“أدركُ ما تمثّله جلالتك لشعب مملكة شلريد. وما أفعله ليس سوى إظهار الاحترام اللائق بذلك.”
نظر شولتز توغراهان إلى إليسا بملامح مندهشة قليلًا، ثم رفع أحد طرفي فمه مبتسمًا.
كانت تلك الابتسامة، الشبيهة بنسيم البحر المنعش، لافتةً في عيني إليسا.
“عندما تقولين مثل هذا الكلام، يصبح تراجعي أصعب.”
عجزت إليسا عن إيجاد ردّ على اختيار شولتز توغراهان المباشر لكلماته. وحين رآها مرتبكة، ضحك بخفة، ثم غيّر الموضوع برحابة صدر.
“على أي حال، لماذا كنتِ تنظرين إلى خطيبكِ بتلك الطريقة؟”
“وبأي طريقةٍ كنتُ أنظر إلى خطيبي حتى تقول ذلك؟”
“حسنًا. كما رأيتُ أنا، كانت نظرة من تريد إلقاءه في البحر حالًا. أو نظرة محاربٍ يواجه خصمًا يجب أن يقاتله فورًا.”
“…….”
“وإن لم يكن هذا، فكانت أقرب إلى نظرة من يحدّق في شخصٍ لا يستطيع فهمه إطلاقًا.”
“….لا أعلم لماذا تقول مثل هذا الكلام. لعلّ جلالتك قد أسأتَ الرؤية. أين يوجد في هذا العالم من ينظر إلى حبيبه بتلك الطريقة؟”
“إن كنتِ تقولين ذلك، فليكن.”
رغم انتهاء الحديث، لم ينتقل شولتز توغراهان من مكانه، وبقي واقفًا إلى جانب إليسا.
ولم يكن أمامها خيارٌ سوى فتح موضوعٍ جديد.
“هل أعجبتكَ الرحلة البحرية؟”
“أعجبتني كثيرًا. الآن أفهم لماذا أصبحتِ في البحرية.”
“ماذا؟”
“بحر سيفيا بهذا الجمال، لا بدّ أن يعيشه المرء ويراه كل يوم. أليس كلامي صحيحًا؟”
ابتسمت إليسا ابتسامةً خفيفة. وتوقّف بصرها عند سطح البحر البعيد المتكسّر تحت ضوء الشمس.
كان منظرًا يكاد يعمي الأبصار. كان بحر سيفيا مكانًا يستحيل ألّا يُحَب. ليس لإليسا وحدها، بل أيّ شخص. وكانت إليسا تؤمن بذلك من أعماق قلبها.
“إذاً، متى ستمنحينني فرصةً لأشرح لكِ عن بحر شلريد؟”
“في ذلك الوقت، كنتُ قد زللتُ بالقول. لم يكن قصدي أن أطلب من جلالتك تخصيص وقتكَ الثمين.”
“ولِمَ لا؟ لا تقولي لي أن خطيبكِ شخصٌ ضيّق الصدر إلى حدّ لا يفهم حتى أن أستأثر بوقتكِ؟”
“في سيفيا، لا نسمّي ذلك ضيق صدر، بل نعدّه جزءًا من الحب، ويُسمّى الغيرة.”
“لكنّه لا يبدو كذلك في عينيّ.”
“لا أفهم لماذا تسيئُ الظنّ بعلاقتي مع أدريان باستمرار. كل من على متن هذه السفينة يراني وإيّاه عاشقين، فلماذا وحدكَ، جلالتك، تنكر ذلك؟”
“إنه حكمٌ عقلاني فحسب.”
“حكمٌ عقلاني؟”
“فتوقيت تبادل وثيقة خطوبتكما تزامن بدقّةٍ مع وقت وصول رسالة خطبتي إلى سيفيا.”
في الحقيقة، كان هذا التفسير أسهل للإقناع. إذ كانت هناك حبكةٌ متقنة للغاية شاركت جلالة الملكة نفسها في فبركتها.
ما كان محرجًا فقط هو محاولته، كما في وقت سابق، استدراجها لكشف مشاعرها الحقيقية المختبئة في نظراتها.
“إنها مجرد مصادفة. كانت الخطوبة قيد التحضير منذ ما قبل ذلك.”
رفع شولتز توغراهان حاجبه، كأنه يقول: هاتِ ما عندكِ.
“وفوق ذلك، بدأت علاقتي به منذ أيام دراستنا في الأكاديمية العسكرية نفسها. علاقةٌ امتدّت لأكثر من عشر سنوات قبل أن يرسل جلالتك رسالة خطبتكَ إليّ.”
