الفصل 49
“مارك! آه، آآآآ!”
“جايد، ماذا تفعل الآن؟!”
عندما خمدت النيران، كان هناك فتى لا يزال على قيد الحياة، ملقى على الأرض يتلوّى.
جره جايد إلى مكان ما.
-بلاش!
استمرّت تصرفات جايد الغريبة، حتى قام بغمر الفتى المصاب بجروح قاتلة في البحيرة.
كان يُخرجه من الماء عندما يقترب من الاختناق، ثم يغمره مجددًا، مكررًا ذلك عدة مرات.
في كل مرة كان رأس الفتى يخرج من الماء، كان هناك شيء يتعلّق بجسده بشكل مقزز.
وعندما غطّى ذلك الشيء جسد الفتى باللون الأسود تمامًا…
-هوو!
اشتعلت كرة نارية حارقة مرة أخرى، تاركةً ظلًا أحمر أمام الأعين.
كما حدث في حقل الزهور الزرقاء، تدفّق الرماد الأسود كالدخان وتسرّب إلى معصم جايد.
امتلأ المقياس المُعين بشكلٍ ملحوظ.
“أيه، جايـ-، هووو…”
تعلّقت عيون رمادية لامعة بالأطفال المذعورين الذين تجمّدوا من الرعب والصدمة.
“لم يبقَ… هووه، سوى القليل.”
كما لو كان شيئًا غامضًا يرتدي قشرةً بشرية، كانت خطواته المتقرّبة تتحرّك بشكل غير طبيعي.
“المخرج، هوه، هوو… لا يمكن الوصول إليه.”
على الرغم من علمهم أن عليهم الهروب، تجمّدت أجسادهم كأنهم في فخ، عاجزين عن التحرّك بعيدًا عن جايد المتقدّم.
“إذا تعاملتُ معكم، هوو، هوووو… سأتمكّن من ملئه بالكامل…”
كان الحال نفسه مع ميلينا.
نظرت إلى الفتى أمامها بعيون مفتوحة بدهشة، غير قادرة على التصديق، ثم بدأت ترتجف وتهزّ رأسها بعنف.
“جايـ- جايد، أنتَ تمزح، أليس كذلك؟”
كان صوتها، الذي خرج بصعوبة من حلقها، يرتجف بشكل سيء.
“قلتَ إنك ستأخذنا حتى النهاية. قلنا إننا سنذهب إلى الداخل معًا، فلماذا، لماذا…؟”
على الرغم من الخوف الغريزي الذي كاد يفقدها عقلها، إلا أن اليأس قد يتجاوز أحيانًا حتى الغريزة.
كأن صوت ميلينا قد فكّ بعض القيود غير المرئية، بدأت أصوات مرتعشة تخرج من أفواه الأطفال.
“صحيح، لِمَ تفعلُ شيئًا كهذا…”
“قل إنَّها مزحة… لقد وصلنا إلى هنا أخيرًا!”
“إنَّه مجنونٌ، لقد جنّ تمامًا!”
ومع ذلك، ظلّت عيون ميلينا، التي تنتظر ردّ جايد، مملوءة بالإيمان الأعمى.
لكن في نظرتها، التي لم تعد قادرة على إخفاء الارتجاف، كان هناك شكٌ واكتشاف عالقٌ كالأشواك.
ومع ذلك، لو قدّم جايد عذرًا مقنعًا، لكانت ميلينا مستعدة لتصديقه مرة أخرى.
كما فعلت دائمًا، كانت ستبذل قصارى جهدها لتؤمن به.
لأنها كانت بحاجةٍ ماسة إلى ذلك.
لكن جايد، كأنَّه يسخر منها، أمسك بطفلٍ آخر قريب وسحبه بعيدًا.
بل، لو كان قد سخر منها فقط، لكان ذلك أفضل.
لكن يبدو أن ميلينا لم تكن حتى في حساباته.
“آآآخ!”
“أنقذوني! آآآخ…!”
هاجم الأطفال الذين حاولوا مقاومته بالأسلحة أو الهرب.
سحب جايد الأطفال المصابين مرة أخرى.
غمرهم واحدًا تلو الآخر في مياه البحيرة، مصدر تلوث الغابة الزرقاء.
تسلّلت الأشياء الموجودة هناك، كأنها كانت تنتظر، إلى الفتحات المفتوحة في أجسادهم و غطت عيونهم و فمهم و أذانهم.
تعامل جايد مع الأطفال الذين غطّت أجسادهم بقع سوداء بنفس الطريقة.
“أوه، آه، لا… لا، لا…!”
صاحت ميلينا بصوت مكتوم كأنها في نوبةٍ عصبية، وهي تشاهد ذلك دون أن تطرف.
أمسكت يداها المرتجفتان وجهها.
لكن تغطية عينيها لم توقف الأصوات.
