5
على وقع شعاع الشمس الأولى الذي كان يتسلل بخفة من خلال الشقوق الصغيرة في سقف المخزن، ذلك الشعاع الخافت الذي لم يكن قادرًا على إخفاء الغبار المتطاير في الهواء، ولم يكن قادرًا على مسح الشعور بالفراغ الذي احتل قلبها. استيقظت ليورينا وهي على نفس الأرض التي فقدت وعيها عندها في الليلة السابقة، لا تزال رائحة الرطوبة والخشب القديم تعانق أنفها، وتذكّرها بالضيق والقيود التي عاشتها هنا.
شعرت بالصدمة تتسلل إلى أعماقها حين أدركت أن لا أحد قد همّ بأن يتحقق من سلامتها بعد الضجيج والفوضى التي أحدثتها. لم يكن هناك صوت أحد، لا خطوات سريعة، ولا صراخ متأخر، ولا حتى نظرة قلق تتجه نحو مكانها. شعور الغربة والخذلان دبّ في قلبها فجأة، وكأنها كانت وحيدة تمامًا في عالم يجهلها.
نهضت ليورينا بصعوبة، كل حركة فيها كانت ثقيلة بسبب التعب والخوف، وأمسكت بمقبض الباب المكسور من جهتها. كان باردًا تحت أصابعها، وخشبيته القديمة كادت أن تتفتت عند أول ضغط، حاولت فتح الباب، لكنه ظل صامدًا، مغلقًا بإحكام وكأنه يرفض الإفراج عنها. الحقيقة أن ليورينا كانت دائمة التعليق في غرفتها بسبب أن مقبض الباب مكسور، لكنها قد اكتشفت في الماضي طريقة مبتكرة لفتحه، طريقة كانت تعتمد على مزيج من القوة والدقة والتركيز. ومع ذلك، حين جربت تلك الطريقة الآن، لم يتحرك الباب، ولم يفلح أي جهد، فارتفعت شفتاها في خيبة، وغضبها اجتاحها من الداخل، شعور مزيج من الغضب والمرارة والقلق في آن واحد.
لم تنتظر كثيرًا، توجهت إلى النافذة المكسورة، ورفعت يدها بحذر، فتحتها ببطء شديد حتى لا تتفاقم كسرتها، فهي تعلم جيدًا أن تلك الزجاجة الرقيقة لا تتحمل أي نفخة مفاجئة أو حركة عنيفة. وكل ثانية كانت تمرّ وهي تحرك الزجاج، شعرت فيها بالخطر وكأن كل شظية يمكن أن تنكسر وتقطع جلدها الرقيق. ومع ذلك، خرجت ليورينا بسلاسة من النافذة، وكأن جسدها النحيل خفيّ بما يكفي ليتهرب من أي عقبة، وطافت قدماها بخفة على الأرض الباردة، تتنفس الصعداء لأنها نجت من سقوط محتمل قد يكلفها ألمًا أكبر من مجرد كبسة صغيرة على أصابعها.
كان المخزن مطلًّا على مزرعة جايني، لذلك كانت ليورينا شديدة الحذر وهي تتحرك على الحشائش المتشابكة والنباتات الصغيرة. لم يكن خوفها من تدمير الزرع، بل كان خوفها من العقاب الذي تعرفه جيدًا من جايني، تلك المرأة القاسية التي لم تتردد يومًا في استخدام ضرباتها أو صراخها لتزرع الخوف في قلب أي شخص يقترب من ملكيتها. كل خطوة كانت محسوبة، كل حركة محسوبة، وأصابع قدميها الصغيرة تتلمس الأرض بعناية فائقة، حتى لا تترك أثرًا أو تهشم أي نبات بريّ. ومع ذلك، رغم كل القلق، خرجت ليورينا من المزرعة سالمة، شعورها بالانتصار الصغير يتسلل إلى قلبها مثل شعاع الشمس الذي بدأ يزداد قوة، تذكّرها بأنها قادرة على تجاوز العقبات، مهما كانت صعبة أو مخيفة.
