مُـذكراتُ السّاحِـرةِ الشِّـرّيرة - 50
الفصل 50
نظرت ميلينا إلى الفتاة التي ظهرت كمُنقذة، تقول الكلمات التي أرادت سماعها، كأنَّها مسحورة، ثم مدّت يدها المرتجفة إلى الأمام.
لكن يدي الفتاتين، اللتان تحملانِ وعدًا مشوهًا، لم تلتقيا.
“…هل ظننتِ أنني سأقول ذلك؟”
“…!”
لأن ليريوفي سحبت يدها التي كانت قد مدّتها فجأة دون تردد.
“ليريـ-…ليريوفي؟”
“إذا أردتِ البقاء هنا، افعلي ما يحلو لكِ. لن أمنعكِ.”
“ما-ماذا…؟”
نظرت ميلينا إلى ليريوفي بذهول، كأنَّها تشك في أذنيها.
لكن ليريوفي ظلّت واقفة دون حراك، تنظر إليها بنظرة باردة.
“لا تستطيعين النهوض بمفردكِ دون أن يمسك بكِ أحد. لماذا يجب عليّ أن أتحمل شخصًا مثلكِ وأصطحبه معي؟”
“لا، لا تفعلي هذا… لماذا، لماذا تقولين هذا…؟”
كان صوت ميلينا يرتجف بشدة لدرجة أنَّ كلامها كان بالكاد مفهومًا.
الصوت الذي وعدها بلطف أنه لن يتخلّى عنها لا يزال يتردّد في أذنيها، لكنها لم تستطع فهم ما الخطأ فجأة.
“تسألين لأنَّكِ لا تعرفين؟ أنتِ نفسكِ تعتقدين أنكِ عديمة الفائدة. لذلك تتعلّقين بالآخرين، تفعلين ما يُطلب منكِ لتجدي قيمة لوجودكِ، أليس كذلك؟”
لكن اللوم القاسي طعن وجه ميلينا الرقيق، مخترقًا أعماقها.
لم تستطع إخفاء وجهها المحترق من الخجل كما لو أنها تلقّت صفعة.
“لهذا قررتِ أن تبقي هنا منذ قليل، أليس كذلك؟ لأنكِ عاجزة عن تحمّل نفسكِ التي لا يريدها أحد، وحتى أنتِ ترفضين ذاتكِ عديمة الجدوى.”
شعورٌ بالخزي والإحباط واليأسِ العميقِ اجتاح جسدها كعاصفة.
عندما ظهرت عيوبها التي حاولت إخفاءها، شعرت بصدمةٍ، وخرجت منها أناتٌ مؤلمة دون أن تتمكّن من منعها.
نظرت ليريوفي إليها بنظرة ازدراء، ثم تحدّثت دون أن تمنحها وقتًا لاستعادة رباطة جأشها.
“لكن بصراحة، هذه ليست مشكلتكِ الأكبر. هل تعرفين ما هو أسوأ شيء فيكِ، ميلينا؟”
رفعت ميلينا وجهها الملطّخ بالدموع، وهي تتشنّج بدوخة.
“أنكِ كاذبة بشكلٍ خطير.”
“ماذا، ماذا تقولين؟”
لكن الكلمات التي هاجمتها بعد ذلك كانت اتهامًا مختلفًا تمامًا عما توقّعت.
“متى؟ متى كذبتُ؟ أنا، أنا لم أفعل ذلك…”
بدأت عينا ميلينا المبللتان تعكسان شعورًا عميقًا بالظلم، كأنها لا تستطيع قبول ذلك.
“لستِ كذلك؟ هذا مضحك. ضعي يدكِ على صدركِ وفكّري جيدًا. منذ اللحظة التي رأيتكِ فيها، كنتِ تكذبين كل دقيقة وثانية كأنكِ تتنفّسين.”
على الرغم من توبيخ ليريوفي مرة أخرى، لم تستطع ميلينا فهم شيء.
صوت ليريوفي، الذي بدا متضايقًا كأنها مضطرة لشرح ذلك، تبعها.
“ميلينا الغبية التي لا تستطيع سوى اتباع أوامر الآخرين بسبب غبائها. ميلينا عديمة الفائدة التي لا تجيد شيئًا وتسبب الإزعاج للآخرين. ميلينا المثيرة للشفقة التي لا تستطيع فعل شيء بمفردها.”
“أوه، آه…”
“لماذا؟ هذا ما كنتِ تفعلينه مع الآخرين كأنه روتين يومي. لكنكِ، بصراحة، لستِ هكذا، أليس كذلك؟ أنتِ فقط تتظاهرين بالضعف.”
