كانت معلّمة الآداب الجديدة لإفريلين امرأة صارمة الملامح ، و كانت تفحص بدقّة هيئة جسدها.
و على عكس سيدريك الذي وُلِد و ترعرع في القصر الإمبراطوري ، كانت إفريلين قد تدحرجت في مكان لا يختلف كثيرًا عن مكبّ نفايات ، و لم تحصل على لقب “الأميرة” إلّا عندما بلغت الثانية عشرة.
و ما سُمِّي أميرة لم يكن في الحقيقة سوى فتاةٍ كبرت في علّيةٍ لا تختلف عن أماكن الخادمات ، تعيش على الحذر و تقرأ الوجوه.
لم يكن من الممكن أن تمتلك ما يُسمّى بالرقيّ المترف الخاص بالعائلة الإمبراطورية.
و هذا ما ظهر في كل الدروس السابقة.
“…….”
غير أنّ معلّمة الآداب اليوم ضيّقت عينيها و هي تمسح إفريلين بنظرة صاعدة و هابطة.
‘ما الأمر؟’
كانت كتفاها و ظهرها مستقيمة ، و زاوية ذقنها ، و المسافة بين قدميها … كل ذلك لم يكن كمثل السابق.
وضعية ثابتة تمامًا.
و ليس المقصود أنّها “مثالية أميريًّا” من منظور الآداب.
بل كانت أشبه …
‘وضعية مقاتل؟’
وضعية اعتاد عليها النبلاء الكبار الذين يجيدون فنون القتال ، و كانت هيئة إفريلين الآن مطابقة لها.
فقد تساوى ثِقل جسدها بانسجام على قدميها المتباعدتين ، و ظهرُها المستقيم و صدرُها المنبسط يشيان بقوة قادرة على الدفاع عن النفس أو مهاجمة الآخرين.
“هل سبق أن تعلّمتِ استخدام السيف؟ أو البندقية ، أو أي سلاح آخر …؟”
و عندما طرحت معلّمة الآداب سؤالها ، نقلت إفريلين نظرتها الباردة نحوها.
و شعرت المعلّمة لوهلةٍ بانقباضٍ في قلبها.
حتى أكثر بنات النبلاء غرورًا و جنونًا لم يستطعن إطلاق مثل تلك النظرة.
نظرة حادة كأنّ فيها زئير وحش.
“لقد قرأتُ فقط ، و تعلّمتُ بعض فنون الدفاع عن النفس”
“آه …”
و انتقلت عينا المعلّمة إلى كتاب فنون الدفاع المفتوح على مكتبها ، ثم عادت إلى النظر إليها.
هل يعقل أن تتمكّن من إتقان وضعية مقاتل إلى هذا الحدّ … من مجرّد قراءة كتب؟
كانت إفريلين متقنة بدرجةٍ تصعّب تصديق الأمر ، لكن المعلّمة أزاحت الشكوك من رأسها.
فهي ليست مخوّلة بالسؤال عن حياة إفريلين مهما ساورها الفضول.
“من الأفضل أن ترخي عضلاتكِ و تزيلِي التوتّر. فعند ذهابكِ إلى قصر الدوق ، سيحيط بكِ جنود أكفّاء لحمايتكِ دائمًا ، فلا داعي للقلق”
“… نعم”
“و الآن ، هذه هي الوضعية اللائقة بدوقة المستقبل. وقارٌ و رصانة …”
و مدّت يدها لتصحيح وضعية جسد إفريلين—
جمعت قدميها المتباعدتين ، و خفّضت ذقنها المرتفعة قليلًا ، و أرخت كتفيها ليبدو مظهرها أكثر لطفًا.
و لمّا رأتها تتأقلم بسهولة مع الوضعية الجديدة ، ابتسمت و هزّت رأسها.
“إنّها مثالية”
**
و لم تمضِ لحظات على خروج معلّمة الآداب ، حتى انفتح الباب بقوة ، و دوّى وقع خطواتٍ حادّ.
و قد استطاعت إفريلين أن تتعرّف بسهولة على صاحب هذه الخطوات غير المكترثة.
