معلمة الروضة الإستقراطية تواجهُ يومًا عصيبًا - 18
لا شيء.
مهما أطلتُ النظرَ في الحديقةِ، لا شيء هناك.
حتى عندما فحصت الأطفال واحدًا تلو الآخر تحسبًا لأي احَتمال، لم أجد شيئًا أيضًا.
أغمضت عينَيها بقوة ثم فتحتهما، وأخفضت رأسها.
كانت يدها الباهتة ترتجف بشدة.
تدفق العرق البارد المثلج على ظهرها، مما جعلها تشعر بالقشعريرة.
“أين أنتِ بالضبط…”
كانت لحظة خاطفةً.
لحظةً غادرَت فيها المعلمةُ المساعدةُ إلى الحمام.
لحظة كانت فيها منشغلة برعاية طفل آخر.
في تلك اللحظة، اختفَتْ.
في الخامسةِ من العمرِ هي تلك السن التي يُمكن أن يختفي فيها الطفل في غمَضةِ عين.
كان عليها أن تَجدها في أسرعِ وقتٍ مُمكن، ولو بثانيةٍ واحَدةٍ.
القصر الإمبراطوري واسع، وكلما مر الوقتُ، سيزدادُ الأمر صعوبة.
لم يكنَّ لديها وقت لتظل مذهولةً هٕكذا.
حسمت إيفينا أمرها بسرعة، وشرحت لمعلمة الفصل الآخر بصوت واضح:
“معلمة، قد يشعر الأطفال بالقلق، لذا أرجوكِ استمعي دون أن تنزعجي كثيرًا.
لقد اختفى أحد أطفال صفي.”
“ماذا؟ اختفى؟ ما الذي تعنين…!
آه، لا… أعتذر حقًا. هَل هذا صحيح فعلاً؟”
“نعم. سأطلبُ مساعدةَ فرقةِ الفرسان الإمبراطورية أولاً.
هل يمكنني أن أعهد إليكِ بأطفال صفي حتى أعود؟”
“بالطبع. اذهبي بسرعةٍ، معلمة!”
مع وجود المعلمة المساعدة أيضًا، يفترض أن يكون الوضع هنا على ما يرام.
في مثل هذه اللحظات، كان عليها أن تحافظ على رباطةِ جأشها.
لحسن الحظ، كان هناك من يمكنها طلب المسَاعدةَ منه.
ركضت بسرعة نحو مكتب الإدارة التعليمية داخل القصر الإمبراطوري.
خرجَ الفيكونت ، الذي سبق أن رافقها في جولة بالقصر، يمشي ببطء بوجه متعب ومرهق.
ابتسم لإيفبنا رغم ملامح وجهَه التَي تبدو وكأنهُ قد يموتُ من الإرهاقِ في أي لحظةٍ.
“معلمة إيفينا، لم نلتقِ منذ مدةٍ.
آه، أعَتذر إن كانت رائحَتي مزعجة، لم أتمكنُ من الاستحمامِ بسبب العمَل الإضافي لبضعةِ أيام.
على أي حال، ما الذي جاء بكِ لزيارتي؟
هل هناك مشكلة في الزيارة الميدانية؟”
“الفيكونت ، هل يمكنني طلب مساعدة فرقة الفرسان الإمبراطورية؟”
لم ترد المعلمةُ على تحيتهِ ، وهذا بحد ذاته كان أمرًا غير عادي.
بالنسبة لموظف، من المفترض أن تكون عبارات التحية الرسمية حاضرة مهما كانت الظروف.
هل حدث شيء فعلاً؟
شعر الفيكونت بشيء غير طبيعي من هذا الأمر وحده، فأصلح نظارته وسأل:
“ما الذي يحدث؟ ليس من الصعب إرسال الفرسان، لكن عليّ أن أعرف الوضع لتحريكهم.”
“لقد اختفى طفل.”
“ماذا؟”
اتَسعت عيناه المرُهقتاَن كالسمكةِ الميتة فجأةً.
شعر وكأن النعاس الذي كان يغزوُه تلاشى في لحظةٍ.
هل كانت معلمة من النوع الذي يمزح بمثل هذه النكات المرعبة؟
لا، لم تكن كذلك.
فهم الوضع بسرعةٍ وأجابَ:
“سأبلغ قائد الفرقة الثالثة فورًا.