تسللت ليورينا بخفة نحو المدخل، كل خطوة لها صدى خافت على البلاط البارد، والقصر يبدو أكبر وأكثر صمتًا مما تتذكر. الجدران شاهدة على عقود من الأسرار، والأبواب العالية تحيط بها كأنها تراقبها. المخزن الذي خرجت منه كان مفصولًا عن بقية القصر، لذا شعرت أنها تتسلل عبر متاهة مظلمة، وكل حركة فيها يجب أن تكون محسوبة.
حين وصلت إلى المدخل، توقفت للحظة، وأخذت تنظر أمامها. هناك، خرج ڤالار لتوه من القصر، واقفًا بهدوء، كتمثال من الحجر لا ينبس ببنت شفة. شعرت ليورينا بمزيج من الخوف والحذر، لكنها كانت تعرف أنها لا تستطيع التراجع. ملابس النوم على جسدها جعلتها تشعر بالضعف، لكنها حاولت أن تخفي ذلك خلف وقفة مستقيمة ونظرة مركزة.
تقدمت بحذر، كل عصب في جسدها مشدود، كل نفس محسوب، وهي تحاول قراءة ملامح وجهه ونبرة صوته. لم ينطق ڤالار، لم يصرخ ولم يمنعها، تركها تأتي إليه كما لو كان ينتظر ما ستقوله.
“والدي؟ هل لي بطلب؟” همست ليورينا، صوتها خجول منخفض، كأنه لا يريد أن يوقظ صمت القصر حولها.
رفع ڤالار حاجبيه، وقال باستغراب: “ماذا؟” كانت هذه المرة الأولى التي تطلب منه شيئًا، شعرت بحركة غريبة في صدرها، مزيج من توتر وفضول وحماس.
في داخلها، خطرت لها فكرة سريعة: “يمكنني استغلال حبه للعلم، سأتعلم كل شيء، وسأثبت له أن طلبي منطقي… إذا وافق، سأبتعد عن القصر وأفعل ما أريد.”
جمعت شجاعتها وقالت بصوت أكثر ثباتًا: “هل يمكنني الانضمام إلى المدرسة في عمر السادسة؟”
صمت لحظة، كأنه يفكر، ثم قال ببطء: “سوف أفكر، وسأخبرك بقراري على مائدة العشاء.”
ارتجف قلبها فرحًا، لم تكن تتوقع أن يسمعها بجدية. شعرت أن عالمها يتسع للحظة، وأن هناك فرصة حقيقية لتحقيق ما كانت تحلم به.
من الطبيعي أن يبدأ الأطفال الدراسة في عمر السادسة، لكن في عائلة آل نيرفيل، كل شيء مختلف. عادةً يبدأ أطفالنا في السابعة، أما أنا فأريد أن أتقدم قبل موعدي، لأثبت لهم أنني أستحق أن أبدأ مبكرًا، وأن حياتي لا تنتظر التقاليد.
كانت ليورينا تشعر بمزيج غريب من الحماس والخوف، قلبها ينبض بسرعة كأنه يحاول الهروب من صدرها في كل لحظة. كل خطوة تجاه والدها المفترض كانت تمثل لها تحديًا صغيرًا، وكل كلمة خرجت من فمها كانت محاولة دقيقة لاستكشاف حدود سلطته وحبه للعلم. فكرة أن والدها فكر بجدية فيما طلبته، حتى ولو كانت مجرد خطوة صغيرة، جعلتها تشعر بقوة لم تعرفها من قبل، كأنها فجأة أصبحت جزءًا من لعبة أكبر من عمرها الصغير، لعبة يمكنها فيها أن تخطط وتنتصر.
ابتسمت له ودّاعًا، لكنها لم تكن مجرد ابتسامة، بل كانت صرخة صامتة لكل من حاول قيدها أو إضعاف عزيمتها. دخلت الممر بجانب القصر بخطوات هادئة لكنها مليئة بالعزيمة، كل زاوية من المكان كانت مألوفة لها لكنها الآن تبدو أقل تهديدًا، أكثر قابلة للسيطرة، وكأنها تقول لنفسها: “أنا هنا، وهذا عالمي، حتى لو كان قصري مجرد سجن مقنع”.
