كانَتِ القوّةُ تتدفّقُ من جسدِ كايين الضّخمِ كأنّها أمواجٌ هادرة. حتّى أنا الّتي كنتُ أقفُ خلفَهُ شعرتُ بأنّ أنفاسي تضيقُ.
“هيه، ههاك …!”
انكمشت كتفا فيليكس و كأنّهما سُحقا من قوّة الضّغطِ الّذي تلقّاه مباشرةً.
“كهك!”
تعثّرَ فيليكس ثمّ سقطَ أرضًا.
رفعَ كايين قدمَهُ و ضغطَ بها برفقٍ فوق رأسِ فيليكس.
“الآنَ عرفتَ حجمَك؟”
اسودّ وجهُ فيليكس من شدّةِ الذّلّ.
“مرّةً واحدةً فقط بعد”
تمتمَ كايين بصوتٍ منخفضٍ و هو يزيدُ ضغطَ قدمه.
تلوّى فيليكس من الألم.
“كك ، ككاك …!”
“إن رأيتُ تقترب من سكرتيرتي مرّةً أخرى …”
“آآآخ …!”
“سأسحقُ هذا الرّأسَ العفنَ حتّى ترى بعينيكَ لونَ دماغكَ”
“أ ، أرجوك … كاك!”
“فهمتَ؟”
هزّ فيليكس رأسَه بجنونٍ تحتَ قدمِ كايين.
عندها فقط تركهُ كايين.
“هه ، ههآآ!”
هربَ فيليكس من القصرِ مترنّحًا ، يفرزُ اللّعابَ مثلَ معتوهٍ و قد سيطرَ عليهِ الهلع.
تطلّعتُ إليهِ بذهولٍ و أنا أراقبُهُ يهرب.
‘… واو’
ظننتُ أنّني أصبحتُ شرّيرةً انتقائيّة ، أُجيدُ الكلامَ اللّاذعَ عندما أريد.
لكن بالمقارنة مع كايين؟ ما زلتُ مجرّد هاوية.
‘يبدو أنّ التعلّم لا نهايةَ له’
كان الخدمُ الّذين شاهدوا المشهدَ يحدّقون بكايين بخوفٍ ممزوجٍ بالإعجاب.
أدار كايين رأسَه نحوي و ضربَ لسانَه بأسى.
“أنّكِ كنتِ مخطوبةً لذلك الرّجل … يبدو أنّ ذوقكِ في الرّجالِ بائسٌ إلى حدٍّ مؤسف”
… أيمكنكَ ألّا تنكأَ جراحَ الماضي بهذه القسوة؟
“إذًا ، لا مزيدَ من مواعدَةِ التّعارف”
ارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ متعالية ، ابتسامةُ أولئك الّذين يظنّون أنّهم كانوا على حقٍّ منذ البداية.
‘مواعدة تعارف؟ لحظة ، يبدو أنّ الحديثَ يسيرُ في اتّجاهٍ غريبٍ مجدّدًا …’
“إذًا ، متى نُقيمُ الزّفاف؟”
ها قد عادَ الموضوعُ إلى هنا مجدّدًا!
“كـ ، كيفَ لي أن أتزوّجَ بالدوق فجأةً هكذا …!”
قطّبَ كايين حاجبَيهِ بعمق.
“لا تقولي لي …”
خرجَ صوتهُ خافتًا منخفضَ النّبرة.
“أنّكِ حقًّا تنوينَ لقاءَ ذلك الرّجلِ المسمّى هنري؟”
كيفَ عرفَ اسمَ شريكي في موعدِ التّعارف؟!
حدّقتُ فيه بذهول ، فإذا بكايين يتقدّمُ نحوي بخطواتٍ واثقة.
“ذلكَ الرّجلُ … هنري”
“…….”
“قبيح”
‘رآهُ أيضًا؟!’
إلى أيّ حدٍّ يعرفُ تفاصيلَ حياةِ السيّد هنري الّذي لم أره أنا بعد؟!
“أ ، أمّا أنا فلا أقيّمُ الرّجالَ بمظاهرِهم …”
منذ أن خُذلتُ من فيليكس ، أقسمتُ ألاّ أُعطيَ وجهَ الرّجلِ الوسيمِ قيمةً بعد الآن.
