شئتَ الدقّة، فقد كانت حياةً أكثر عزلة من حياة الناس العاديين، لكن الكتب ووسائل الإعلام التي ملأت أوقاتها الفارغة لم تترك لها مجالًا لتفكر بأنّها وحيدة.
إلى أن جاءها موتٌ عبثيّ مفاجئ، قبل أن تدرك أنّها أصبحت شخصيّة في كتاب ما.
“أنا أليشيا لوكان …”
حياةُ امرأةٍ تلمع بشَعرها البلاتيني المتموّج وعينيها الزرقاوين الأجمل من الجواهر، كانت فارغةً من كلّ شيء إلّا الوحدة و الخوف.
“إمبراطورة الإمبراطوريّة، ووارثة حقيقة الحكيم الأعظم لوكان.”
حين فتحت عينيها أوّل مرة كأليشيا، كان كلّ شيء مربكًا.
انتشرت شائعات حول إصابتها بحُمّى عالية أو جنون أو أنّ عقلها ذهب نصفه، وذلك منحها فرصة لتتعلّم من البداية كيف تعيش في هذا العالم.
“و حياة … لم تحمل أيّ معنى”
مضت أكثر من عشر سنوات منذ أن أصبحتُ أليشيا.
أليشيا التي تنظر في المرآة وهي تقارب الثلاثين لم تكن سوى شبحٍ شاحب نسي جماله النضر حين كان في العشرين.
كانت في الثلاثين فقط، لكن جسدها الواهن بدا وكأنّه لن يتجاوز وباء هذا العام.
“لم يَعُد يهمّ إن متُّ الآن”
ذاك النفس الخانق للموت الذي اختبرته مرّةً في حياتها السابقة، كان يقترب منها ثانية.
“أن ألقاه مرّةً أخرى … خيرٌ لي أن أموت”
ومع فقدانها للذاكرة بسبب الحُمّى، وجدت الإمبراطورة نفسها مضطرّة للتأقلم مع حياة جديدة، والاستسلام لواقعٍ بارد.
تعلُّم قوانين القصر المعقّدة لم يكن بالأمر الصعب.
والانتماء إلى عائلة لوكان واتباع عقيدتها أصبح أمرًا مألوفًا.
لكن مواجهة زوجها كايين، الذي يُعدّ أفظع طاغية في تاريخ الإمبراطوريّة، كان دائمًا يُرعبها ويجعل قلبها يرتجف.
“مسكينةٌ وحمقاء يا أليشيا.”
شفتاها اليابستان أخرجتا نَفَسًا مقطّعًا.
لم تكن سوى شخصيّة ثانويّة عابرة في القصّة الأصليّة، فلماذا لم تستطع أن تُنهي حياتها البائسة؟
“حتى لو عشتُ مرّتين …”
إن كان مصيرها أن تموت بهذه الوحدة والعبث، فما الحاجة إلى تحمّل نظرات زوجها المقيتة واحتقاره البارد، وما جدوى ترديد عقائد لوكان كالببغاء؟
“حقًّا … لم أجد معنى للحياة”
نسيت من كانت أصلًا، وما كان اسمها الحقيقي.
وعشر سنواتها كأليشيا لم تكن مختلفة، قصّة تافهة لا يهمّ إن عُرفت أو جُهلت.
“الموت … هو النهاية”
لم تكن لديها ذكريات سعيدة أو لحظات تستحق أن تُصان.
فقط، إن لم تضطر لرؤية وجهه مرّةً أخرى قبل أن تموت، فذلك يكفيها.
“نعم ، النهاية”
ارتعش آخر نَفَسٍ لأليشيا.
وجاء الموت كعادته، هادئًا، ليبتلع وجودها في ظلامٍ ثقيل.
وحين ينتهي هذا، ستودّع حياة أليشيا البائسة إلى الأبد، وذلك وحده جعلها تتقبّل الموت برضا.
***
كان الأمر أشبه بحلمٍ طويل.
شعرت مرارًا وكأنّها تسقط من حافّة هاوية، حتى بدأ العالم الأسود يتلألأ بضوءٍ أبيض.
“إنّه مبهر …”
إن كان الموت هو ظلمةٌ ساحقة، فما هذا الضوء إذن؟
جاء الجواب –على نحوٍ لا يُصدّق– من شخصٍ آخر.
“جلالة الإمبراطورة ، هل أفقتِ؟”
أغمضت عينيها المتألّمتين من الضوء الغريب ببطء.
شعرت بوضوح أنّها تتنفّس، وأنّ كلّ جزءٍ من جسدها يؤلمها.