فتحت ليورينا الباب الموصّد من الخارج بلا تردد، ودخلت غرفتها الصغيرة التي كانت المخزن في الأصل، لكن بالنسبة لها أصبحت ملاذها الوحيد. نظرت حولها للحظة، كل زاوية وكل رف وكل كتاب مكدّس على الأرض كان يحكي قصة صمتها الطويل. ثم شعرت بالحديث الداخلي يبدأ، كأن هناك شخص آخر داخلها يراقب كل خطوة:
سألت التي بداخلها بصوت خافت: “لما لم تطلبين ان يصلح الباب؟”
أجابتها ليورينا، همست لنفسها كما لو كانت تحادث ظلها:
“بالطبع لانه سيشعر انني طماعة، ولو رأى الغرفة فسوف يصدم، وسيعاقب جايني، وحينها ماذا تظنين ان جايني ستفعل بي؟”
صمتت للحظة، ثم جاء الرد الخفي: “اوه، حسنا ربما تضربك؟ لن يكون الامر كثيرا اذا فعلته وعوقبتي مرة لترتاحي”
“انتِ تظنين انها ستضربني فقط؟” قالت ليورينا بمرارة، “هيه، ستفعل ما هو أعنف، ربما تجلدني بالسوط، ثم تجعلني استحم بماء مغلي؟ او ربما أسوأ…”
توقف قلبها قليلا وهي تفكر في كل الاحتمالات، ثم جاء صوت آخر يشجعها: “يمكنكِ ان تخبري والدكِ عن ذلك!”
“لا تتغابين!” همست ليورينا بعزم، “انتِ تعلمين ان والدي يأتي الى المنزل مرة كل أسبوع، ولاول مرة سيحضر مرتين في نفس الاسبوع، وبالتأكيد سوف يظن أن هذه مضيعة وسوف يبدأ بتقليل زيارته إلى القصر…”
“وهكذا ستقل فرص مقابلتك له وسوف تستغل جايني هذه الفرصة، اعلم اعلم أنا أردت أن تتمسكين بالأمل…”
ابتسمت ليورينا لنفسها بخفة، شعرت بشيء من النصر الصامت: “حسنا، هناك أمل… إذا وافق والدي على أن أتعلّم مبكراً فسوف أبتعد عن المنزل لفترة طويلة ولن يتسنى لجايني أن تضربني كثيراً…”
“لكن ماذا ستفعلين إن رفض والدك؟” جاء الصوت الآخر قاسياً، متحفظاً.
“حسناً… يمكنني اتباع طريقة أكثر تعقيداً، ورفضه منطقي لأن نيلا أصلاً لم تدخل المدرسة بعد…”
“لما لم تدخلها؟”
“إنها مريضة، لذا تأخرت أكثر من الباقين، اتدرين عمرها الآن في أواخر السابعة…”
“اوه، رفض والدك منطقي جداً هكذا، إذا ماذا ستفعلين في هذه الحالة؟”
“حسناً… سوف أجعل كبار العائلة يعلمون بوجودي، وسوف أثبت لهم أنني ذكية… لن أحتاج لأحد!” قالتها ليورينا بعزم متصاعد، كأن الغرفة الصغيرة كلها كانت تستمع لها.
“حسناً… يبدو أنكِ لستِ بحاجة لمساعدتي، ليورينا”
“ابقِ حولي…” همست ليورينا لنفسها، وابتسمت ابتسامة نصر هادئة، وهي تشعر بثقل القرار ومسؤولية كل خطوة تنتظرها في عالم لا يرحم الأطفال.
وضعت ليورينا مسندًا صغيرًا أسفل باب غرفتها بعناية، لتضمن ألا ينقفل على نفسها أو يُغلق من الخارج، وأن تبقى حرة في تحركاتها دون أن يتجسس أحد عليها. كان قلبها يخفق بسرعة من مجرد التفكير في الاحتمالات المختلفة التي قد تحدث لو اكتشفت جايني أي حركة غريبة.
