5
بسبب السّمّ لا أستطيع حتّى أن أبني لياقةً بدنيّةً أساسيّة.
لكن هذا لا يعني أنّ عليّ أن أقف مكتوفة اليدين.
كانت وظيفة القلب و الرئتين تتدهور باستمرار بسبب السّم ، لذلك لم يكن بالإمكان القيام بتدريبٍ عنيف.
و لكن كان بالإمكان على الأقل أن تُليّن هذا الجسد الهزيل الّذي لم يُستخدم بشكلٍ صحيح طوال حياتها.
في كلّ مرّة تُدير فيها خصرها أو تمدّ ساقيها إلى الأمام ، كان الألم الحادّ يتدفّق عبرها حتّى يدور رأسها من شدّته.
و لكن مقارنةً بالتّدريبات الّتي تلّقتها عندما كانت جنديّة ، كان هذا كلّه محتملًا.
فتحت إفريلين النّافذة على مصراعيها ، و بدأت تُليّن عضلاتها المتصلّبة و هي تنظر إلى شمس الصّباح الصّاعدة.
و بعد لحظة ، سُمع صوتُ طرقٍ من الخارج.
ثمّ انفتح الباب ، و ظهرت خادمتان و معهما رجلٌ.
كانت الخادمتان هما من وبّختهما بالأمس عند السّلم ، أمّا الرّجل الّذي يرتدي ثيابًا مدنيّة فكان رجلًا في منتصف العمر لم تره من قبل.
و لأنّ هذا المكان قصرُ الإمبراطورة ، فقد كان على الأغلب من حرّاسها الخاصّين.
“أه … لقد جلبنا الفطور يا صاحبةَ السّموّ”
كانت الخادمة الّتي أمسكتها من ياقة ثوبها بالأمس تحمل صينيّة ، و دخلت الغرفة و رأسها منخفضٌ تمامًا دون أن تجرؤ على النظر إلي.
و في ذاكرة إفريلين ، كانت هؤلاء الخادمات لا يُحسنّ حتّى التّحية و يتفوّهن بكلامٍ لا داعي له ، لكن يبدو أنّ ما حدث بالأمس كان درسًا قاسيًا لهنّ.
أمّا الخادمة الأخرى فدخلت و هي تحمل زجاجةً يبدو أنّها مليئة بعصير.
و كان الرّجل الواقف عند الباب ، و قد باعد بين قدميه بعرض كتفيه ، ينظر إلى إفريلين كما لو أنّه يُراقبها.
“…….”
وضعت الخادمتان وجبة إفطارها المتواضعة على الطّاولة و تراجعتا بضع خطواتٍ و هما منكمشتان.
اقتربت إفريلين ببطء و جلست أمام المائدة و أمسكت الملعقة.
كانت قائمةُ الفطور تتكوّن من حساء الفطر العادي ، و سلطة ، و خبز ، و لحم بطّ ، و عصيرٍ من الفواكه و الخضار.
كانت كلّ المكوّنات تبدو طازجةً و نضرة ، لكنّ تصرّف الرّجل كان كافيًا لتفهم شيئًا مهمًّا.
عليها أن تأكل هذا الفطور ، و عليه أن يُقدّم تقريرًا عمّا إذا فعلت أم لا.
و هذا المشهد في ذاكرة إفريلين لم يكن مختلفًا يومًا.
‘لا شكّ أنّ السّمّ قد رُشّ فيه’
و لكي لا يخرج السّمّ من جسد بيلاتوكزين بل يبقى فعّالًا فيه ، يجب حقنها بالسّمّ بانتظام.
على الأغلب كان في هذا الطّعام كمّيةٌ كبيرة منه.
و لو أنّ شخصًا لا يملك مناعةً تذوّقه و لو قليلًا لمات فورًا.
كانت حاسّة تذوّق إفريلين شبه مخدّرة ، و مع ذلك استطاعت أن تشعر بسهولةٍ بأنّ صلصة السّلطة ليست عاديّة.
تناولت الطّعام كما اعتادت ، دون أن تُظهر أيّ ردّة فعل.
و صوت قضم الخضروات كان يملأ الغرفة الهادئة.
و استمرّ الرّجل المحدّق بها بوجهٍ متجهّم في مراقبتها حتّى أنهت أكثر من نصف الوجبة ، ثمّ استدار و غادر.
و بعد أن ابتعد ، وضعت إفريلين الشّوكة ببطء.
فتكلّمت إحدى الخادمتين بحذر: “نعتذر ، لكن يجب أن تتناولي كلّه …”
“إن كان يؤلمكِ تركه ، فكلّيه أنتِ”
و قبل أن تُكمل كلامها ، ارتسمت على شفتي إفريلين ابتسامةٌ لزجة.
“……!”
