1
الفصل الأول :
في منتصف منحدرٍ وعِرٍ من جبلٍ مجهول الهوية، مغمورٍ بعاصفةٍ ثلجية تتقاذف فيها الرياحُ جزيئات الجليد كما لو أنها شفراتٌ حادة أُطلقت من قوسٍ غاضب، كانت هناك امرأةٌ وحيدة، مجهدة الجسد إلى حدّ ينذر بالانهيار، يكسو الخدوش والسحجات كل جزءٍ ظاهر من بشرتها، تقف بصعوبة فوق البياض اللامتناهي الممتد حولها كبحرٍ لا شاطئ له.
“هـا…”
انساب من صدرها زفيرٌ متقطع، مضطرب، ترتجف ذراته في الهواء قبل أن تتحول إلى بخارٍ أبيض كثيف، بدا كأن روحًا شفافة انفصلت عنها لحظةً ثم ذابت بين أنياب العاصفة.
أين… أنا؟
سؤالٌ تردد داخلها لا كفكرة صافية، بل كصرخةٍ باهتة تصطدم بجدران عقلٍ يكاد يخلو من كل شيء.
ولماذا… لماذا أقف هنا، في أقسى بقعةٍ اختارتها الطبيعة لتكون مملكة للثلج؟
بهذه الملابس الرقيقة، التي لا تكفي لحماية جسدٍ من نسيم ربيع، فكيف يمكنها أن تمنع هذا البرد القاتل من التهام عظامها؟
لم تستطع فهم شيء.
لم يكن هناك منطقٌ يمنحها طوق نجاة، ولا حتى ذكرى وحيدة يمكنها التشبث بها.
لقد استيقظت—هكذا، بشكلٍ مفاجئ ومدوّخ—لتجد نفسها مرمية في هذا الجحيم الأبيض، محاطة بعزلة تامة، والشيء الوحيد الذي يلوح في الأفق هو ذلك القصر الرمادي العملاق خلف التلة… قصرٌ تعلوه طبقاتٌ متراكمة من الثلج، حتى بدا وكأن الزمن نفسه انحنى فوقه وغطّاه بثقل قرونٍ من الوحدة والخراب.
‘هل كنتُ… متجهة إلى هناك؟‘
لم تعرف.
الاحتمال ذاته بدا لها غريبًا حدّ الوجع، فداخل رأسها كان هناك فراغٌ أبيض… صامت… مرعب… يشبه امتداد الجبل نفسه.
“مَن… أنا؟”
مدّت يدها المرتجفة نحو الفراغ، وكأنها تطارد شيئًا هرب من قبضتها: اسمًا، ملامحًا، ذكرياتٍ مجرّد ذكريات… أي شيء يثبت أنها ليست شبحًا تتجوّل على هذه القمة الموحشة.
لكن—
ما إن حاولت لمس جدار ذاكرتها حتى—
〉……شا. يا أنفَ سَ من في الك و ن…〈
“أغ…!”
سقطت داخل ذهنها صورٌ لا شكل لها، أشبه بظلالٍ ممزقة تتباين ألوانها بسرعة مهولة، تدور، تتصادم، تتلاشى ثم تعود، كدوامةٍ ترفض الاستقرار.
وفجأة، العالم كله بدأ يدور…
وليس العالم فقط—بل روحها أيضًا.
〉……هذا… سأخذه أنا.〈
صوتٌ غريب… بعيد… كأنه قادم من بئرٍ لا قرار له.
تسلّل إلى أعماق ذهنها كسمٍّ بارد ينساب تحت الجلد.
رفعت يديها لا إراديًا لتقبض رأسها بقوة، وأغمضت عينيها كأنها تحاول منع يدٍ خفية من اقتلاع شيء بالغ الأهمية من قلبها.
كان هناك صدى… صدى ثقيل، مكروه… يأتي من مكانٍ لا يمكن لها تحديده.
أحدهم… أخذ مني شيئًا… شيئًا ثمينًا.
دقّ… دقّ… دقّ…
خفق قلبها بقوة غير طبيعية، كأنه يعترض، أو يذكّرها، أو يصرخ بمحاولة استعادة شيء ضائع لا ينبغي نسيانه.
مَن؟ ماذا؟ ولماذا؟
لم تستطع المضي أبعد من ذلك—
إذ فقدت توازنها فجأة، وهوت على ركبتيها فوق الجليد.
“آآغ…!”
〉أنتِ… يكفيكِ الآن. اِنسي. إلى الأبد.〈
سقط جسدها بالكامل، مستسلمًا.
تبعثرت خصلات شعرها الذهبي فوق الثلج كشريطٍ من الضوء انكسر،
وانتصب الألم داخل صدرها كرمحٍ مغروس حتى مقبضه.