“و لِمَ لا؟”
اقتربَ كايين نحوي خطوةً واحدةً ، و كأنّه يُلاحقني بالسّؤال.
“قيّمي”
“……!”
ارتجفت عينايَ أمامَ وجهِ كايين الّذي لم يعدْ يفصلُه عنّي سوى شبرٍ واحد.
‘لقد أقسمتُ ألّا أضعفَ أمام وسامةِ الرّجال …’
لكنّ هذهِ الوسامةَ غيرُ عادلةٍ على الإطلاق!
“قلتَ بنفسكَ إنّ سكرتيرَ الدّوق يجب أن يبقى أعزبَ مدى الحياة!”
“… ذاك”
تردّدَ كايين للحظة ، كأنّه اصطدمَ بجدارٍ خفيّ.
لكن سرعان ما قال بوجهٍ وقح: “كنتُ أعني أنّه لا يمكنُكِ الزّواجُ من رجلٍ آخر. أمّا أنا فلا مشكلة”
أيّ منطقٍ هذا؟!
“يبدو من وجهكِ أنّكِ ترينَ الأمرَ سخيفًا”
“نعم!”
“ليس سخيفًا. أنتِ تحتاجين إلى زوج ، و أنا أحتاج إلى سكرتيرةٍ لا تستقيل. إذا جمعنا الأمرين ، فالزّواجُ بيننا هو الحلّ المنطقيّ”
“مستحيل!”
“استنتاجٌ عقلانيّ ، و مع ذلك لا تفهمين. حقًّا ، يصعبُ عليّ إدراكُ طريقةِ تفكيرِكِ”
نظرَ إليّ بدهشةٍ مصطنعة ، فأحسستُ بوخزةٍ في عنقي.
“لا …!”
تمسّكتُ ببقايا وعيي و بدأتُ أُحلّل الموقف.
لماذا يُصرُّ كايين إلى هذا الحدّ على الزّواجِ بي؟
‘هل يخشى فعلاً أن أتركَ برجَ السّحر بعد الزّواج؟ أم يكرهُ أن أُهملَ عملي إذا تزوّجتُ من غيره؟’
لكنّ مهما بلغت ثقتُه بي ، هل من المعقول أن يطرحَ نفسهُ شخصيًّا كعريسٍ لي فقط ليمنعَ زواجي؟
فجأةً تذكّرتُ مشهدًا سابقًا.
‘أجل. قالَ: سواء كنتُ مع المبتدئة بتلك الطّريقة أم لا ، فما شأنك أنت؟’
تلكَ اللّحظة حينَ احمرّت أُذناهُ خجلًا.
ظننتُ أنّني توهّمتُ حينها ، لكن الآن … أليست تلكَ المرّاتُ القليلةُ الّتي رأيتُ فيها أُذنيه تتورّدان أيضًا؟
‘هل يمكنُ أن …؟’
احتمالٌ واحدٌ ، مجنونٌ ، قفزَ إلى ذهني.
‘ربّما … لكن لا ، هذا غيرُ معقول …’
بلعتُ ريقي و جفّت شفتايَ.
لماذا يخفقُ قلبي بهذهِ السّرعة لمجرّدِ فكرةٍ كهذه؟
رفعتُ بصري نحوه بارتباكٍ ، و قلتُ بصوتٍ مرتجفٍ: “… دوق”
اهتزّت نهاياتُ صوتي ، فاستجمعتُ شجاعتي.
“هل ، هل يمكنُ أن تكونَ …”
جفّ حلقي كلّيًّا. شدّني توتّرٌ مؤلم في بطني. لم أفهم لِمَ أرتجفُ هكذا.
أغمضتُ عينيّ بإحكامٍ و نطقتُ بصعوبة: “تحبّـ ، تـ … تحبّني؟”
… تلعثمتُ ، فخرجت الكلمةُ غريبةَ النّغمة.
تجعّدَ حاجباه.
“ماذا قلتِ؟”
لو توقّفتُ هنا ، لظنّ أنّني شتمتُه فحسب.
فجمعتُ ما تبقّى من شجاعتي و قلتُ: “هل تحبّني ، دوق …؟”
“… ماذا؟”
اتّسعتْ عيناهُ و هو يحدّقُ فيّ.
