كان ميدان التدريب، الأصغر حتى من القاعدة البحرية، مطفأ الأنوار بعد انتهاء وقت الاستخدام.
و إليسا، مرتديةً زي طلبة الأكاديمية البحرية، كانت تمسك بالسيف وتلوّح بذراعها بلا توقف.
كان الخصم المتخيَّل هو أدريان أوبرون.
أدريان أنحف قليلًا مما هو عليه الآن، وعضلاته أقل تشكلًا. لم يكن يرتدي بدلةً فاخرة ولا الزي البحري الرسمي.
بل كان وريث الدوق أوبرون الشاب يرتدي زي الأكاديمية الترابي ذاته الذي ترتديه إليسا، ابنةٌ غير شرعية مثلها.
الخصم الوحيد الذي لم تستطع هزيمته في تقييم المبارزة هذا.
اتبعت بنصل سيفها مسار الضربة التي أنزلها. كانت تعرف خط هجومه، لكنها كانت دائمًا أبطأ منه بردة فعلها.
وضعيةٌ مستقيمة، ذراعان ممدودتان، حتى إن مبارزته كانت تبدو جميلة.
لكن إليسا، التي تواجه كل ذلك، كانت مختلفة. كان العرق يتصبب منها كالمطر، ووجهها محمرًّا من شدة ما تبذله من قوة، ومع ذلك لم تستطع مجاراة قوته ولا سرعته.
خطوة، خطوة، كانت إليسا منهمكةً في التلويح بسيفها إلى حد أنها لم تسمع حتى وقع الأقدام القادمة من الخلف.
انفجرت البثور والجروح التي تكوّنت على مفاصل يديها من فرط التدريب القاسي المتواصل. قطرات الدم الحمراء التي سالت من الجروح المفتوحة انحدرت على ذراعها البيضاء، قطرةً بعد قطرة.
وفجأة أمسك أحدهم بذراعها. وشق بالقوة الفراغ بين يدها وسيف التدريب. ومع صوت ارتطامٍ مكتوم، تدحرج السيف الخشبي على الأرض.
“بهذه اليد، ما الذي تظنين أنكِ قادرةٌ على فعله بعد؟”
تحول الطيف الذي كان يطفو في ذهن إليسا بلا انقطاع إلى حقيقة. ظهر أدريان أوبرون وداس كبرياءها.
“اتركني.”
قالت ذلك وهي تحاول أن تدفع أدريان بعنف. لكن جسدها كان قد استُنزف تمامًا من التدريب الشاق. فأوقفها أدريان بسهولةٍ بالغة.
بل ربما، حتى لو لم تتدرب، لكان قد أخضعها بسهولة. وكان من حسن الحظ أن لديها الآن عذر التدريب.
جلست إليسا على الأرض كما هي. و كان مظهرها مثيرًا للشفقة إلى حد لا يُحتمل. عندها انساب صوتٌ ناعم فوق رأسها.
“أنتِ تجيدين استخدام السلاح الناري أكثر من السيف.”
وهو يقول ذلك، أمسك أدريان بيد إليسا. وبمنديلٍ أبيض أخذ ينظف بعناية البثور والجروح في يدها.
اشتعل جلدها كأن نارًا أضرمت في اليدين المتشابكتين. وشعرت وكأن تلك الحرارة ستسري من أطراف أصابعها عبر أعصابها لتصبغ جسدها كله بالحمرة.
كان قلبها ينبض كأنه في أذنيها. و خافت أن يسمع أدريان صوته. و كان الدم يتدفق بسرعةٍ حتى شعرت أنها لا تستطيع البقاء بقربه أكثر.
عندها فقط لاحظت أن أدريان أوبرون لا يرتدي معطف السهرة، بل الزي البحري الرسمي.
“في المرة القادمة، ابدأ بهذا.”
ما إن أنهى أدريان كلامه حتى وضعت إليسا الكوب على الطاولة ونهضت.
ظل نظره معلقًا على الحليب الذي لم تشرب منه ولا رشفةً لوقتٍ طويل، لكن إليسا لم تلاحظ. وحتى لو لاحظت، لما تساءلت عن قصده.
لم تلقِ إليسا نظرةً واحدة على الفستان الفاخر الذي خلعته كيفما اتفقت الليلة الماضية. بل التقطت بدلًا منه الزي البحري الرسمي المعلّق بعناية.
“ألن تخرج؟”
التفتت إليسا نحو أدريان وهي تمسك بالملابس. فاحمرّ طرف أذنه كمن لم يتوقع ذلك، وخرج مرتبكًا إلى خارج الغرفة.