إنه مسؤول عن الأمن، لذا سيجهزُ فرقةَ بحثٍ على الفورِ.”
“شكرًا لك. هل يمكنني أن أطلب أن تتم عملية البحث بهدوءٍ حتى لا يخاف الأطفالُ الآخرون؟”
“بالطبع. لا تقلقي.”
“وشيء آخر… من حيث المبدَأ، يجب إبلاغ ولي الأمر عندما يختفَي طفل.
أود الاتصال بالقِصر مباشرةً.”
“سأتصل عبر جهاز الاتصال.”
“شكرًا.”
انحنت إيفينا بسرعة ثم استدارت وركضت مجددًا.
رغم أن فرقة البحث ستتحرك، لم يكن بإمكانها البقاء مكتوفة الأيدي.
“أين أنتِ، ميرين…”
كان قلبها يخفق بسرعةٍ.
في هذا القصر الإمبراطوري الشاسع، هل حدث شيءٌ ما؟
هل هي تبِكي الآنَ؟
لا بد أنها خائفة جدًا وهي بمفردها.
اتجهت خطواتها المتعجلة أولاً نحو البيتِ الزجاجَي.
صوت الماء يتدفق والطيور تصدح.
ششش، هوور، هوور.
جعلها تشعر بالقشعريرة بشكل غريب.
كان الشعور مختلفًا تمامًا عن المرات التي تجولتَ فيها مع الأطفال.
تقدمت خطوة خطوة وهي تصرخ:
“ميرين، هل أنتِ هنا؟ إذا سمعتيني، أجيبي! إنها المعلمة إيفينا!”
لا ردَ.
لا صوت بكاء طفلة، ولا جواب يعود إليها.
فجأة، لمحت شيئًا صغيرًا يطفو في أعماق الشلال الاصطناعي.
شيء يمزج بين الأصَفر والأخِضر…
“حذاء…؟”
نعم، كان ذلك بلا شكٍ حذاء ميرين.
ابيضّ وجه إيفينا.
“لا، لا!”
إذا ما اصطدم ذلك الجسد الصغير بتيار الماء المتساقط بعنف،
أو إذا ما سقط في بركة مظلمة لا يصلها قدم شخص بالغ…!
لم يكن هناك وقت للتفكير.
اندفعت إلى الماء متجاهلة يدها المرتجفة، تقفز إلى الشلال “تشاب، تشاب”.
“ميرين…! لاه لاا لا ، ميرين!”
تخيلتْ أسَوأ الاحتمالاتِ.
الحذاء الصغير الذي يثبت تلك التخيلات موجودٌ هناك أيضًا.
وجهت قدميها نحو الحذاء دون تردد.
مر وقت طويل منذ أن لمست قدماها الأرض
.
تدفق الماء إلى أنفها بلا رحمة.
خطوة أخرى فقط.
في اللحظة التي مدّت فيها يدها نحو الحذاء،
“ما الذي تَفعلينه الآنّ!”
أمسكها شخص ما من خصرها بقوة.
شعرت بدفء حارق يكاد يكون ساخنًا يحيط بها بعنف، يدفع الماء البارد بعيدًا.
“أهـ، ها…!”
تعلق صوت تنفس غاضب يشبه العض على الأسنان في أذنيها.
شعرت بحركةِ صدرهِ العنيفة ترتفع وتنخفض خلف ظهرها.
سحبها رجل، تبرز عروق ذراعه بشدة، خارج الماء بقوة كمَن ينقذها.
“كح، كح! أخ!”
سعلت إيفينا وأخرجت أنفاسًا متقطعة وهي تدير رأسها.
كان هناك يوهان دايسات، ربما أكثر شحوبًا منها، بوجهٍ مختلفٍ تمامًا عن لطفهِ المعتَاد.
“يو-يوهان… أقصد، السيد ولي الأمر…؟”
“ما الذي كنتِ تفكرين فيه…!”
كانت نظراته مليئة بالغضب، كما لو أنها قادرةٌ على تمزيقِ تيار الماء.
‘هل كان قادرًا على إظهار مثل هذا الوجه…؟’
بينما كانت إيفينا تتأمل ذلك في ذهول، ضغَط يوهان على جبهتهِ بيده كما لو كان يحاول قمعَ مشاعرِ غيرَ معتادةٍ.
عندما فتح عينيه مجددًا، عادت حدقتاه الزرقاوان الضيقتان إلى طبيعتهما.
