من قلب فصل الشتاء القارس، وتحديدًا يوم الأربعاء، جاءت إلى العالم ليورينا، فتاة جميلة كالقمر، تحمل في عينيها بريقًا غامضًا يوحي بأن حياتها لن تكون عادية أبدًا.
الهواء كان مشبعًا بالبرودة والرهبة، وكأن العالم كله شعر أن مولودة جديدة قد أشرقت عليه. صمت الغرفة وُلد معه هذا البريق، صمت يحوي بين طياته وعودًا لم تُكتب بعد، وذكريات ستُشكل كل لحظة من حياتها القادمة.
بدل أن تسمع ليورينا ضحكات عائلتها ومداعبتهم لها، وصل إلى أذنيها منذ اللحظة الأولى إشمئزازهم. لم يكن هناك دفء، لم يكن هناك احتضان أو كلمات حبّ، فقط نظرات حادة ورفض صامت.
بالطبع، لم تستطع ليورينا الرد أو فهم ما يحدث-فهي مجرد طفلة حديثة الولادة، ضعيفة، بلا حول لها، لكنها حملت معها منذ أول لحظة وعيها الداخلي شعورًا بالغرباء حولها، بالبرودة والرفض، وكأن العالم بأسره بدأ ضدها.
بدأت ليورينا تكبر شيئًا فشيئًا، وزاد جمالها ونعومتها، لكنها شعرت دومًا بالبرود من عائلتها. في البداية لم تدرك، فهي كانت صغيرة جدًا. ومع وصولها لعمر 3 سنوات، بدأت المعاناة الحقيقية: بدأت الضربات، الصرخات، والرفض، وكل دموعها لم تجد من يلتقطها أو يهتم لها.
ثم وُلدت الأبنة الصغرى لعائلة آل نيرفيل، التي كانت مدللة، تتلقى كل الحب والاهتمام، على عكس ليورينا التي تُركت وحيدة، مهمَلة، محطمة، بلا أي دفء. كطفلة صغيرة، شعرت ليورينا بالغيرة والحقد، شعور طبيعي لأي طفل محروم من الحب.
تقدمت ليورينا نحو الطفلة، نظرت إليها بعينين مليئتين بالحيرة والغضب:
“لماذا لا تشبهني؟ هل سأحصل على الحب إذا فعلت ذلك؟”
بكل ضعف، وقفت على أطراف أصابعها، ومدّت يدها الصغيرة نحو القماش الذي غُلفت به الطفلة المدللة، وسحبته بكل قوتها الضعيفة، دون أن تفهم بعد غباء تصرفها ونتائجه.
كانت دموع ليورينا مختلطة بالغضب والظلم، شعور الطفل المهمل، المرفوض، الذي يعيش في عالم يرفضه، عالم يجعل طفلة صغيرة تشعر بأنها ماتت وهي حية، رغم أن قلبها ما زال ينبض بالحياة والحنين للحب الذي لم يأتي أبدًا.
ما إن وقعت تلك الطفلة، حتى علت أصوات صراخها المدوية في أرجاء الغرفة، كأنها صدى كل ما عانت منه ليورينا منذ ولادتها. هرع الجميع بسرعة، يركضون للاطمئنان عليها، لكن عندما رأوا المنظر، توقفت كل حركة، وكل نظرة اتجهت نحو ليورينا الصغيرة.
وبلا تردد، صفعوها بقوة وعاتبوها، كلماتهم كانت كالجلد على روحها الصغيرة: “لماذا فعلت هذا؟”، “هل نسيت نفسك؟”.
في تلك اللحظة، شعرت ليورينا بعظم فوات الأوان، وبدأت تدرك الدرس القاسي: ما فعلته لن يجلب لها الحب الذي طالما حلمت به، بل أتى بها إلى التعاسة والخذلان. كان قلبها الصغير ممتلئًا بالندم، لكنه كان أيضًا لحظة ولادة وعي داخلي، قوة، ومرارة لن تُمحى بسهولة.
الدموع لا تزال على وجنتي ليورينا، آثار الصفعات والضرب محفورة على جسدها الصغير، لكن أعظم الجراح كانت في عقلها. كل فكرة، كل سؤال عن تلك الطفلة التي كانت معها حينها، يحترق داخلها كشرر لا ينطفئ. كانت تتساءل بلا نهاية: هل هي بخير؟ هل تتذكرني؟ هل يشعر أحد بما أشعر به؟
بعد تلك الحادثة، أصبح آل نيرفيل أكثر برودًا وجفاءً معها، كل ابتسامة اختفت، كل كلمة حنان لم تعد موجودة. كل حركة منها كانت موضع اشمئزاز، كل نظرة وجهها المملوءة بالبراءة كانت تُقابل بالازدراء. لم تعد طفلة عادية، بل أصبحت رمزا للضعف والخوف في أعينهم، ورمزًا للصبر الموجع في قلبها.
ومضت السنوات على نفس الوتيرة القاسية، حياة مليئة بالاهمال، التجاهل، والصدمات الصغيرة والكبيرة التي تشكلت كطبقات من الجليد حول قلبها الصغير. كل يوم يمر كان درسًا جديدًا في التحمل، كل ابتسامة كانت تُبتلع بصمت، وكل محاولة لفهم ما حولها كانت تصطدم بجدار القسوة العائلية.
ثم جاء ذلك اليوم… اليوم الذي سيصبح نقطة التحول، البداية الفعلية للحياة القاسية لليورينا، اليوم الذي سيتغير فيه كل شيء. لم تكن تعرف بعد أن هذا اليوم سيضعها على طريق مليء بالتحديات، الألم، والاختبارات التي ستكشف عن قوتها الحقيقية، وتعرفها على حقيقة عالمها بشكل لا يمكن العودة عنه.
كانت الرياح تعصف خارج المنزل، المطر يعزف على الأسطح الطينية، والهواء بارد، لكنه محمل بشيء آخر، شيء لم تشعر به من قبل… شعور أن شيئًا كبيرًا على وشك الحدوث، شعور بأن حياتها لن تعود كما كانت.
ليورينا، ببراءتها الممزقة، لم تكن تعلم أن هذا اليوم سيكتب أول صفحة من قصة قاسية ومليئة بالصراع، صراع بين الطفولة المفقودة، والقسوة التي فرضها عليها العالم من حولها.
التعليقات لهذا الفصل " 1"
يعمرييي ، تعالي لعندييي