ثم دخلت الغرفة ببطء، ونظرت حولها للحظة إلى الزوايا المظلمة، ثم أخذت نفسًا عميقًا وغيرت ملابسها من ملابس النوم الممزقة إلى فستان يبدو جميلاً لكنه رث بعض الشيء، كرمز لصراعها المستمر بين الحذر والحلم، بين الواقع والفرصة. كل خيط في الفستان كان يذكرها بخططها الدقيقة وبكل الاحتمالات التي أحصتها في عقلها.
توجهت ليورينا بعد ذلك إلى مكتبة العائلة، المبنى المجاور لقصر جدها المفترض، مكان لم يشغله أحد سوى صمت الكتب القديمة وروائح الورق المعتق. كانت تلك المكتبة أكثر ما تحب في العالم، لكنها لم تُمنح الحرية لتستكشف العلم أو الأدب، بل قُصرت قراءتها على قصص الأطفال الرتيبة التي لم تُشبع فضولها أو تطلق مخيلتها. كان هذا الظلم المستمر دافعًا آخر يجعلها ترغب في الالتحاق بالمدرسة مبكرًا؛ هناك فقط، حين يُسمح للأطفال بالدراسة، ستفتح لهم المكتبة أبوابها كاملة بلا قيود.
سارت ليورينا بين الصفوف الطويلة من الكتب، تتلمس الأغلفة بيدها، وكأن كل كتاب تحمله هو خطوة نحو عالمها الخاص الذي لم يسمح لها أحد بدخوله بعد. فكرت للحظة، عينيها تتأملان كل زاوية من المكتبة الكبيرة، وابتسامة صغيرة ارتسمت على وجهها، إذ أدركت أنها تستطيع الاحتيال عليهم بطريقة أو بأخرى، وستستفيد من كل فرصة، مهما كانت صغيرة. ثم بدأت تبحث بين الكتب، بعينين تلمعان بالعزم والإصرار، تبحث عن ذاك الكتاب الذي سيضعها خطوة نحو الحلم الذي لطالما انتظرته.
وجدت ليورينا بين الرفوف كتابًا واحدًا فقط من النوع الذي طالما حلمت به، الكتاب الذي يحمل العلم مختبئًا بين صفحات تحكي قصص الناس، قصصًا تبدو بريئة للوهلة الأولى، لكنها في الحقيقة مليئة بالمعرفة التي تبحث عنها منذ زمن.
تقدمت نحو المسؤول بخطوات واثقة، لكنها لم تستطع كبح دقات قلبها السريعة. قالت بصوت حازم قليلًا، لكنه يحمل شيئًا من الخجل الطفولي:
“سأخذ هذا الكتاب.”
رفع المسؤول نظره إليها بعناية، وعيناه تفحصتا وجهها الصغير:
“أريني ما هو، آنستي الصغيرة.”
مدت ليورينا الكتاب بحذر، وكأنها تسلّمه سرًّا غاليًا، بينما يلمس إصبعه أغلفة الصفحات. نظر المسؤول إلى الكتاب مليًا، ثم أعاده إليها بلا أي تعليق إضافي، وكأن شيئًا بداخله لم يكتشف بعد.
“انه يناسب فئتك العمرية، لا مشكلة في أخذه، آنستي.”
ابتسمت ليورينا بخفة وقالت: “شكرا لك.” ثم، قبل أن تبتعد، شعرت بثقل المسؤولية يخف على كتفيها، وكأنها أخذت خطوة كبيرة نحو عالمها الخاص.
ما أن خرجت من المكتبة، اتسمت على محياها ابتسامة نصر عميقة، كانت ابتسامة مليئة بالفخر والسرور، وكأنها حققت أول إنجاز حقيقي في حياتها. همست لنفسها بهدوء، وكأنها تتحدث إلى أي شخص مستمع داخل عقلها:
“لقد فعلتها… لم يكتشف أحد أن هذا الكتاب يحوي العلم… لقد نجحت في الحصول على المعرفة مختبئة في قصص تبدو بريئة… لحسن الحظ أنني وجدت هذا النوع من الكتب… وسأستخدمه لأتقدم خطوة أكبر نحو حلمي.”