“علاقةٌ بهذه القدم، فلماذا لم تُقيما حتى حفل خطوبة؟ أليس الاثنان في سنّ تسمح بالزواج وزيادة؟”
“كان وضعي الاجتماعي هو المشكلة.”
في الحقيقة، لم يكن كذلك إطلاقًا. وإن أردنا الدقّة، فمزاج إليسا كان المشكلة الأكبر، لا مكانتها.
“ألستِ أدميرالًا؟”
“كما قلتُ لكَ بالأمس، والدتي لم تكن نبيلة.”
“هل تتّبع سيفيا النسب الأمومي؟”
قطّب شولتز توغراهان حاجبيه، وكأنه لا يفهم الأمر حقًا.
وعلى مظهره هذا، الدال على عجزه الصادق عن استيعاب ثقافة سيفيا، انفلتت من إليسا ضحكةٌ خفيفة.
“هها. لا، بالطبع لا. لكن في سيفيا، لا يُعترف بالنبلاء إلا أبناء الزوجة الشرعية.”
حتى بعد شرح إليسا، نقر شولتز توغراهان بلسانه مرةً واحدة، وكأنه غير راضٍ.
“إذًا، تريدين القول إن تأخّر الاثنين في التحضير لحفل الخطوبة لم يكن تمويهًا، بل لأنهما احتاجا وقتًا للحصول على موافقة العائلة؟”
“هذا هو الواقع.”
“إذًا، إلى أي حدّ تستطيعين تقبّل مطالب الشخص الذي تحبّينه؟”
“….كل ما يريده أدريان.”
“حتى لو كان طلبه أن تذهبي معه إلى الشمال؟ حتى لو كان ذلك يكسر الأجنحة التي تحملينها باسم البحرية؟”
في اللحظة التي طرح فيها شولتز توغراهان هذا السؤال، قفز دلفينٌ من البحر. ومع تناثر قطرات الماء من زعنفته، انبسط قوس قزحٍ مائيٍ انعكس تحت ضوء الشمس.
“دعنا ننظر إلى ذلك أولًا.”
بعد قفز الدلفين الأول، توالت الدلافين تقفز فوق سطح البحر، مُشكلَةً مشهدًا مهيبًا.
طارت القطرات الباردة مع الريح حتى وصلت إليهما. وبدا وكأن المطر يهطل فوق البحر من رذاذ الماء الذي نفضته الدلافين.
تناثرت قطرات الماء في كل اتجاه، فتفتّحت أقواس قزحٍ في الهواء. و اندفعت أسراب الدلافين إلى الأعلى كأنها نغماتٌ موسيقية، ثم غاصت من جديدٍ في البحر، لترسم لوحةً من الموسيقى. فانفجرت عبارات الإعجاب من هنا وهناك.
“هذه أول مرةٍ أرى فيها مشهدًا كهذا.”
“لم أكن أعلم أن بحر سيفيا يُخفي مثل هذا المنظر الأخّاذ.”
وحين مرّت أسراب الدلافين كلها وتلاشى قوس قزحٍ شيئًا فشيئًا، ثم التفتت إليسا نحو شولتز توغراهان.
“لأن ذلك الشخص يحبني، فأنا واثقةٌ أنه لن يفرض عليّ ما لا أريده. ولهذا اخترته.”
وحين قالت ذلك واستدارت، كان أدريان واقفًا هناك.
بدا أن أدريان أوبرون كان يراقب الاثنين من مكانه منذ فترةٍ غير قصيرة. و كان يبدو وكأن التنفّس نفسه يثقله. ومع ذلك، كانت عيناه الحمراوان تتلألآن بصفاءٍ لم يسبق له مثيل.
كأنه لم يفق بعد من أثر الدهشة التي خلّفتها أسراب الدلافين، فقد بقي على وجهه أثر من الحماس الذي لم يخبُ بعد.
***
بعد مشاهدة أسراب الدلافين، اتجه مقدّم السفينة نحو ميناء روسيريكا.
وأثناء الطريق، شارك أولئك الذين لم يعانوا من دوار البحر الملكةَ مأدبةً رسمية على سطح السفينة.
وبالطبع، كان المقعد المجاور لإليسا من نصيب أدريان دون أدنى شك.
وراحت الملكة، وكأنها توجّه إنذارًا إلى شولتز توغراهان، تستعرض مدى انسجام إليسا وأدريان كثنائي، وكم هي علاقةٌ قديمة تجمع بينهما.
“أليست علاقة الاثنين قد بدأت منذ أيام الأكاديمية العسكرية؟”
“نعم، هذا صحيح.”