لكن لم يأتِ أيُّ جواب.
“…….”
ثوانٍ قليلةٌ من الصّمتِ بدت و كأنّها دهر.
كلّما طالَ السّكونُ ، ازدادَ وجهي حرارةً.
‘ماذا أفعل الآن …؟’
أكانَتْ غلطة؟ هل سيسخرُ منّي؟ و مع ذلك … لم يكن سؤالي في غير محلّه ، أليس كذلك؟
في خضمّ ارتباكي ، تكلّم أخيرًا.
“و لِمَ يهمُّ ذلك؟”
“… عذرًا؟”
حدّقتُ فيه مذهولةً.
“هل يجبُ أن يكونَ الأمرُ كذلك؟”
“…….”
هل يجب أن يكونَ كذلك؟ ما الّذي يعنيه؟
تجمّدتُ في مكاني من شدّة الحيرة.
“هنري شوفالت لم تكوني تحبّينه ، و مع ذلكِ قبلتِ به كمرشّحٍ للزّواج”
قالها بوجهٍ باردٍ متصلّب.
“فلماذا تضعينَ شرطًا سخيفًا مثلهُ حينَ أكونُ أنا المعنيّ؟”
“سخيفٌ …؟”
اتّسعت عينايَ دهشةً.
“…….”
“…….”
سادَ صمتٌ كأنّ الوقتَ توقّف.
أنزلتُ نظري ببطءٍ.
شعورٌ غريبٌ اجتاحني.
كأنّ برعمةً لم تتفتّح بعد دِيسَت تحتَ قدمٍ قاسية.
حزنٌ فارغٌ غمرني.
بعدَ لحظاتٍ ، همستُ و أنا أنحني قليلًا: “… دوق. عرضُك اليوم كان شرفًا لي حقًّا ، و أنا ممتنّة”
لم أرَ ملامحَ وجهِه ، لأنّني كنتُ أحدّقُ بالأرض.
“لكنّني أعتقدُ أنّ الدّوقَ يجب أن يتزوّجَ سيدةً نبيلةً عظيمةً تليقُ به. أمّا أنا ، فأريدُ فقط حياةً بسيطةً مع رجلٍ عاديّ”
“…….”
“أعرفُ أنّك عرضتَ ذلك بدافعِ الاهتمام ، و أقدّرُه كثيرًا. لكنّني آسفة. لا أستطيعُ قبولَ عرضِك. سآخذُ مشاعركَ تلكَ فقط ، شاكرةً لكَ عليها”
***
فُتحَ البابُ فجأةً ، فالتفتَ آرون بابتسامةٍ مشرقة.
“سيدي! لقد عدتَ! كنتُ مشغولًا طوالَ الوقت بالبحث عن قاعةِ الزّفاف. أليسَ قصرُ الزّمردِ الإمبراطوريّ حلمَ جميع العرائس؟ ما رأيُك بالتّاريخ؟ يُقالُ إنّ عرائسَ أيّار هنّ الأجمل ، هل تظنّ أنّ الآنسة فريجيا تفضّلُ ذلك؟”
“آرون”
“نعم؟”
“اصمت”
أغلقَ آرون فمهُ فورًا بلا تفكير.
لكنّه سرعان ما اتّسعت عيناهُ و هو ينظرُ إلى كايين.
‘هه!’
كانتَ هالةٌ مظلمةٌ تنبعثُ من كايين كألسنةِ نارٍ شريرة.
‘ماذا ، ماذا يحدث؟!’
لا حينَ قتلَ كايين مئةَ وحشٍ بمفردهِ قربَ العاصمة ، ولا حينَ دمّرَ السّحرة بياناتَ أبحاثهم بخطأٍ غبيّ ، لم يرهُ آرون يومًا بهذا الغضبِ الهادئِ القاتل.
‘لا يمكنُ أن يكون …؟’
راودَ ذهنَ آرون احتمالٌ واحدٌ مرعب.
“سيدي ، هل ، هل يمكنُ أنّ الآنسة فريجيا …”
ابتلعَ ريقَهُ و قالَ بتردّدٍ: “رفضتْ عرضَ زواجِك …؟”
التعليقات لهذا الفصل " 74"