خرجت ليورينا من المكتبة، قلبها يرفرف من السعادة وكأنها تملك سرًّا كبيرًا، لكن لم يدم شعورها بالانتصار طويلًا، إذ اصطدمت فجأة بأحدهم.
سقطت على الأرض، امسكت رأسها بحذر وهي تتألم، ورفعت عينيها لتجد أمامها فابيان. عينيه الباردتان تحملان نظرة شر، وابتسامة ماكرة ارتسمت على وجهه.
“اوهو، اتت الجرذ إلى قدميها، هيهيهي…”
ارتجفت ليورينا قليلاً، فمهما كانت ذكية وواعية، فهي لا تزال طفلة، والخطر أمامها أصبح ملموسًا. حاولت النهوض والهروب، لكن فابيان أمسك بها بالقوة، وعينيه لم تفارقها، تحمل تهديدًا صامتًا.
“فابيان، لماذا أنت مترصد لي؟ لم أضايقك أبدًا في حياتي…” قالت بصوت متردد لكنه حاد قليلاً، محاولة أن تثبت له أنها ليست ضعيفة.
“أنا فقط أتسلى بتعذيب الجذران أمثالكِ”، أجابها بصوت مملوء بالتهكم.
غضبت ليورينا، وتقدمت فكرة ضربه بالكتاب في ذهنها، لكن عقلها كان أسرع من غضبها. إذا فعلت، فسوف يذهب الأمر إلى الجد، وسوف ينكشف مخططها بالكامل، فتراجعت قليلاً وقررت أن تضحي بالقليل لتكسب الكثير.
“فابيان، يمكنك ضربي لاحقًا…” قالت بهدوء، محاولًة كبح غضبها.
ابتسم فابيان ابتسامة شريرة، “ولماذا لا أفعل الآن ولاحقًا؟”
“لأن اليوم سيكون عشاء عائلي… سيجتمع كل أسر عائلة آل نيرفيل، حتى من أجدادنا الآخرين… وإذا رأوا أنني مصابة، فسوف يسألونني عن السبب، وعندها تحت الضغط لا أستطيع إلا أن أقول اسمك…”
توقف فابيان لحظة، ارتجف قليلاً وقال محاولًا إخفاء توتره: “ليس لديكِ دليل أصلا…”
ابتسمت ليورينا ابتسامة صغيرة لكنها مليئة بالقوة، “بلى، لدي… لدي الكثير”، وقالتها وكأنها تحديه في صمت، محاولة أن تجعل منه يدرك أن اللعب معها لن يكون سهلاً.
كانت ليورينا تتشبث بالتجمعات، عيناها تتنقلان بين الوجوه الكبيرة والصارمة، تعرف جيدًا أن فابيان، رغم وقاحته وجرأته، يهتم كثيرًا بمظهره أمام الجميع. كانت تلك المعرفة سلاحها الصامت؛ فهي تدرك أنه إذا تجاوز الحدود، فسيكون مصيره التأديب من قبل الجد ستول، وربما يُرسل إلى قرية بعيدة ليبدأ تعليمه هناك. في تلك الحالة، سينخفض نصيب والدته من الورث، وستتدهور سمعة عائلته، وكل ذلك كانت ليورينا تعيش على معرفته، متحكمة بخطوتها التالية.
كان هناك، من بعيد، شخص يراقب كل هذا بصمت، عينه تترقب كل حركة دون أن يبرز وجوده، وكأن المشهد بأكمله مجرد لعبة تكتيكية يُدرسها بهدوء.
ومع حلول المساء، تجمعت كل الأسر في القصر، وكان قلب ليورينا ينبض بسرعة، حماسة ومزيج من الخوف والفخر يمزقان صدرها. وصلت ليورينا وهي ترتدي فستانًا أحمرًا جميلًا، لم تطأه قدمها من قبل؛ في الحقيقة، كان هذا الفستان ملكًا لنيلا، لكنها لم تعد تريده، فأعطته لها.
