بعد أن انتهت صوفيا من تحميم ليورينا، وجهت لها صفعة أخيرة، فابتلت دموعها مع قطرات الماء الباردة التي غطت جسدها النحيل. الجو كان بارداً حد القسوة، والهواء يتسرب من النوافذ المكسورة. زحفت بخطوات مرتجفة نحو الغرفة المهملة التي قضت فيها الكثير من سنوات من حياتها، غرفة لم تكن سوى مخزن رطب ومظلم، أكوام من الغبار والخشب المتعفن، وفي زاويته سرير مهترئ يئن كلما وضعت جسدها الصغير فوقه.
جلست على السرير الممزق، تلمس الخرقة البالية التي كانوا يطلقون عليها بطانية، وبدأت تفكر: “لِمَ يعاملونني هكذا؟ هل فعلت شيئاً خاطئاً؟ لماذا أنا وحدي من يُعامَل بهذه القسوة؟”
عيونها اعتادت على الظلام، حتى صارت ترى ملامح الأشياء بوضوح. فجأة! دوى صوت الباب وهو يُفتح بعنف.
تشيووووييييسسس!!!!
طاااااككك!!
دخلت جايني، زوجة ڤالار، وصرخت بصوتٍ مزق السكون: “ما الذي تفعلينه أيتها الغبية؟”
ارتجفت ليورينا وردت بصوتٍ مرتعش: “أ-… أنا لم أفعل شيئاً…”
حدّقت جايني إليها بعينين مليئتين بالغضب، ثم قالت: “إذا لم تأتي للعشاء الليلة، فلن ننتظرك.”
ارتجفت الطفلة، وأجابت بصوتٍ خافت: “ح-… حسناً، لن أفوته.”
أغلقت جايني الباب بقوة ارتج معها الحائط، تاركة ليورينا مصدومة، جالسة وحدها في ظلام الغرفة.
مع مرور الوقت، بدأت تفكر: “هل يجب أن أعتذر لإلكساندر؟ ربما كنت أنا المخطئة… ربما إن اعتذرت سيتغير كل شيء.”
حلّ الليل، ودُعيت إلى العشاء. كانت جائعة للغاية، فخرجت مسرعة وجلست على الطاولة. لم تنتبه أن بقية العائلة لم يجلسوا بعد، وعندما بدأت بتناول الطعام، اقتربت جايني بسرعة، وصفعتها قائلة: “يا قليلة الحياء! أتأكلين قبل البقية؟ سأؤدبك!”
صفعة أعقبتها عقوبة أخرى: لم يُسمح لها إلا بتناول بقايا الطعام. تناولت فتاتاً لا يكفي طفلة بحجمها، وعادت إلى غرفتها جائعة، باردة، متسخة، قبل أن تغرق في نوم متقطع مليء بالكوابيس.
مع صباح اليوم التالي، استيقظت بعزمٍ متردد:
“سأعتذر لإلكساندر. ربما إن فعلت سيسامحني.”
خرجت تبحث عنه، والأرض ما تزال مبللة بالطين من مطر الليلة السابقة.
هناك، في الساحة، كان إلكساندر مع جماعته: الأسد الذهبي.
إلكساندر
ديمتري
فابيان
دارين
ماكسيم
فيليكس
كانوا يضحكون بصخب، يتفاخرون بما وجدوه في قصر سيلفيا نيرفيل المهجور: حشرات ضخمة ونادرة، وربما سامة. وما أن وقعت أعينهم على ليورينا، حتى تبدلت ضحكاتهم إلى سخرية.
“هيه، ما الذي تفعلينه هنا أيتها الجرذ؟ أما اكتفيت من فضيحة الأمس؟” قال فابيان.
ارتجفت ليورينا وهمست:
“أ-… أنا لست جرذاً… فقط أردت أن… أعتذر لإلكساندر…”
ضحك ديمتري بصوت مرتفع:
“لم نسمعك! قوليها بصوت أعلى، يا جرذ!”