***
كان أدريان أوبرون ينتظرها خارج المقصورة.
و كان الوقت قريبًا من الفجر، ومعظم أبواب المقصورات مغلقة، والممر خالٍ من الناس.
لم يكن واضحًا إن كان السبب هو غياب العيون الرقيبة، أم لأن إليسا ترتدي الزي الرسمي بدل الفستان وتؤدي مهامها كأدميرال للبحرية، أم لأن أدريان نفسه كان يندم على القبلة التي تبادلاها الليلة الماضية، لكنّه لم يعد يرافق إليسا بالطريقة المعتادة كما فعل طوال الأمس.
بدلًا من ذلك، كان يتبعها من خلفها بخطوةٍ واحدة، كاتمًا حتى صوت خطواته.
“يا أدميرال، هل وصلكِ نائب الأدميرال؟”
أومأت إليسا برأسها، متلقيةً التحية العسكرية المشدودة.
و ما إن دخلت المقصورة حتى خفّ شيءٌ من التوتر عن جسدها. فهذا المكان، الممزوج برائحة البحر النفّاذة، كان موطن إليسا.
لم يجرؤ أحدٌ منهم على ذكر قبلة الأمس. ولم يطرح أحدٌ سؤالًا طائشًا عمّا حدث بينها وبين أدريان أيام الأكاديمية.
لم تكن إليسا شوتر شخصًا يسهل الخوض في شأنه كثرثرةٍ للتسلية. فالأدميرال إليسا شوتر كانت أسطورةً حيّةً بذاتها.
لم يكن بين من يرتدون الزي البحري من لا يكنّ لها الإعجاب. ومن شاهدها تطلق النار على ظهر السفينة ولو مرةً واحدة، لم يكن له إلا أن يفعل.
“الرؤية؟”
“هناك ضباب، لكنه لا يعيق الملاحة.”
“الرياح.”
“شمالية غربية. بهذه السرعة سنصل إلى وجهتنا قبل الظهيرة دون مشكلة.”
“إذًا انطلقوا.”
“نعم!”
بدأت السفينة تتحرك ببطء. و اندفعت إلى الداخل رائحة البحر المالحة وهواء الفجر البارد دفعةً واحدة.
***
كان الإبحار، للأسف، سلسًا على نحوٍ يثير الضيق. وكما قال الدفّان، تلاشى الضباب كله مع بزوغ الشمس. و ودفعتهم الرياح برفق، وتلألأت الأمواج تحت الضوء وكأنها تبارك طريقهم.
وبسبب ذلك، سُحبَا إليسا وأدريان من المقصورة قسرًا.
بدا أن الملكة و الدوق روسيريكا قد عقدا العزم على استغلال هذه الفرصة لترسيخ خطوبتهما في أذهان أكبر عددٍ ممكنٍ من الناس.
أما والد إليسا الطمّاع، فقد أحاط أدريان بعنايةٍ وراح يقدمه رسميًا إلى أتباعه.
وسط ذلك المشهد الذي بدا كلوحةٍ مرسومة، منحت الملكة إليسا دورًا واحدًا لا غير.
“لا حاجة لأن تفعلي شيئًا. فقط انظري إلى خطيبكِ الحبيب بنظرةِ فخر. هذا سهل، أليس كذلك؟”
قالت ذلك وابتسامةٌ ماكرة تعلو وجهها، كأنها كاتبة مسرحيات.
كان وصفًا يفتقر كثيرًا إلى اللباقة عند الحديث عن جلالة الملكة، لكن لم يكن هناك تعبيرٌ أدق لوصف ملامحها.
كانت تتصرف وكأنها تدير مسرح دمى تستخدم فيه إليسا وأدريان.
و لم يكن لإليسا خيار. فانحنت بهدوء وأجابت.
“سأمتثل للأمر.”
وهكذا استندت إليسا إلى حاجز السطح. بينما عبثت رياح البحر بشعرها الأحمر. و ثبتت نظرها على أدريان، وهو يتنقل بين النبلاء إلى جانب والدها.
لكن نظرة العشق لا تولد بين ليلةٍ وضحاها.
‘وهل تظنين أن الاكتفاء بالتحديق سيُحدث ثقبًا في خطيبكِ؟’
ثم اقترب منها شولتز توغراهان.
______________________
والله وناسه شولتز ذاه هو وذكاءه بس كل ماتذكرت انه بطل ثاني رحمته😭 شخصيته هي الي تقوم عقدة البطل الثاني
التعليقات لهذا الفصل " 26"