الفستان، على الرغم من رقيه وكثرة التطريزات التي تزينه، كان مصممًا للتجمعات العائلية فقط، بعيدًا عن الحفلات، لكنه منح ليورينا شعورًا بالقوة والتميز في ذلك المحيط المليء بالوجوه الصارمة.
جلست في مقعدها، تتنفس ببطء لتحافظ على هدوئها، بينما الحماسة تأكلها من الداخل. كانت تتأمل الوجوه حولها، الصمت يكتسح المكان، حتى أنه كان بإمكانها سماع دقات قلبها، إلى أن بدأ والدها المفترض، ڤالار، بفتح الموضوع الذي طالما تمنته ليورينا: دخولها المدرسة.
“فيما طلبته يا ليورينا، أظن أنه لا يمكن دخولك المدرسة قبل اختك، لذا سأدخل اختك أولًا ثم أنتِ.”
صُدمت ليورينا، لكنها حاولت جاهدة ألا تظهر أي ردة فعل على وجهها.
“بابا، يمكنك إدخالها إلى المدرسة،” تحدثت نيلا بصوت ضعيف وواضح عليه التعب.
“لا يجب أن تدخل بعدكِ أو معكِ.”
شعرت ليورينا بظلم شديد يخنق صدرها، فتعليمها مرتبط بإخضاع نيلا أولًا. إذا لم تُدرّس نيلا، فلن تُتاح لها الفرصة للدراسة… شعرت بالغضب يشتعل في داخلها، لكنها كتمته، محافظًة على هدوء ظاهر.
“حسنًا… أشكرك يا والدي على التفكير في هذا الموضوع التافه بجدية. وأختي، أنا لم أستاء.”
كان واضحًا لكل من حولها الفرق في معاملة الأسرة لها، لكن لم يتجرأ أحد على التحدث، فڤالار الحفيد الأول للجد ستول، وللجد ستول سلطة كبيرة في العائلة.
بدأ الكبار بالتحدث، الأصوات علت في القاعة، لكن ليورينا كانت تغلي داخليًا، كل كلمة كانوا ينطقونها كأنها صاعقة على قلبها الصغير، لكنها تعلمت الصبر والتحكم.
انتهت ليورينا من تناول الطعام بسرعة، وعندما أرادت النهوض…
“انتظري…” همس صوت مألوف، صوت جدتها المفترضة.
“نعم، سيدة ستول؟”
نادتها ليورينا باسم “سيدة ستول” احترامًا للآداب، فالجدّة زوجة جدها المفترض ستول.
“ڤالار، إن طفلتك ذكية، وأنت تعلق مصير تعليمها بأختها؟ هل علّمتك هذه الطريقة؟”
“لا يا أمي، لكن-”
“لا أعذار. هي في الخامسة الآن، وإذا لم تدخلها المدرسة في عمر مبكر، سأجعل عمها يعلمها حتى تصبح جاهزة للدراسة.”
“سيدتي…؟”
“نعم، صغيرتي.”
“لماذا تفعلين هذا؟ أنتِ تعلمين أنكِ لن تجني شيء من هذا.”
“بلى.”
فهمت ليورينا مقصد جدتها المفترضة… شعرت بالغضب يتصاعد أكثر، تلك الحقيرة تريد التحكم فيها، تحويلها إلى مجرد قطعة بين يديها، خاتم يمكن قلبه كما تشاء. لكن ليورينا قررت أن تكبت غضبها، أن تبتسم للواجهة، وتساير تلك العجوز في هذا المسرح المعقد، مستعدة لأن تكون ذكية بما فيه الكفاية لتتجاوز أي عائق قد يضعه المستقبل أمامها.
شكرتها ليورينا بابتسامة مصطنعة، جعلتها تبدو كأنها لم تفهم ما حدث، ثم توجهت بخطوات متأنية نحو الخارج، محاولة الحفاظ على هدوئها الظاهري.
ولكن، لم تلبث أن اصطدمت بفابيان.
“غريب… لم أتوقع أن يخرج الجرذ من مخبئه!” قالها بسخرية، عيناه تتلألأ بالحقد.
“اخبرتك أنني لست جرذا!” ردت ليورينا، صوتها مرتجف قليلًا لكنها حاولت التحكم في نفسها.