رفعت رأسها قليلاً، بعينين دامعتين:
“أ-… أنا آسفة، إلكساندر…”
اقترب فابيان منها، قبض على ملابسها ورفعها عن الأرض كدمية صغيرة:
“إلكساندر، ماذا أفعل بها؟”
ابتسم إلكساندر ابتسامة باردة وقال:
“اضربوها.”
وبدأت الضربات تنهال. كل واحد منهم أطلق قسوته على جسدها النحيل. صرخاتها اختلطت بضحكات إلكساندر العالية:
“نهاهاهاهاهاهاااهاهاهاهاهاااا!!”
عندما انتهوا، تركوها ملقاة في الوحل، غير قادرة على الحركة. مرّت نيلا وستِيلا، فساعدتاها على العودة إلى المنزل. لكن ما إن رآها الكبار حتى استقبلوها باتهامات جديدة، صرخات وعقاب آخر، وكأنها هي المخطئة دوماً.
عادت إلى غرفتها، وأغلقت الباب، وسقطت تبكي بحرقة:
“لِمَ يفعلون بي هذا؟ ماذا جنيت؟”
وأخيراً فقدت وعيها من شدة الألم.
استيقظت مساءً، ضعيفة، وذهبت إلى العشاء. هذه المرة كان ڤالار حاضراً، يجلس بهيبة وصمت. جلست ليورينا متوترة، تلتقط ملعقتها بيدٍ مرتجفة. لم تعرف كيف تستخدمها جيداً، فانتبه ڤالار وقال ببرود:
“ألم تتعلمي كيف تأكلين بعد؟”
احمر وجهها، وتلعثمت:
“أ-… أسفة… لم أتعلم ذلك بعد…”
ابتسمت جايني بخبث وقالت محاولة التغطية:
“لا تقلق يا ڤالار، إنها صغيرة بعد… وسأعلمها قريباً.”
“يجب أن تبدأي بتعليمها، لقد كبرت.” قال ڤالار وهو ينهض، قبل أن يترك المائدة.
بمجرد خروجه، هوت صفعة قوية على وجه ليورينا. صرخت جايني:
“أتجرئين على إحراجي أمام زوجي؟”
بكت ليورينا وهي تحاول الدفاع عن نفسها:
“ل-… لا! لم أقصد…!”
لكن لا أحد استمع لها. تركوها وغادروا، بينما عادت إلى غرفتها، تساءلت وهي تبكي:
“هل أنا ابنتهم حقاً؟ أم أنني مجرد دخيلة؟”
لم تتحمل قلبها أكثر، فهربت من القصر، تركض بلا هدف، فقط تبعد نفسها عنهم وعن قسوتهم. كانت تبكي، عيناها محمرتان، ودموعها تختلط مع الطين تحت قدميها.
لكن الحظ السيئ لم يتركها. صادفت جماعة الأسد الذهبي مجدداً، لكن هذه المرة من دون إلكساندر.
“أنظروا من أتى!” صرخ فابيان.
ضحك ديمتري: “ههههه، أما زلت لم تتوبي؟”
حاولت أن تهرب، لكن فيليكس سد طريقها:
“إلى أين تظنين نفسك ذاهبة، أيتها الجرذ؟”
صرخت:
“أ-… أتركوني!”
ضحكوا بصوت عالٍ، ثم قال دارين محذراً:
“كفى، إن رآنا الكبار سندخل في ورطة.”
دفعها فابيان بقوة، فسقطت أرضاً، قبل أن يضحك ويقول:
“نفهمك… نستطيع ضربها لاحقاً.”
استغلت الفرصة وركضت بكل ما أوتيت من قوة. دموعها تتطاير خلفها، أنفاسها تتسارع، حتى وجدت نفسها في غابة مظلمة.
توقفت لتلتقط أنفاسها، رفعت رأسها، وإذا بها أمام أشجار عملاقة ملتفة، أصوات غريبة تتردد في الأرجاء، همسات، حفيف أوراق لا يتوقف، وظلال في كل مكان، وأشياء معلقة على الأشجار.
التعليقات لهذا الفصل " 3"