“فلنستمع إذًا إلى قصة العاشقين الشابين. ما طبيعة علاقتكما في الأكاديمية؟ وكيف انتهى الأمر بشخصين من أقصى الشمال والجنوب إلى إقامة خطوبة؟ أليس ملك شلريد فضوليًا حيال ذلك؟”
أومأ شولتز توغراهان برأسه إيماءةً قصيرة موافقًا. وفي عينيه، اللتين تشبهان بحرًا عميقًا، ارتسم قدرٌ كبير من الهدوء.
كان لونها كلون بحرٍ يتظاهر بالسكينة، بينما يُخفي في أعماقه موجًا هائلًا.
كلما نظرت إليسا إلى عيني شولتز توغراهان، ساورها إحساسٌ وكأنها مكشوفةٌ تمامًا.
كأن عينيه كانتا تقولان لها: سأراقب إلى متى سيستمر كذبكِ.
ثم وضعت سكين الستيك التي كانت تقطّع بها طلبًا لكسب الوقت، ورفعت كأس الماء إلى فمها. فقد كانت شهيتها قد تلاشت منذ زمن.
أي قصة يجب أن تروي؟
هل تحوّل الإهانة التي تعرّضت لها في الحديقة إلى حكاية همسات حبٍ بين عاشقين صغيرين؟
أم تختلق أن ما جرى بينها وبين إينوك في الحفل الراقص كان تجربةً عاشتها مع أدريان؟
في تلك اللحظة، بدّل أدريان طبقها بطبقه بعدما كان قد أنهى تقطيع شريحته، وتكفّل في الوقت نفسه بالإجابة عن سؤال الملكة.
“كان ذلك في حفل الالتحاق بالأكاديمية العسكرية.”
“ومنذ ذلك الحين، هل تعرّف اللورد أوبرون إلى الأدميرال شوتر؟”
“في ذلك الوقت.…”
توقّف أدريان لحظة، وقد بدت عيناه كأنهما تنقّبان في الذكريات بلمعانٍ حالم، ثم فتح فمه ببطء.
“لم أكن أعلم حتى إن كان ذلك شعور إعجاب. كل ما في الأمر أنني ظللتُ أتذكر، لسببٍ ما، ذلك الظهر الذي كان يبتعد وشَعرها الأحمر المربوط عاليًا يهتز.”
“ومتى أدرك نائب الأدميرال أوبرون أنه يحب الأدميرال شوتر؟”
كان في تعبير الملكة، وهي تطرح السؤال، شيءٌ من العبث الطفولي، كطفل يقضم قطعة حلوى في مهرجان.
“كنتُ واثقًا، بقدر ما كنتُ أفكّر فيها، أنها لا بد أن تعرفني أنا أيضًا. لكن إليسا لم تكن تعرفني. كانت أول جملةٍ قالتها لي: ‘ولماذا عليّ أن أعرف من أنتَ؟’”
انفجر الجميع حول الطاولة بالضحك على مزحة أدريان الممزوجة بالسخرية من الذات.
هل حدث هذا فعلًا؟ يبدو أنه حدث بالفعل.
كانت إليسا في ذلك الوقت تعرف أدريان. وكيف لها ألا تعرفه؟ الأول على دفعته، صاحب السيرة المثالية التي تتردّد على ألسنة جميع المدرّسين، وريث دوقية أوبرون الصغير الأشهر في الأكاديمية.
لكن سبب تظاهر إليسا بعدم معرفته كان واحدًا لا غير. كانت تخشى أن يكون، مثل سائر النبلاء الذين التقتهم، نبيلًا أنيقًا يحتقرها لأنها وُلدت ابنةً غير شرعية.
كان قلبها الصغير يفضّل أن يكون هو من يَتجاهل أولًا، بدلًا من أن يُتجاهَل.
“إذًا، كيف ربحتَ قلب الأدميرال شوتر؟”
___________________
الملكة تحسبها سايقتها على شولتز وشولتز مسوي انه هطف مايلاحظ✨ وناسه
ادريان مسكين واضح قاعد يقول مشاعره صدق مدري من ارجم هو ولا شولتز😭😭😭
مع ان واضح بأرحم شولتز في النهايه لأنه بطل ثاني بس الحمار يجنن 😔
المهم اليسا يوم قالت لشولتز اني اثق بأدريان ثم طلع ادريان واقف يارب انه سمع😂 ويصدق نفسه شوي ثم يستوعب وهي تضحك لأنه صدق
التعليقات لهذا الفصل " 27"