كان إدوارد، ابن العم إيفان، يراقب المشهد بصمت من بعيد، كأنه يترقب اللحظة المناسبة للتدخل.
مشت ليورينا لتعود إلى الداخل، لكن فجأة…
شد فابيان شعرها بقوة، قائلاً بدهاء شرير: “إلى أين تظنين نفسكِ ذاهبة؟”
حاولت ليورينا الإفلات، لكن قبضته كانت متينة بشكل مؤلم. شعرت بالغضب يتصاعد في صدرها، غمست يديها في شعره محاوِلة تحرير نفسها، لكن بلا جدوى.
تقدم إدوارد بخطوات هادئة، بثقة واضحة، أمسك يد فابيان وأجبره على إطلاق سراح ليورينا.
سقطت ليورينا على الأرض وهي تبكي، دموعها مختلطة بالغضب والانتصار، ثم رفعت رأسها نحو فابيان، نظرة مليئة بالحقد والانتقام، وأطلقت صاعقة صغيرة من غضبها الطفولي: ضربته على بطنه بقوة، حتى اهتز وأطلق صوتًا يشبه صراخ طفل حديث الولادة.
“تستحق هذا…” همست ليورينا، وهي تعتلي ابتسامة انتصار مكتومة، ثم ابتعدت بهدوء، تاركة وراءها فابيان المذعور، وإدوارد الذي ظل يراقبها بعينين مليئتين بالإعجاب والدهشة، وهو يشاهد هذه الطفلة الصغيرة التي لم تعرف بعد حدود قوتها ودهائها.
عاد الجميع إلى قصورهم، وذهبت ليورينا إلى سريرها، منهكة، لكنها متأكدة أن فابيان لن يتركها تمر بسهولة بعد ما حدث بينهما. أخذت نفسًا عميقًا، واستلقت على السرير الرديء، محاولة أن تهدئ قلبها المتسارع.
نامت ليورينا بسلام، لأول مرة منذ الليلة الماضية، كأنها نسيت كل ما جرى… ولكن أثر الرعب لم يختفِ بالكامل من داخلها، كان يختبئ في زاوية مخيلتها، يراقب كل تحرك لها.
استيقظت ليورينا مبكرًا كعادتها، لكنها بقيت في السرير، تتظاهر بالنوم، لأن جايني بلا شك ستتذرع بأي سبب لضربها بحجة أنها أزعجتها.
بعد فترة من المكوث بصمت، وقع الطنين الحاد في أذنيها، صوت غير طبيعي جعل كل خلايا جسدها ترتجف. تألمت ليورينا بشدة، وكأن رأسها سُحق من الداخل، ولم تستطع حتى الحراك.
ثم بدأ الصراخ غير البشري يتردد في أذنيها، يقتحم عقلها، يملؤه بالرعب المطلق. دفعتها قوة الخوف للانقضاض من السرير، ولم تنتظر لحظة، خرجت من الغرفة، من القصر بأكمله، محاوِلة الهروب من الصوت المرعب الذي يطاردها بلا هوادة.
كانت ليورينا لا تزال ترتدي ملابس النوم، لكنها ركضت بأقصى سرعتها، وعيها مستيقظ بالكامل، عيونها متسعة، كل عضلة في جسدها مشدودة على أتم الاستعداد.
لم تكن لتفقد وعيها هذه المرة، لكن الأرضية الزلقة أو الانزلاق المفاجئ جعل قدميها تتراجع فجأة، فتعثرت وسقطت، وبدأ أنفها ينزف من قوة الصدمة والجهد. دمها امتزج بالخوف، لكنها لم تتوقف، كل خطوة كانت تعبّر عن إرادتها في النجاة، وكل نفس يخرج منها كان صرخة صامتة: لن أستسلم، لن يسيطر الرعب عليّ…
بشكل غريب، قدمي ليورينا حملتها نحو نفس الغابة، رغم أنّها كانت مقرفة، مليئة بالجثث المتحللة للحيوانات، ومخلوقات غريبة تتدلى بين الأشجار أو تتربص في الظلال. كل خطوة كانت تصدر صوتًا مخيفًا بين أوراق الشجر الجافة، وكأن الغابة نفسها تهمس لها تحذيرات صامتة.