رأسها ينبض بقوة، كطبول حرب على وشك إعلان بداية معركةٍ دموية.
وألمٌ هائل، جارف، اجتاح جسدها كما لو أنها تتعذب داخل كابوسٍ لا يريد الاستيقاظ.
لم يكن بوسعها التفكير بشيء، سوى رغبةٍ يائسة… موجعة…
أن يتوقف هذا الألم.
“ه… هَل مِن… أحد… مَن… ي… ساعِد…”
تكسر صوتها، تفتت كما تتفتت رقائق الجليد تحت قدمٍ ثقيلة.
كان موتها قريبًا… قريبًا بما يكفي لتشعر بظلاله تتلوّى حولها.
وفي عينيها—عينين غارقتين في الندى البارد—ارتسم خليطٌ كئيب من الخوف والضياع… وفقدٍ لا تعرف ماهيته… فقد نفسها.
سَابَك.
صوتٌ ما بدا وكأنه ذكرى اسم، أو صدى دعاء، أو نداءٌ من عالم آخر.
وفي تلك اللحظة بالذات—
تردّد وقع خطواتٍ خفيفة، خطواتٍ حريرية الملمس، تكاد تحترم الثلج فلا تزعجه.
“…؟”
ارتفع فوقها ظلٌ طويل، يتدلى منه زوجٌ من الأذنين المدببتين.
رفعت رأسها ببطءٍ، ببطءٍ قاتل، لترى كائنًا يقف فوق التلة، تحيطه السماء القاتمة والقصر الرمادي من الخلف.
كان مترددًا… متحفظًا… كأنه يريد الاقتراب ويخشاه في الوقت نفسه.
وحين انخفض رأسها ثانيةً، بدأ ذلك الظل يتحرك—
بخطواتٍ خفيفة، هادئة، تكاد تنساب كما ينساب نسيم الشتاء فوق الثلج.
سَف… سَف…
وظهر.
ثعلبٌ… لكن ليس ثعلبًا عاديًا.
بل مخلوقٌ فضي الفراء، يلمع بياضه حتى يكاد ينافس الثلج ذاته، يتلألأ بألقٍ هادئ، وعينان سوداوان واسعتان تمتلئان بفضولٍ طفولي جميل… ومهابةٍ خفية تُشعر الناظر إليه بأنه ليس حيوانًا، بل شيئًا مقدسًا.
ث… ثعلب؟
أم ملاكٌ نُسج من ثلجٍ وضوء؟
لم تكن تدري، لكن لقاءها به جعل قلبها يرتعش بشعورٍ غريب—
إحساسٍ يقول إن القدر ذاته ساقها إلى هذا المكان لتلتقي به… به بالذات.
وترددت الكلمات على لسانها، لا إراديًا، كأنها خارجة من عمقٍ مجهول داخل قلبها:
“أر… رجو… أعطني… حجر… الرُّوح… أ… أرجوك…”
دقّ… دقّ… دقّ…
Sickly ( بطن مدعوسة ) ᓚᘏᗢ, [18/11/2025 02:55 م]
خفق قلبها أعلى من صوتها، أعلى من العاصفة… وكأنه سينفجر من صدرها.
ما الذي… أقوله؟ ولماذا؟
لم تعرف.
مدّت يدها نحو الثعلب، حركةٌ يائسة… ثم انهارت تمامًا.
سقطت يدها فوق الثلج بصوتٍ خافت، وانطفأ البريق من عينيها.
“……”
ظل الثعلب يراقبها، بصمتٍ طويل.
طَرَف.
مدّ كفه الناعمة المغطاة بالفراء، ولمس يدها برفقٍ عجيب.
طرَف… طرَف.
لم تتحرك.
لقد فقدت وعيها بالكامل.
أخذ الثعلب يدور حولها بحذرٍ بالغ، يشتم أثرها، كأنه يبحث في رائحتها عن شيءٍ يعرفه… أو يتذكره.
“……؟”
كان يميل برأسه ببطء، وكأنه يواجه لغزًا يعرف نصفه فقط.
وحين طال التفافه، نظر إلى الثلج المتراكم فوق جسدها نظرةً مزعوجة…
ثم أطلق زفرةً بشريةٍ تمامًا.
زفرة تقول بوضوح: هذا… مزعج للغاية.
كان اليوم من أشد أيام الشتاء قسوةً ووحشية.
أهل القرية أسفل جبل فالتايون معتادون على تسمية هذا النوع من الأيام:
“اليوم الذي تغضب فيه مناجم الجليد.”