خرج صوته هادئًا وناعمًا كالمعتاد، لكنه أخَفض قليلاً:
“أعتذر عن الصراخ، معلمة.
لقد صُدمت عندما رأيتكِ هناك…
إنه عمق قد يموت فيه المرء غرقًا دون أن يكون ذلك مفاجئًا.”
“آه، لم أكن أقصد ذلك، لكن حذاء ميرين هناك…”
“نعم، لم تكوني تلعبين في الماء بالطبع. هل أصبتِ بشيء؟”
كان نبرته لطيفة ومهذبة، لكن كلماته تحمل شوكًة خفية.
لكن إيفينا كانت في حالة ذهول شديدةً لدرجةِ أنها لم تلتقط ذلك.
“لا، لا. أنا لم أُصب. لكن حذاء ميلين هناك…”
“إنها مجرد ورقة شجر، معلمة. انظري.”
“ماذا؟ كح!”
“ورقة شجر.”
ربت يوهان على ظهر إيفينا التي كانت تسعل باستمرار، وقال بهدوء:
تبعت إيفينا صوته الناعم وأدارت رأسها ببطء.
عندما استعادت رباطةَ جأَشها وركَزت، رأت أن ما ظنته حذاء ميرين كان مجرد ورقة شجر فعلاً.
“أنا، كان يجب أن أكون أكثر يقظةً، لكنني لم أتحقق حتى مما رأيته…”
عضت إيفينا شفتيها التي تحولت إلى اللون الأرجواني من البرد، دون أن تلاحظ أن عيني يوهان دايسات تتجهان نحو شفتيها.
عندما عاد الدم إلى شفتيها، شعرت وكأن الضباب في عقلها بدأ يتلاشى.
أول ما فعلته إيفينا بعد استعادة رباطة جأشها هو الانحناء ليوهان:
“أنا آسفةٌ جدًا، حقًا. كان يجب أن أكون أكثر حذرًا، لقد كنت مهملةً.
سأتأكد من إعادة ميرين بأمان، وسأتحمل المسؤولية.”
“نعم، دعينا نبحث معًا.”
“لقد تم إرسال فرقة بحث في القصر أيضًا… ماذا؟”
“معًا.”
كم مرة كررت سؤالها اليوم؟
أجابها الرجل مرات عديدة دون أن يظهر أي انزعاجٍ.
رفع يوهان شعره الفضي المبلل المتدلي كالخيوط، وابتسم ابتسامةً خفيفة.
ترددت إيفينا أمام مظهره المقدس والحازم في آن واحد.
“أن أطلب من ولي أمر ربما يكون منهارًا أن يبحث عن طفلته… لا، بالطبع هو قائد فرسان.
إنها أخته، لذا لن يتمكن من الانتظارِ بهدوء.”
لكن يبدو أن ترَددها جعله يظن أن معلمة أخته ترفض مساعدته.
أخذ يوهان عباءته الرسمية التي خلعها مسبقًا ولم تتبلل، ولفها حول جسد إيفينا المبلل بعناية، ثم أضاف:
“أعرفَ أن هذا قد يكون وقحًا مني، معلمة.”
“…”
“لكنكِ كنتِ حتى الآن كشخص بالغ تُرك على حافة الماء.
أنا قلق أيضًا. وعلينا أن نجد ميرين.”
شخص بالغ تُرك على حافة الماء.
ليس كلامًا خاطئًا.
وعلى الرغم من هدوئه الدائم باستثناء لحظةِ إنقاذها، لا بد أنه ليس مرتاحًا تمامًا.
أخته مفقودة الآن.
لم يكن هناك وقت للجدال هنا، حتى ذلك كان مضيعة للوقت.
أومأت إيفينا برأسها:
“نعم، السيد ولي الأمر. إذن أرجو مساعدتكَ.
أولاً، البيت الزجاجي…”
في
تلك اللحظة بالذات،
ظهرت نبتة ضخمةً فجأةً من مكانِ خارجَ مجال رؤيتها.
لا، لم تكن كلمة “ضخمةً” كافية لوصفها.
كانت نبتة غريبة تمتد بارتفاع يصل إلى سقف البيت الزجاجي.
“معلمة إيفينا!”
فتحت النبتة فمها على مصراعيه، ثم عضتَ ذراع إيفينا بقوةٍ ورفعتَها عاليًا في الهواءِ.