الضوضاء الغريبة من الأطفال الملوثين وصرخات الألم من الحرق الأعمى طعنت قلبها كأشواك مغموسة بالسم، مشلّة عمودها الفقري.
ثم جاء دور ميلينا.
أمسكتها يدٌ قاسية خالية من الرحمة بقوة.
“لا، لا، لا…! جايد! جايد، لا تفعل هذا!”
حاولت التوسّل وهي تتلوّى بعنف، لكن توسّلاتها لم تكن لتنفع.
بل زادت قوة القبضة التي أمسكت كاحلها، كأنها ستكسر عظامها.
سُحبت ميلينا بسهولة كورقة، ووصلت إلى منصة الإعدام حيث لاقى الأطفال الآخرون مصيرهم البائس.
كانت ستواجه نفس المصير، الغمر في مياه البحيرة، لتصبح كيسًا للحشرات السوداء، ثم تحترق بنيران جايد لتصبح رمادًا.
“لا أريد…!”
قطعت صرخةٌ حادة يائسة الهواء.
-بوك!
في تلك اللحظة بالذات.
عبر ظلٌ أسود، كأثر سكينٍ قطع عدة مرات، الأرض بسرعة.
“أغغ، هاه…”
نزل صوتُ أنفاسٍ مكتومة فوق أثر مظلم بدأ كخط عريض وانتشر كتشققات.
عند النظر عن قرب، كان الظل نابعًا من سيقانٍ شائكة.
بدأت زهرة، كانت مغلقة كبرعم، تتفتّح تدريجيًا، مستخدمة الدم الأسود المتدفّق من السيقان الزرقاء كغذاء.
عندما تفتّحت الزهرة بالكامل، كانت تشبه بشكل مخيف زهور الغابة الزرقاء التي تسبب الكوابيس.
بذرةٌ زُرعت داخل شخصٍ استنشق غبار الزهرة، تأثرت بسحرِ الفتاة، فنبتت بسرعة ونمت سيقانها، مخترقة عظام ولحم الفتى الذي كان هدف عاطفة ميلينا الخرقاء.
-طقطقة.
كلما اخترقت السيقان السميكة، التي تنمو بسرعة مقززة، اللحم الفاسد، انحنى جسد جايد المثقوب بشكل غريب.
غطّى أنين ميلينا المليئ بالحزن صراخه الخافت الذي خرج من حلقه.
“كاذب… أنتَ كاذب.”
بكت ميلينا بلا توقف، كما فعلت عندما تخلّى عنها أحباؤها ذلت يوم.
“لقد صدّقتك، أووه. كنتُ أؤمن أنك ستأخذني خارج هذا الجحيم…”
في الحقيقة، كانت ميلينا تعلم أن ما رأته في جايد لم يكن سوى قشرة فارغة.
لكنها كانت تأمل أن يظل موجودًا، ولو كان مجرد وهم.
لأن وجود ذلك الوهم كان أكثر راحة لقلبها.
لكن مهما حاولت، كانت الحقيقة المخفية تظهر في النهاية، تاركة إحساسًا بالفراغ.
بكت ميلينا بشدة، وهي تشعر ببؤسها وحقارتها.
-خطوة.
في تلك اللحظة، اقتربت خطواتٌ منها.
لم تستجب ميلينا، التي كانت تدفن وجهها بيديها وتبكي.
ربما لأنها لم تلاحظ الصوت، أو لأنها لم تعد تهتم.
“ميلينا.”
توقّفت الخطوات أمامها مباشرة، وكسر صوتُ فتاة شابة واضحٌ وهادئ السكون الثقيل.
“انهضي.”
“أووه، أوه…”
“المخرج أمامنا مباشرة.”
رفعت ميلينا رأسها دون وعي.
انعكس وجه فتاةٍ هادئٌ وبارد، كما هو دائمًا، في عينيها المبللتين.
“هيا، يا ميلينا.”
كأن ما حدث هنا لا يعنيهم، مدّت ليريوفي يدها بهدوء.
كادت ميلينا تمسك تلك اليد دون تفكير.
لكنها رأت يدها المتسخة قبل ذلك.
يد مليئة بالجروح من جرّها على الأرض أثناء سحبها بواسطة جايد.
عند رؤيتها، عاد شعور اليأس، فهزّت رأسها دون وعي.
“أنتِ أيضًا ستهجرينني، أليس كذلك؟”
أدركت ليريوفي أنها تقف عند مفترق طرق حاسم.
كان التفكير قصيرًا، والاختيار واضحًا.
“لن أهجركِ.”
ثم أدركت ميلينا فجأة أن عيني الفتاة الصغيرة أمامها كانتا دائمًا ثابتتين.
“لن أتخلّى عنكِ أبدًا.”
وخرجت كذبةٌ مغلّفة بلطفٍ مخادع من شفتي الفتاة الناعمتين، كأنَّها قسمٌ نبيل لميلينا.
“لذا، هيا تعالي معي، ميلينا.”
التعليقات لهذا الفصل " 49"