“…….”
الضيف غير المرحّب به الذي اقتحم غرفة النوم دون استئذان كان وليّ العهد سيدريك.
و عندما رأت نظراته المتعجرفة و الباردة و هي تهبط عليها من الأعلى ، نهضت إفريلين من مكانها.
لعلّه جاء ليحاسبها على ما حدث في جلسة الشاي الأخيرة.
فهي لم تُظهر له ذلك المظهر “البهيميّ” الذي يريده.
اقترب سيدريك نحوها خطوة بعد خطوة ، ثم مدّ يده و رفع ذقنها.
ثم نظر مباشرة في عينيها.
ارتعشت أطراف أصابعها دون وعي.
فقد تداخل وجهه ذي العينين الحمراوين مع وجه الصيّاد المتوحّش الذي يرتدي قناع “القلعة”.
*بالفصول الماضية حطيت اسمه روك (عن قطعة الرخ بالشطرنج و هي نفسها القلعة) فمن أغير الإسم حسب السياق «روك» أو «القلعة ، من نحكي عن الصيادين» بكونوا نفس الشخص.
ذاك الذي قُتل على نصل سيفه معلّمُ المبارزة الخاص بدافني.
و على عكس “الفيل” الذي كان يستمتع بمطاردة الصغار و الضعفاء ، كان “القلعة” يستمتع بصيد الأقوياء و الأشدّاء.
و كان الصيد الذي تحلم به صقوره أكثر من أي شيء … دافني نفسها.
“أنتِ تثيرينني حقًا”
تسلّل صوته المنخفض ، الذي امتزج بنبرة ضاحكة ، إلى أذنها.
و عيناه الحمراوان كانتا تغليان برغبة عنيفة تخالطها شهوانية ظهرت عند قياس جسدها سابقًا.
“تستمرّين في تحدّي أعصابي”
لكن إفريلين كانت تعلم أنّه لا يستطيع فعل شيء لها.
فهي “بيلاتوكزين” و تمتلك سمًا قاتلًا في جسدها.
و لم يكن يعلم أنّها قد وسّعت نواتها كثيرًا و بدأت تتحكّم بسمّها بالفعل.
كان ينظر إليها كما لو أنّها تفاحة سامّة مغرية ، جميلة و لامعة ، لكن من يأكلها يموت.
“سمعتُ … أنّك تصطاد البشر”
فتحت إفريلين شفتيها و هي لا تحيد بنظرها عنه.
و بما أنّه قد أتى بنفسه ، فقد رأت أنّ هذه فرصة مناسبة للسؤال.
“أخبرتني دافني أغريف ، تلك التي رميتموني في السجن معها ، أنّك أنت هو روك”
اهتزّت حاجبا سيدريك عند سماع الاسم ، ثم ازدادت حدّة نظرته و هو يشدّ قبضته أكثر على ذقنها.
“هل قالت في السجن شيئًا عني؟”
و بلهجة متعجّلة لا تشبهه ، طرح عليها سؤاله كأنه يطالب باعتراف.
“أعني … ما الذي قالته عن روك؟”
و بدت إفريلين مرتاحة قليلًا ، فكرت أنّ ذكر اسم دافني كان قرارًا صائبًا.
“… نعم”
“و ماذا قالت؟ هل كانت ترتجف خوفًا لمجرّد التفكير بي؟”
كان في عينيه الحمراوين لمعان من نشوة و توقٍ متعطّش.
و بينما كان يتحدّث عن امرأةٍ ميتة و يكشف بلا تردد عن انفعاله الوحشي ، شعرت إفريلين بقشعريرة جديدة من عمق جنون سيدريك.
فوليّ العهد سيدريك إيسكار دو مارشيليس ، وريث الإمبراطور الوحشي ، سيكون مجرم مجازر يفوق أباه قسوة.
و سلالة مارشيليس سلالة تستحقّ الإبادة.
“لكن قبل ذلك … إن أجبتَ سؤالي ، سأجيبك”
ارتعشت حافة حاجبيه عند صوتها الذي بدا كأنه يقترح صفقة.