إحساس بعيد كلّ البعد عن الموت.
“لا …”
لماذا ابتعد الموت عنها؟
هل عليها أن تصمت ثانيةً في جناح الإمبراطورة، وتخنق كلّ مشاعرها كالنبتة الذابلة؟
إنّها لم ترغب قطّ في أن تعيش حياة أليشيا البائسة.
“جلالة الإمبراطورة، هل تتعرّفين عليّ، أنا أنيس؟”
شدّها الاسم المألوف إلى وعيها.
“بالطبع …”
كانت أنيس سيّدة وصيفاتها، المرأة التي علّمتها كلّ شيء و رافقتها خلال العشر سنوات الماضية، تنظر إليها الآن بوجهٍ أكثر شبابًا مما تذكرت.
“من الجيد أنّ الحمّى انخفضت. لا تعرفين كم كان جناح الإمبراطورة كلّه قلقًا عليكِ”
لم تكن أنيس تلك المرأة الهزيلة المتجعدة التي أرهقها السهر على إمبراطورتها، بل وجهًا لم تزل نضارته باقية.
وحين نظرت أليشيا إلى يدها، لم تجدها نحيلة ضعيفة كما قبل موتها، بل ممتلئة بلونٍ ورديّ صحيّ.
“أنا …”
لقد جرّبت موتًا غريبًا بالفعل، وصارت من قبلُ شخصيّة ثانويّة في كتاب.
فهل هناك ما يُدهش أكثر؟
“لقد عانيتِ من حُمّى ثلاثة أيّام. ولحسن الحظ، بفضل جسدكِ السليم وأنتِ في العشرين، استطعتِ التغلّب عليها”
رمشت أليشيا ببطء.
قيل إنّ الحياة ما دامت مستمرّة، فلن ينقطع الطريق.
وها هي حياتها كأليشيا قد عادت لتتواصل من جديد عند العشرين.
لحسن الحظ، كان حفل الزواج المروّع قد انتهى بالفعل.
“لا أريد …”
لو كان ثمّة مَن يُدير مصيرها، لكانت أرادت أن تعترض.
لكن قبل أن تفعل، غلبها الوهن والحرارة، وفقدت وعيها.
ومع الأسف، لم يكن موتًا هذه المرّة أيضًا.
***
كانت رياح السيوف الباردة تعصف في إقليم روبيو، كعادتها دائمًا.
ورغم أنّه قريب من عاصمة الإمبراطوريّة، إلّا أنّ جبالًا شاهقة وعرة تفصل بينهما، فضلًا عن أنّ أشرس رجال القارّة يقيم هناك.
“هل أسقط معاونك بعض محتويات الرسالة …؟”
وقف كايين متعاليًا أمام خيمة ترفرف عليها راية الإمبراطور، فقال ذلك بلهجة لاذعة جعلت الجميع يخفضون رؤوسهم.
“العذر منك يا سيدي … كلّ الخطأ خطئي أنا، قائد فرسان روبيو.”
“قبل ساعة فقط كنتَ معي تفصل رأس البرابرة عن أجسادهم، فكيف تحمل رسالةً على عاتقك أيضًا؟”
لم يجرؤ أحد على الردّ، لا القائد الكهل ولا بقيّة الفرسان.
فكلمات الإمبراطور ذي الخامسة والعشرين، ما زالت تحمل على يديه وسيفه دماءً لم تجفّ.
“في الحقيقة، من يُدير تلك الرسائل هم صغار الخدم … لكن لسببٍ ما …”
حاول القائد بيرن أن يتحمّل الذنب عنهم، لكن بدا أنّ كلماتهم لا تصل إلى أذني كايين.
“غيلن؟”
عيناه السوداوان اللامعتان حدّتا في السؤال.
“نعم، يا سيدي.”
أجاب غيلن، الفارس الخاص الذي رافق كايين طوال حياته، ووقف أمام القائد دون حاجة إلى شرحٍ إضافي.
“تأخير الأخبار الواردة من العاصمة عن سيدي يُعدّ خيانةً وعصيانًا. فهل أنتَ يا قائد، تغطي خيانةً كهذه؟”
“لا يوجد بين فرساني خائن. ما حدث خطأ خلال تنقّل المعسكر.”
“وهل يجوز أن يُفوَّت على الإمبراطور خبر العاصمة بمجرّد خطأ؟”
كان غيلن بارد الملامح كالعادة، لكن في مثل هذه المواقف يزداد وجهه صرامة.