أما داخل القصر الرمادي الشاهق، كان جيروم تايلر، الخادم الوحيد في هذا المكان البارد، يتمتم دون توقف:
“ليت سموه يرفق بنا ويتوقف عن إسقاط الثلج قليلًا… قليلًا فقط…”
ارتعش جسده تحت شراسة الرياح وهو يمد يده ليغلق النافذة الواسعة.
لقد فتحها قبل دقائقٍ لتهوية الطابق الأول، لكن الوقت الآن لإغلاقها وإسدال الستائر الثقيلة.
كانت تلك إحدى مهامه اليومية الأكثر إزعاجًا:
تهوية القلعة، ثم إغلاق النوافذ بإحكام، كي لا يجرؤ أحد من خارج القصر على رؤية ما يحدث في داخله.
دووووغ—
اهتزت البوابة.
“صاحب السمو إيفان؟”
ما إن سمع جيروم صوت فتح البوابة حتى شهق بدهشة.
سموه، حين يخرج للتنزه، لا يعود قبل ساعاتٍ طويلة… أما الآن، فلم يغب سوى قليل.
غير معتاد.
غير مريح.
قبض جيروم—بعفويةٍ اكتسبها من كثرة التكرار—على عصا الممسحة الطويلة.
فصاحب السمو، حين يعود، يترك خلفه أربعة آثار أقدام.
وبالطبع… تحتاج إلى تنظيف فوري.
ورغم توسلات جيروم الدائمة لكي يعود سموّه إلى هيئته البشرية قبل الدخول، ولو لثوانٍ… كان يرفض دائمًا، بحجة أن “التحول بلا داعٍ إهدار للطاقة”.
يا له من سيدٍ لا يعبأ بمعاناة خادمه.
“ما الذي أعاده بهذه السرعة…؟”
ثم… رفع رأسه.
“أه… سموّ—”
وتجمّد صوته في حلقه.
لكن… الذي عبر عتبة القلعة لم يكن تلك الكتلة الفِضّية الوثيرَة التي اعتاد جيروم رؤيتها يتقافز في الظلال.
كان القادم شيئًا آخر… شيئًا كفيلًا بأن يجمد العالم من حوله للحظة.
توسّعت حدقتا جيروم حتى كادتا تفلتان من جفنيه، وهو يشاهد — في هذا الوقت الذي لا يدخله سوى الريح — رجلاً يسير بخطوات بشرية ثابتة بدلًا من هيئةٍ رباعية الأرجل.
سقطت عصا الممسحة من يده وهي ترتطم بالحجر بصوتٍ مكتوم، واندفع يركض نحوه وكأنه يخشى أن يكون ما يراه وهمًا.
الرجل الوسيم ذو الشعر الفضي، الذي هزّ رأسه بخفة فنثر الثلج عن خصلاته كما تُنفض السماءُ غبارها… لم يكن إلا سيّده، الدوق الأكبر، إيفان بالتـيون.
غير أنّ الشيء الذي كان يحتضنه بين ذراعيه…
لم يكن جزءًا من المتوقع.
ولا قريبًا من المنطقي.
بل كان امرأة مجهولة الهوية.
“م–ما… ما الذي جلبتمه معك يا مولاي…؟!”
أجاب إيفان بصوته المنخفض كصوت جليدٍ ينكسر ببطء:
“وجدتُها مُلقاة قرب القلعة.”
“قرب… القلعة؟! في هذه العاصفة؟!”
“نعم.”
جرى جيروم خلفه، مذهولًا، وعيناه مُعلّقتان على سيّده الذي يحمل تلك الغريبة كما لو كانت أميرة سقطت من قصةٍ قديمة.
غير معقول.
غير معقول إطلاقًا.
بعد الحادثة قبل خمس سنوات، بات إيفان باردًا كحواف السيوف، لا يهتزّ لرجاء ولا لدمعة، ولا يسمح حتى بظلّ بشري أن يتخطى أسوار القلعة — حتى أقرب الناس إليه لم يعودوا يرونه إلا عن بُعد.
فكيف… لامرأة مجهولة أن تعبر بين ذراعيه؟
هل يعرفها؟
هل هي من ماضيه؟
من عالمٍ لم يعرف عنه جيروم شيئًا؟
ومع ذلك، تجرّأ وسأل بصوتٍ متردّد يشبه خطوات طفل على الثلج:
“…من تكون يا مولاي؟”
“وكيف لي أن أعرف؟ اسألها حين تفتح عينيها.”
طبعًا. هذا هو إيفان.
الرجل الذي لو قيل له إن العالم يحترق لردّ بـ”حسنًا”.
الرجل الذي يستطيع تحويل أي حوار إلى صقيع خالص.
ارتجف بؤبؤا جيروم اضطرابًا.
أنت تقول إنك لا تعرفها… ومع ذلك تحملها كما لو كانت أثمن من الثلج الذي تحبه!