“آه…؟”
في تلك اللحظة، اتسعت حدقتا ميلينا أكثر من أي وقت مضى.
“لا يمكن أن يكون من الجيد أن تتعمّدي اثارة ازدراء الآخرين باستمرار، فلماذا تخدعين الآخرين ونفسكِ أيضًا؟”
مدّت ليريوفي يدها إلى الأمام، وهي تنظر إليها ببعض الشفقة.
“أليس كذلك؟ لم أكن موجودةً لفترةٍ طويلة مع مجموعة جايد، لكن على الأقل، لم أرَكِ تعيقين أحدًا أو تسببين الإزعاج. بل على العكس، كنتِ مُساعدةً للآخرين. دائمًا.”
تقلّصت ميلينا، ظنًا أن ليريوفي ستضربها، لكن ذلك لم يحدث.
“فكّري في الأمر. منذ قليل في حقل الزهور الزرقاء، كنتِ أنتِ من تقدّم لإنقاذ الأطفال الآخرين المعرّضين للخطر. أثناء الطريق إلى هنا، كنتِ أنتِ من ساعدت من لا يستطيعون الحركة. وأنتِ من قاسمتِ الآخرين ما تملكين دون تردد. كل ذلك كان أنتِ.”
أزالت يد غير لطيفة أوراق العشب المتشابكة في شعر ميلينا المشعث، ورمتها جانبًا بعشوائية.
“لكن لماذا تستمرين في الكذب على نفسكِ؟ لماذا تتظاهرين بأنكِ ضعيفة بينما لا يناسبكِ ذلك؟ هل أنتِ حقًا شخصٌ لا يستطيع فعل شيء بمفرده؟ اسألي نفسكِ بجدية مرة أخرى.”
شعرت ميلينا، وهي تنظر إلى الفتاة أمامها بذهول، بتموجات أكبر تهزّ قلبها مقارنة بالقسم الكاذب الذي سمعته للتو.
“أنا لا أعتقد ذلك. ودليلي، انظري إلى هناك.”
تبعت ميلينا نظرة ليريوفي، فرأت بقايا جثة فتى بشعة، لا تختلف عن حطام وهم محطّم.
“أنتِ تستطيعين استخدام سحرٍ رائع كهذا.”
مدحت ليريوفي ميلينا، على الرغم من رؤيتها لتلك الصورة المرعبة المصنوعة من مشاعر ميلينا القبيحة.
“إنَّه شخصٌ سيء خانكِ وسبّب لكِ الألم، وقتل وآذى الآخرين، أنتِ استطعتِ معاقبته بقوتكِ.”
بدلًا من الاشمئزاز أو نفورها من ميلينا التي فعلت شيئًا فظيعًا، وصفته ليريوفي بأنه رائع.
ذلك وحده…
ذلك وحده جعل ميلينا غير قادرة على كبح العواطف المتدفّقة.
“أنا، أنا… أووه، أنتِ أول من قال لي شيئًا كهذا…”
امتلأت عيناها الخضراوان الملطختان بالدموع بسرعة بدموع تحمل دفئًا مختلفًا.
“أنا… أنا لستُ عديمة الفائدة حقًا؟”
كادت ميلينا تختنق وهي تتشنّج.
“أنا… أنا حقًا، أووه، أوه… هل أنا بخيرٍ هكذا…؟”
لم تجب ليريوفي على سؤالها.
لكن الكلمات التي قالتها للتو عبّرت عن رأيها بالكامل، فكانت قد اجابتها سلفًا.
“أووه، أوه! شكرًا، شكرًا… شكرًا حقًا…”
سالت الدموع بغزارة حتى لم تستطع الرؤية، ففركت ميلينا عينيها المحمرّتين بقوة عدة مرات.
“سأفعل كما قلتِ.”
على الرغم من استمرارها في البكاء، خرجت ابتسامةٌ متعثرة منها، فكانت تبكي وتضحك في آنٍ واحد.
“أنا، أنا أريد الخروج من هنا معكِ…”
وأخيرًا، نهضت ميلينا متعثرةً بنفسها.
“أنا، أنا سأتبعكِ… سأتبعكِ…”
على الرغم من صعوبة استقامة ساقيها الضعيفتين، حاولت النهوض مرتكزة على راحتيها المجروحتين.
ثم خطت خطوةً بخطوة، نحو ليريوفي بقدميها.