كان موكب مهرجان “حاكمة البحر” يُعرف بأنّه عرضٌ مذهل يُقدَّم باستخدام سحر الماء بطريقةٍ أخّاذة.
و بوصفي مرشدة الدّوق كايين في المهرجان ليومٍ واحد ، لم أستطع أن أدعه يفوّت هذا المشهد النّادر.
أسرعتُ إلى المكان المثاليّ الّذي كنتُ قد استعلمتُ عنه مسبقًا ، و قُدتُه نحوه.
“واااه …”
بدأ العرض ، و كان أكثر روعةً ممّا تخيّلت.
في أنفاقٍ شفّافةٍ من الماء نسجها السّحرة ، كانت أسماكٌ ملوّنة ، و قناديلُ بحرٍ ضخمة ، و سلاحفُ بحرٍ عملاقة تسبح بخفّةٍ و هي تمرّ أمامنا.
كان المنظرُ حقًّا ساحرًا و خياليًّا إلى حدٍّ يَخطف الأنفاس.
و في النّهاية ، مرّت حوريّةُ البحر جالسةً على عرشٍ عظيمٍ من الأصداف ، و هي تبتسمُ و تلوّحُ بيدها.
“واااااه!”
“الحوريّة جميلة جدًّا!”
“واااه! إنّه مذهل!”
كانت ردودُ الفعل حماسية إلى أقصى حدّ.
و انضممتُ إليهم أنا أيضًا ، أصفّقُ بحماسٍ حتّى كادتْ يدَي تؤلِماني.
“آه!”
كِدتُ أن أتعثّرَ في أحد المارّين ، لكنّ يدًا قويّة جذبتني فجأةً إلى الخلف.
“تماسكي”
كانت يدُ كايين تمسكُ بمعصمي بإحكام. نظرتُ بدهشةٍ إلى يده الكبيرة.
“أه ، شكرًا … شكرًا جزيلًا”
‘إنّها دافئة …’
على الرّغم من ملامحه الباردة ، كان جسده دافئًا بشكلٍ مفاجئ ، و كلّما شعرتُ بذلك انتابتني دهشةٌ غريبة.
بعد انتهاء العرض ، تفرّقَ النّاس كالموج المتراجع.
و لكي لا أنجرفَ وسط الجموع ، أمسكَ كايين بي بإحكام و قال: “هل استمتعتِ بما فيه الكفاية؟”
‘هاه؟’
كان في نبرته شيءٌ غريب.
رفعتُ نظري إليه بذهول ، ثمّ أدركتُ فجأةً شيئًا.
‘هل يُعقل أنّه أمرني بإعدادِ خطّ سير المهرجان فقط لأجلي؟’
هل لاحظ أنّني كنتُ أرغبُ في التمتّع بالمهرجان؟ كيف …؟ لا ، بل الأغرب من ذلك …
‘إنّه ليس ممّن يخصّص وقته الثّمين فقط لأنّ موظّفته أرادت التّنزّه قليلاً’
اختلطت الأفكار في رأسي.
بدا الأمر و كأنّني أحظى بمعاملةٍ خاصّة.
‘هل حقًّا … فعل ذلك لأجلي؟’
كنتُ أحتضرُ فضولًا ، لكنّ سؤالَه مباشرةً كان محرجًا للغاية ، بل و ربّما مخيفًا قليلًا.
و ربّما كنتُ أتوهّم فحسب. فهو إنسانٌ أيضًا ، و من الطّبيعيّ أن يرغبَ في التّعرّف إلى ثقافة المكان أثناء سفره.
وضعتُ يدي على صدري في محاولةٍ لتهدئة النّبض السّريع.
كان قلبي يخفق بعنفٍ غريب ، و دوارٌ خفيفٌ بدأ يربكني.
‘ربّما ما زالت آثارُ البوّابة السّحريّة من الأمس تؤثّر عليّ’
بما أنّ علينا العودةَ إلى العاصمة عبر البوّابة صباح الغد ، فقد بدا الوقتُ مناسبًا للعودة و الرّاحة.
لكنّ هناك شيئًا واحدًا ، شيئًا مهمًّا جدًّا ، لم ينتهِ بعد.
رفعتُ نظري بخفوتٍ إلى كايين و قلت: “هناك … مكانٌ أخير أودّ حقًّا أن أريه لك”
***
تشش—!
كنّا نقفُ على الشّاطئ ، حيث سيُقام بعد قليل طقسُ إطلاق الفوانيس العائمة على الماء.
إن كان الموكبُ ذروةَ مهرجان “حاكمة البحر” ، فإنّ هذا الطّقس هو قلبُه النّابض.
‘- هكذا كُتب في الكتيّب’
كان أمامنا بعض الوقت قبل بداية الحدث ، فبقيتُ أراقبُ البحرَ اللّيليّ بلا وعي.
كان البحر يمتدّ إلى ما لا نهاية ، متّصلًا بالسّماء السّوداء حتّى يكاد لا يُعرَف الحدّ بينهما.
مشهدٌ مخيفٌ بقدر ما هو فاتن.
تشش—!
“آه!”
تراجعتُ خطوةً إلى الوراء.
اندفعتْ موجةٌ أقوى ممّا توقّعت ، لتبلّل ساقَيّ حتّى منتصف السّاق.
رفعتُ أطرافَ فستاني بسرعة ، فسمعتُ خلفي صوتًا ساخرًا: “لا أظنّ أنّ طفلًا يرى البحرَ لأوّل مرّةٍ قد يلهو مثلك”
“لكن … أنا فعلًا أراه لأوّل مرّة”
قلتُ بابتسامةٍ محرجة.
“كنتُ سأراه في صِغَري مرّةً واحدة ، لكنّ الأمر لم يتمّ …”
خرجتْ الكلمات متردّدةً من فمي.
في العادة ، لا أتحدّثُ أبدًا عن الماضي ، لكنّ منظرَ البحر في اللّيل كان جميلًا و مهيبًا إلى درجةٍ جعلتني أتكلم كمن مسّه السّحر.
“كنتُ أرجو والديّ بشدّةٍ أن يأخذاني إلى البحر في عيد ميلادي”
كانت ذكرياتُ طفولتي باهتةً ، لكنّ تلك اللّحظة وحدها أتذكّرها بوضوحٍ غريب.
‘أريد أن أرى البحر ، أرجوكم! لا أريد أيّ هديّة ، فقط خذاني إلى البحر ، أرجوكما!’
‘آه ، البحر بعيد جدًّا يا صغيرتي. و أنتِ ما زلتِ صغيرةً ولا يمكنكِ استخدام البوّابة السّحريّة. إذا ركبنا العربة كلّ تلك المسافة ، ستتعبين و تبدئين بالبكاء’
التعليقات لهذا الفصل " 68"