رغم كل هذا، شعرت ليورينا بشيء غريب… شعور بالراحة. اختفى الصوت المرعب الذي طاردها منذ الصباح، وترك لها مساحة للتنفس، ولو للحظة قصيرة.
ثم سمعت صوت خطوات قادمة بين الأشجار، خافتة لكنها حازمة، وصوت يناديها بوضوح:
“ليورينا؟ ليورينا أين أنتِ؟”
تجمد قلبها للحظة. كان صوتًا بشريًا، مألوفًا، لكنه لم يُبد أي تعابير أو استغراب عن المشهد المقرف الذي حوله من جثث ومخلوقات، كأنها أمور عادية بالنسبة له.
تقدمت ليورينا ببطء، كل خطوة محسوبة، عينها تراقب الظلال، قلبها يخفق بسرعة، حتى رأت صاحب الصوت… كان إدوارد.
أدركت ليورينا سريعًا أن البقاء بالقرب منه سيكلفها الكثير، فهو سيبلغ الكبار أنها خرجت من القصر بملابس النوم وبدون أحذية، وأنها دخلت الغابة بنفسها.
لذلك، قررت بحذر شديد أن تحاول الخروج من الجهة الأخرى للغابة، حتى لو لم تكن تعرف الطريق جيدًا، فهي تعرف أن الخطر الأكبر الآن هو أن يُكشف أمرها قبل أن تتحرك بحكمة.
خرجت ليورينا بعد عناء طويل، خطواتها متعبة لكن حذرة، ومع كل خطوة، كان الصوت المرعب يتكرر أحيانًا، يخرج من بين الأشجار أو الظلال، وكأنه يراقبها، يختبر صبرها وعزمها، يذكّرها أن الغابة لم تفرّغ كل أسرارها بعد.
وفي نهاية شهر ديسمبر لعام 2016، خرجت ليورينا في فترة العصر، لتلعب مع بقية الفتيات في الحديقة. لكن بدلًا من مقابلة صديقاتها، صادفت ما لا ترغب برؤيته… مجموعة “الأسد الذهبي”.
كان هذا أسوأ توقيت يمكن أن تختاره ليورينا للخروج، ولسوء حظها، كانوا قد جلبوا معهم الحشرات التي عثروا عليها في قصر سيلفيا نيرفيل القديم والمهجور.
عندما رأوها، ارتسمت على وجوههم ابتسامة خبيثة، سريعة، جعلت ليورينا تدرك فورًا نواياهم الشريرة. حاولت أن تهرب، لكن قدميها كانت عاجزة عن الحركة، واللحظة التالية وجدت نفسها ممسكة من قبلهم.
ثبتوها في مكانها، وسحبوا الرداء الذي كانت ترتديه. وسرعان ما بدأت الحشرات بالانقضاض على جسدها، تلدغها في أماكن مختلفة، كل لدغة تسبب لها ألمًا حادًا ومفاجئًا، جعلها تصرخ بصمت وتحاول الإفلات بأي طريقة ممكنة.
حاولت ليورينا المقاومة، لكنهم كانوا أقوى، أكثر عددًا، وكل محاولاتها باءت بالفشل. بعد أن انتهوا من استفزاز الحشرات وإيذائها، تُركت ليورينا تبكي بحرقة، تتألم من لسعات الحشرات وتشعر بالعجز، دون أن تدري ماذا ستفعل بعد هذا الاعتداء الوحشي.
Chapters
Comments
- 5 - وسط الظلال كسرت القيود منذ 9 ساعات
- 4 - عناق الظلال - بداية الانكسار منذ 9 ساعات
- 3 - بين الأمل واليأس - دماء حارقة منذ 9 ساعات
- 2 - أولى الضربات منذ 9 ساعات
- 1 - بداية العاصفة منذ 5 ساعات
- 0 - قائمة الشخصيات منذ 5 ساعات
التعليقات لهذا الفصل " 5"