“الذنب ذنبي، وسأعاقب الخدم بنفسي. فالرجاء أن تُسامحهم يا سيدي”
نظر غيلن إلى عيني كايين، وهو الوحيد الذي استطاع أن يقرأ منه شيئًا من المعنى.
“هل هذه كلّ الرسائل الناقصة؟”
“نعم.”
ناول غيلن كيس الرسائل إلى كايين بيده مباشرة.
“تفضّل يا سيدي.”
فتح كايين الرسائل بلا استعجال.
كانت معظمها أخبارًا لا تهمّه: خلافات نبلاء العاصمة، قضايا المجلس، أو شؤون القصر.
لكن حين نشر رسالةً واحدة، انعقد حاجباه الكثيفان.
“العفو … يا سيدي”
انحنى غيلن فورًا، وتبعه باقي الفرسان بخشيةٍ تكاد تحرق قلوبهم.
“الإمبراطورة كانت تعاني الحُمّى ثلاثة أيّام، وكادت تموت قبل أن تفيق”
دوّى صوته المنخفض كالرعد، فاهتزّت قلوب الحاضرين.
“أن يُفوَّت عليّ خبر أنّ زوجتي بين الحياة والموت … يعني أنّ غيره من الأخبار لا يُؤبَه له. أليس كذلك يا قائد الفرسان؟”
انحنى بيرن أكثر وقد تكسّر قلبه من هول الغلط.
“قد يكون خطأً، وقد يكون عمدًا … سأدع لك أن تُخمّن.”
“سيدي، أقسم برقبتي …”
“لو كانت الإمبراطورة قد ماتت، لصرتُ زوجًا لا يعرف حتى خبر موت امرأته. أهناك ما تقولونه بعد؟”
لم يكن في وسع أحد أن يُنكر أنّ كايين لم يُظهر يومًا اهتمامًا بأمور القصر أو حياة الإمبراطورة.
“اقتُلوا كلّ من تلاعب بالرسائل. وأرسِلوا من لم يثبت عليه ذنب إلى أبعد الجبهات. من بقي حيًّا بعد عام، يُعفى من العقوبة”
أطلق أوامره الحاسمة، وأدار ظهره وهو يمسك الكيس.
“غيلن، مع شروق الشمس سنعبر الجبال.”
“أمرك، يا سيدي.”
انحنى غيلن بإخلاص، فتوجّه كايين إلى خيمته دون أن يلتفت.
“قائد الفرسان، أعدّ كلّ شيءٍ بأفضل حال قبل الفجر، كما أمر سيدي. هذا يكفي.”
“… غيلن.”
لمح غيلن نظرة القائد الحزينة فأجاب بحزم: “من تلاعبوا بالرسائل لا بدّ أن يُقتلوا. أعطني أسماءهم كاملة قبل الفجر.”
“مفهوم.”
دخل غيلن خيمة الإمبراطور.
جلس كايين أمام طاولة مؤقّتة يتصفّح الرسائل.
“القائد حاول أن يتوسّط لهم؟”
“نعم، فهو رجل طيّب القلب.”
أومأ كايين بلا مبالاة.
“لم أتخيّل أنّ الإمبراطورة ستصارع الموت.”
“أليس هذا أمرًا حسنًا؟”
رفع نظره بعينين باردتين نحو غلن.
“نعم، فهذا سيجعل مسرحيتك أكثر إقناعًا”
ابتسم كايين بلا صوت، وعاد بعينيه إلى الرسائل.
“نبلاء العاصمة بقيادة دوق نايجل يظنّون أنّي لستُ جديرًا بالعرش. والآن نضجت الثمار”
كان صوته خاليًا من أيّ شعور، قاسيًا حدّ البرود.
“الإمبراطورة أضافت عطرًا على تلك الثمار. لامرأةٍ لم تكن تنفع في شيء، هذا كثير.”
انحنى غيلن فحسب.
“أليس هذا ما كنتَ تنتظره، يا سيدي؟”
كان كايين قد اكتشف تلاعبًا كهذا منذ نصف عام، وتتبّع النبلاء المتورّطين فيه منذ شهرين فقط.
“نعم، والآن أنا راضٍ.”
ارتسمت ابتسامة خفيفة على فمه البارد.
“لقد آن أوان قطف الثمار من شجرةٍ ربّاها دوق نايجل.”
كان كلّ شيء يجري وفق خطّة كايين.
والنبلاء الذين نسوا أمر الإمبراطور وهو يقاتل البرابرة في روبيو، سيدفعون الآن الثمن كاملًا.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات