“تبدين و كأنّكِ تنظرين إليّ نظرةَ مَن يظنّ أنّي أقول كلامًا فارغًا؟ هاها ، لكنّهُ صحيح ، و لمَ لا أقول ذلك؟ فأنتِ آنسة شديدةُ الجاذبيّة”
لو كانت لورينا مكاني لابتسمت ابتسامةً جميلةً و أقرّت بعبارته ، لكنّني لم أكن بتلك الجرأة.
و حين ضيّقتُ عينيّ ، انفجر الأميرُ ضاحكًا مرّةً أخرى.
“حسنًا ، يبدو أنّكِ لم تدركي الأمر بعد”
“…….”
“على أيّ حال ، فكّري جيّدًا في الأمر. إنّني حقًّا أطمعُ بكِ من وجوهٍ عدّة. أمّا أخي … فهو بلا شكّ كفء ، لكن بصراحة لا أراه صالحًا ليكون رئيسًا جيّدًا. أليس كذلك؟”
هل هو كذلك فعلًا؟
عندها تبادرت إلى ذهني صورة كايين و هو يُصلح لي معادلةً قبل قليل ، و صورته حين أثنى على تقريري.
على خلاف سمعته السيّئة ، لم يكن كايين رئيسًا فظًّا يصرخ بلا سبب.
بل كان يُقيّم النتائج بمعايير دقيقة. فإن لم تَبلغ المطلوب تلقّيتُ ملاحظاتٍ قاسية ، و إن تجاوزتُه حظيتُ بمكافأةٍ أكيدة.
نعم ، لولا أنّه وسيمٌ على نحوٍ مزعجٍ جعل قلبي الضعيف تجاه الوجوه الجميلة يورق بمشاعرَ محرّمةٍ … لقلتُ إنّ كايين رئيسٌ ممتاز.
و ربّما كان محضَ وَهم ، لكنّني شعرتُ بأنّ نظرةً باردةً لاحت في عيني الأمير و هو يتأمّلني.
غير أنّه في اللحظة التالية رسم ابتسامةً مشرقةً على وجهه.
“و عرضي السابق بمضاعفة راتبكِ ما زال قائمًا كذلك”
و في تلك الأثناء توقّفت العربةُ برفق.
ففتح السائق البابَ ، و نزل الأمير أوّلًا ، ثمّ مدّ يده نحوي قائلًا: “إن غيّرتِ رأيكِ يومًا ، فاتّصلي بي في أيّ وقت. سواءٌ أردتِ أن تكوني شريكتي أو موظّفةً لديّ”
“… أُكرّر شكري الجزيل على عرضٍ يفوقُ قدري”
نزلتُ من العربة متلقّيةً مرافقةَ الأمير ، ثمّ انحنيتُ بتحيّةٍ رسميّة.
غادرت العربةُ بسلاسةٍ و هي تقلّ الأميرَ مبتعدًا.
“هووووه”
حينها فقط أطلقتُ زفيرًا عميقًا كنتُ أُخفيه ، و استدرتُ لأرى سالي واقفةً أمام البوّابة الرئيسيّة تنظر إليّ بعينين مذهولتين.
“سيّدتي …!”
يبدو أنّها رأتني و أنا أنزل من عربةٍ ملكيّة.
من غير أن تسأل أو تُعلّق ، رفعتْ إبهامها في إعجاب.
“كما هو متوقّع من سيّدتي. علاقاتُكِ تتطوّرُ يومًا بعد يوم!”
“ليس الأمر كما تظنّين”
تنفّستُ تنهيدةً طويلة. كان رأسي يدورُ من فرط التفكير في نوايا الأمير الحقيقيّة. لا بدّ أن أُناقش الأمر مع بيبي بتمعّن.
“آه ، صحيح! هناك ضيفٌ بانتظاركِ في الداخل!”
“هم؟ ضيف؟”
“قال إنّكِ ستعرفينه فور سماع الاسم … الأستاذ دنكان!”
“ماذا؟ الأستاذ جاء؟”
أسرعتُ إلى داخل القصر.
“أوه ، الآنسة فيوليت!”
رحّب بي الأستاذ دنكان بابتسامةٍ عريضةٍ على وجهه المستدير كالرغيف.
“مرحبًا ، أستاذ دنكان”
كانت آخر مرّة تواصلنا فيها حين أبلغني بأنّ المساعد الذي منحني علامة F في مادّة «أساسيّات الهندسة السحريّة» قد انقطع الاتصال به.
و ما إن جلستُ حتّى اتّخذ الأستاذ ملامحَ جادّةً و قال: “أطروحتكِ المفقودة آنذاك … تبيّن أنّ أحدهم سرقها فعلًا”
“حقًّا؟ أوجدتم دليلًا؟”
“لا دليلَ مادّيًّا بعد ، لكنّ القرائن واضحة. يبدو أنّ المساعد حينها لم يكتفِ بتزوير علامتكِ ، بل سرق أطروحتكِ أيضًا”
“يا إلهي”
تدلّت فكّي من الصدمة.
‘كنتُ حين كتبتُ تلك الأطروحة مجرّدَ طالبةٍ في السنة الثانية!’
من الصعب أن أفهم كيف يُكنّ مساعدٌ بالغٌ كلّ تلك الضغينة لطفلةٍ بعدُ.
“تبيّن من التحقيق أنّه ، بعد استقالته من الأكاديميّة ، انتقل إلى الريف و عاش حياةَ بذخٍ حتّى مات بسبب داء الكحول”
“آه …”
إذن لم يَعُد بين الأحياء.
فلم يَعُد ممكنًا أن أواجهه لأسأله لماذا سرق بحثَ طالبةٍ صغيرة.
“لكنّ المثير أنّ مَن أغدق عليه المال ليعيش بتلك الرفاهيّة هو …”
اقترب الأستاذ منّي بخفّةٍ و قال بصوتٍ خافت: “الكونت ألين شميت. هل سمعتِ به من قبل؟”
“همم ، لا”
هززتُ رأسي نفيًا. لم يكن الاسم مألوفًا لي.
“كما توقّعت. و أنا أيضًا لا أعرف عنه الكثير. لكنّني سأواصل التحقيق ، فكلّما تعمّقتُ ازدادت الريبة”
“شكرًا لك ، أستاذي. سأحاول أنا أيضًا جمعَ بعض المعلومات”
“هم؟ و كيف ستفعلين ذلك؟”
“الكونت على تلك المكانة لا بدّ أن يحضر حفل التأسيس ، أليس كذلك؟ سأُراقبه قليلًا هناك فحسب”
“هيه ، لا ، لا تفعلي”
هزّ الأستاذ رأسه في هدوءٍ مشوبٍ بالقلق.
“ما زلنا لا نعلم ما غايته من سرقة أطروحتكِ”
“آه …”
“إن كان يستخدمها لتطوير تقنيّةٍ جديدة ، فقد يتصرّف بعدوانيّةٍ إن علم أنّ صاحبةَ الأطروحة تبحث في الأمر. و ربّما يُعرّضكِ للخطر”
توقّف نفسي للحظة.
‘يستخدم أطروحتي لتطوير تقنيّة؟’
أيَعني ذلك أنّهم يُجرون تجاربَ على نسخةٍ أخرى من بيبي …؟!
‘يا للرعب!’
أومأتُ بوجهٍ جادّ.
“صحيح ، لو كان يريد مجرّدَ الاستعانة بها لما اضطرّ إلى سرقتها أصلًا”
“تمامًا. لذا دعي هذا الأمر للكبار مثلي ، و اصبري قليلًا”
الكبار.
كانت كلمةً بعيدةً تمامًا عن عالمي. فالأشخاصُ الذين يُمكن وصفُهم بالبالغين حولي لا يتعدّون عمّي و الزواجان ماركيزيّ روهايم.
“… شكرًا لك ، أستاذي”
“هممم. و الآن لننتقل إلى النقطة الثانية من زيارتي— آه ، لحظة!”
شهق الأستاذ محدّقًا في جهةٍ ما.
تتبّعتُ نظره ، فتجمّدتُ.
‘بيبي؟’
الشيء الذي كان الأستاذُ يُحدّق فيه بشدّة لم يكن سوى بيبي.
بلعتُ ريقي بقلق.
هل لاحظ الحقيقة؟
أنّ بيبي ليس طائرًا عاديًّا …!
‘مستحيل. حتّى كايين لم يكتشف ، فكيف بالأستاذ؟’
“هذا …”
فتح الأستاذ عينيه على وسعه و اقترب ببطءٍ من بيبي.
ماذا أفعل؟! هل انكشف أمره فعلًا؟
كان بيبي ينظر إلى اليد المُمدّة نحوه بعينين مرتعشتين و ريشه الأصفر يرتجف.
لا مفرّ.
مددتُ يدي لإنقاذه ، لكنّ الأستاذ هتف بحماس: “أوووه! ما أروع هذا الطائر الصغير! إنّه لطيف جدًّا!”
“…….”
“أو ربّما هو العصفور الدوري؟ لا علمَ لي بالطيور ، هاها. على أيّ حال ، لطيفٌ جدًّا!”
“هاها … شـ ، شكرًا”
فقط وقع في سحرِ لطافة بيبي.
تنفّستُ الصعداء ، لكنّ الأستاذ مدّ كفّه نحو بيبي قائلًا: “هَيّا ، تعالْ إلى هنا أيّها الصغير!”
“أوه ، بيبي! ما ألطف هذا الاسم! من الذي جاء بهذا الاسم الجميل؟ ها؟ أتيتَ إلى يدِ العمّ؟ أحسنتَ ، يا صغيري!”
اقترب الأستاذ كثيرًا من بيبي ، يلهث متحمّسًا ، و منخراه المستديران يتّسعان بانفعال.
[يا منقذتي ، إنّه يُخيفني قليلًا …]
“كـ ، كَح. أستاذي؟”
سعلتُ بخفّةٍ لأحوّل انتباهه.
“ذكرتَ قبل قليل أنّ لديك موضوعًا ثانيًا؟”
“آه ، صحيح!”
اتّسعت عينا الأستاذ تذكّرًا.
و في تلك اللحظة أسرعتُ بخفّةٍ لألتقط بيبي ، فاختبأ بسرعةٍ في حضني.
“في الحقيقة ، أردتُ أن أكرّر عرضي السابق. أما زلتِ لا ترغبين في الالتحاق بالأكاديميّة العلميّة؟”
شبك الأستاذُ أصابعه و حدّق فيّ بعينين جادّتين.
“إنّ موهبتكِ كنزٌ لا يُعوَّض. لا شكّ أنّ برج السحر مؤسّسةٌ عظيمة ، لكن في الأكاديميّة العلميّة ستتفرّغين للعلم الخالص، للمعرفة الواسعة بذاتها! إنّها جنّةُ العلماء بحقّ!”
كانت عيناه تتلألآن ببريقٍ مجنون.
“كما قلتُ سابقًا ، فور حصولكِ على شهادة الدكتوراه سنمنحكِ كرسيّ التدريس مباشرةً. و مع كفاءتكِ تلك ، فالحصول عليها مسألةُ وقتٍ فحسب”
تأمينُ منصبٍ أكاديميّ وعدٌ ثمينٌ فعلًا.
لكنّ المقارنة من حيث المردود الماليّ ليست في صالح الأكاديميّة ، إذ يفوق أجرُ برج السحر أضعافًا.
و مع ذلك ، فإنّ أستاذةً في الأكاديميّة ستعيش في بيئةٍ مثاليّةٍ للبحث العلميّ الخالص.
“ما رأيكِ في اقتراحي؟ على الأقلّ هنا لن يضايقكِ ذلك الدوقُ المخيف”
“…….”
ما الذي يحدثُ بالضبط؟
في يومٍ واحد ، عرض عليّ شخصان اثنين التعاقدَ معي ، و كلا العرضين بشروطٍ مذهلة.
منذ بضعة أشهر فقط كنتُ بالكاد أتخرّج من الأكاديميّة.
‘لو أخبرتُ نفسي قبل عامٍ أنّ مثل هذا سيحدث ، لظننتُ أنّني فقدتُ عقلي’
التعليقات لهذا الفصل " 80"