كانت المرأة ضئيلة الجسد بين ذراعيه، كأنها جزء من ضوء شتوي ضعيف، يضيع أمام ضخامة صدره العريض.
انسابت خصلات شعرها الذهبية بين ثنيات ردائها الرقيق، متدلّية فوق وجهها الشاحب؛ جمالها كان واضحًا رغم وهنه، جمالًا صامتًا تُثقل عليه نبرة البرد.
أما جسدها… فكان مرسومًا بجروحٍ وخدوش كثيرة، كأن الريح نفسها طاردتها لتمزّق ما بقي منها.
“هي… ليست ميتة، صحيح؟”
“لا. تتنفّس.”
قالها ببرودٍ لا يهتز، وكأن الأمر لا يعني شيئًا.
لم يفهم جيروم كيف تحوّل سيّده — هذا المخلوق الجليدي، هذا الـ”سويني” الذي لم يعرف الحنان يومًا — إلى رجلٍ يحمل امرأة بين ذراعيه بهذه الرقة الغريبة.
طفولته كانت سلسلة من المآسي الطريفة:
ظنّته الخادمات جرواً صغيرًا فعلقن شريطًا ورديًا على أذنه…
كبر قليلًا، فصار هدفًا لكل امرأة تراه بملامحه البشرية الساحرة…
وهرب من كل هذا بجفاءٍ يكسر القلوب.
وقبل بضعة أشهر فقط… اقتحمت امرأة من القرية القلعة وهي تصرخ:
“إن لم تتزوجني… فسأُزهق روحي الآن!”
وتلاها عرضٌ مليء بالتمثيل، والإغماءات المصطنعة، وفقدان الذاكرة…
يومٌ ملعون لا يريد جيروم إحياء ذكراه.
وهذه؟! أشبه بما سبق! ربما تتظاهر بالإغماء! ربما هي مطاردةٌ جديدة! ومتى كانت قد رأت سموّه أصلًا؟! لقد أغلقنا النوافذ كلها بعد تلك الحادثة!
حدّق جيروم في سيّده بنظرةٍ يائسة، يخرج منها دخان الغضب:
“يا سموّ الدوق! أرجوك عليغطِّ وجهك قليلًا! مجرد أن تراك النساء… يفقدن عقولهن ويلتصقن بك! وإذا ظهرت مطاردة أخرى، فمن سيعاني؟ أنا!”
رمقه إيفان بنظرةٍ تقول “اصمت”.
ثم قال ببرود أشد من الثلج:
“تلك المرأة من القرية دخلت القلعة لأنك قلتَ إنك أحضرت حساء البطاطا. وللأسف… كنتُ بهيئتي البشرية في ذلك الوقت.”
باردتيون — أرضٌ تلدها العواصف وتُرضعها الثلوج.
لا شيء فيها يؤكل سوى نبيذ الجليد.
أما الطعام الحقيقي… فيأتي من أراضٍ دافئة، ويُجبر جيروم على طهيه لسيّدٍ دقيق الذوق، لا يقبل إلا ما يشبهه: حادًا… باردًا… كاملًا.
صاح جيروم وقد فقد أعصابه:
“أنت يا مولاي من رمى الطبق في وجهي وقال إنه لا يليق بسموك! اضطررتُ لجلب الطعام من خارج القلعة! وبالطبع يجب استقبال الغرباء حين تكون بشكلك البشري! أيهما يجب أن يُخفى؟!”
تجاهله إيفان كليًا، وهو يمسح غرف الضيوف بنظرةٍ واحدة.
“هل هناك غرفة صالحة للاستعمال؟”
كانت مقابض الأبواب معلّقة بخيوط العنكبوت… طبيعي، فالقلعة مهجورة إلا منهما منذ سنوات.
“آه… نعم… سيد بنجامين لم يزرنا منذ مدة، لذا لم أنظّف هذه الجهة.”
تمتم إيفان ببرودٍ قاسٍ:
“جيروم… ما الذي تجيده بالضبط؟ لا طبخ… ولا تنظيف…”
تهدّم جيروم من الإهانة، وأشار خلفه بارتباك:
“ه–هل… نضعها في غرفتي؟”
“لا داعي. سأضعها في غرفتي أنا. سأنام في المكتبة مؤقتًا.”
ثم اتجه إلى جناحه الخاص، حاملاً المرأة بين يديه كما يحمل القدر شيئًا لا يحق لأي شخصٍ لمسه.
وجيروم… تجمّد مكانه.
حتى… جناحك الخاص…؟!
مستحيل! هل أكل شيئًا فاسدًا؟! أم أن هذه المرأة… ستفتح أبوابًا لم يعرفها قط؟
التعليقات لهذا الفصل " 1"