و كانت عيناه المتوتّرتان تبحث فقط عن أجوبته هو ، كأنه يريد خنقها فورًا ، لكنّه تراجع قليلًا عندما رأى ثباتها.
“اسألي”
و أكثر المشاهد التي علقت في عقلها من رحلات الصيد البشري التي نجت منها مرارًا … كان ذلك المشهد: والدها الذي تلقّى رصاصة في صدره من الخلف.
و الصيّاد الذي مسح بُطءًا فوهة البندقية التي قتله بها.
… النايت.
“إدوين كرويل بلايز ، الرجل الذي سأتزوّجه … هل كان واحدًا من صيّادي البشر؟”
و بعد بضع ثوانٍ من الصمت ، ارتسمت ابتسامة غامضة على شفتي سيدريك.
و نظر طويلًا إلى إفريلين بنظرة أربكتها من طولها.
ثم ، بعد صمتٍ طال حتى شعرت بالقلق ، فتح فمه أخيرًا.
“نعم”
هبط قلبها بقوة.
إذًا … إدوين هو “نايت” الذي قتل والدها.
ارتعشت قبضتها المغلوقة ، و تذوقت طعم الدم القديم يعود إلى فمها.
و سمعت صوت سيدريك يتابع ، دون أي تفاصيل إضافية: “الآن دوركِ. ماذا قالت عني تلك المرأة؟”
كانت عشرات السيناريوهات حول كيفية قتل إدوين كرويل بلايز تعبر ذهن إفريلين بسرعة.
و لم تبح بأي كلمة حتى تجعّد جبين سيدريك و اشتدّت قبضته على ذقنها ، فيما كانت عيناها البنفسجيتان تلمعان بنية القتل.
و قبل أن يزمجر مجددًا ، فتحت فمها و قالت و هي تنظر إليه مباشرة: “بين الصيّادين …”
و كانت عينا سيدريك تشتعلان بعنف واضح ، ينتظر كلمتها القادمة بشغف وحشي.
“كانت تقول إنك … تافه”
لكنّ الكلمات التالية التي خرجت من فمها جعلت عينيه الحمراوين ترتجفان بشدّة.
فهي لم تكن تنوي أبدًا إرضاء هذا الوغد.
“و قالت إنك شديد التافه ، لدرجة أنّك لا تبدو حتى رجلًا … كك—”
فقاطعها سيدريك و هو يقبض بقوة على عنقها.
و تشوّه وجهه بشحوبٍ بارد ، و امتلأت عيناه برغبة جامحة في كسر عنقها فورًا.
غير أنّ إفريلين لم ترتجف ، بل رفعت حاجبيها و هي تحدّق فيه مباشرة.
و انفلتت من شفتيه شتيمة خبيثة: “يا ابنة العاهرة الحقيرة”
و كانت عيناها البنفسجيتان تحدّقان به بثبات ، كأنّها فقط تروي ما قيل.
“موتي”
و ضغط على عنقها بقسوة.
كانت كلماتها السابقة حتمًا كذبًا صريحًا.
فمن المستحيل أن تكون دافني قد احتقرته.
تلك المرأة كانت سترتجف حتى التبوّل خوفًا منه.
“…….”
و الآن ، كانت بهيمة قذرة – على حدّ نظره – تجرؤ على السخرية من أميرٍ سامٍ.
و ازداد غضبه حتى كاد يبلغ حدّ الانفجار ، و لم يرد سوى قتلها ، لكنّ تنفّسه المتسارع هدأ أخيرًا ، و استعاد بالكاد شيئًا من عقله ، فأرخى قبضته.
“هاه … هه …”
و بينما كانت تلتقط أنفاسها بصعوبة ، رمقها بنظرة حادّة لثوانٍ ، ثم استدار فجأة.
و بينما كانت تحدّق بظهره و هي تلهث ، مرّت على شفتيها ابتسامة باردة.
فهي تعلم أنّ سيدريك و إن كان وغدًا ، إلا أنّه ليس أحمقًا بما يكفي ليؤذيها مباشرة قبل تنفيذ مخطّطه الكبير الذي عمل عليه طويلًا.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 8"