شحبت ملامح الخادمة بصورةٍ واضحة.
لم تكن إفريلين تنوي تناول ما تبقّى من هذا الطّعام.
لقد أكلت أمامه عمدًا تحت رقابته ، لكنّ إدخال المزيد من السّمّ في جسدها سيُسرّع انهياره ، و يُعيقها في توسيع نَفَس الأورا و نُواة القوّة.
“هل تخافين؟”
فانكمشت كتفا الخادمة.
كانت هذه الفتاة هي الأخرى ممّن كانت يُطلقن ألسنتهنّ دون تفكير بالأمس ، و يبدو أنّ الخوف صار يُكمّم أفواههنّ الآن.
<هيا ، تناوليه كلّه يا سيّدتي الأميرة>
في ذاكرة إيفريلين ، كانت الخادمات الوقحات يُجبِرنها دائمًا على إنهاء الطّعام.
لكنّ إفريلين الآن لم تعد من أولئك الّلواتي يُمكن مخاطبتهنّ بسهولة.
كان خوفٌ غريزيّ يتسلّل إلى أعماقهنّ.
ضحكت إفريلين بخفّة و هي تنظر إلى وجوههنّ المتوتّرة ، ثم نهضت من مقعدها.
و سارت بخطواتٍ هادئة نحوهنّ.
و خرج صوتُها ببرودة: “هل أخبركما بطريقة التخلّص من الطّعام المتبقّي؟”
فرفعت الخادمتان رأسيهما و نظرتا إليها.
ثمّ هزّتا رأسيهما ببطء.
لو تخلّصتا منه بطريقةٍ خاطئة ، سينكشف أمر السّمّ.
“الأمر هو أنّ …”
**
لم يمرّ سوى بضعة أيّام حتّى فتح الأمير سيدريك باب غرفة إفريلين فجأة دون أيّ طرق.
و التقَت عيناه بعيني شقيقته الصّغرى ، الّتي كانت ترتدي فستانًا أبيض و توقّفت عن القراءة لتلتفت إليه ببطء.
هبّت الرّيح الدّاخلة من النّافذة المفتوحة قليلًا ، فحرّكت خصلات شعرها الأشقر المتلألئ.
كانت بشرتها بيضاء تكاد تكون شفّافة ، و رقيقة المظهر ، لكنّ عينيها الأرجوانيّتين كانتا واضحتين كالجواهر.
تقدّم سيدريك بخطواتٍ واسعة و قد تجمّدت حاجباه ببرود ، ثم وقف أمامها.
كان بإمكانها شمّ رائحة الدّم الطّازج الّتي جلبها معه ، و تساءلت أيّ صيدٍ قام به اليوم.
“إفريلين”
و بلا تردّد ، مدّ يده و أمسك بعنقها ، رافعًا إيّاها عن مقعدها بالقوّة.
و رغم قبضته على عنقها ، بقيت إفريلين تنظر إليه بهدوء.
كان الغضب يتلظّى في عينيه الحمراوين بوضوح.
“لقد مات صقري”
“و ماذا في ذلك؟”
“يقول الطّبيب البيطري إنّه تسمّم”
رفعت إفريلين كتفيها بلا مبالاة ، كأنّها تدعوه للكلام أكثر.
فضاق سيدريك قبضته على عنقها أكثر و أطلق زمجرةً باردة: “هذا من فِعلك”
يبدو أنّ الطّبيب أخبره بنوع السّمّ.
و لمّا تأكّد أنّه نفس السّمّ الّذي يطعمونها إيّاه يوميًّا ، اندفع إليها فورًا.
أخذ نَفَسها يضيق من قوّة قبضته ، لكنّ إفريلين لم تُبعد نظرها عنه أو تطلب العفو.
بل ظلّت تنظر إليه بثباتٍ لا يتزعزع.
“لا شكّ أنّه من فِعلك”
كانت قد رأت صقره عدّة مرّات عندما أُلقي بها في غابة الصّيد بصفتها دافني.
كان صقره الذّكي يحلّق عاليًا بحثًا عن فريسة ، ثمّ يدلّه عليها.
و كان عددُ من ماتوا بسبب ذلك يتجاوز عشرةً على الأقلّ ممّن تعرفهم إفريلين.
فأيّ سخريةٍ هذه ، أن ينفجر غضبًا الآن بسبب موت صقر؟
إنسانٌ يستهين بحياة البشر ، و يغضب إلى هذا الحدّ على موت طائر؟
“…….”
ارتفع شعوره بالرّغبة في كسر عنقها ، و لكنّه هو و والده يعرفان ما يجب عليها أن تفعله.
خفض حدّته ببطء ، ثمّ ترك عنقها.
“هاه …”
و ما إن بدأت تتنفّس من جديد ، حتّى نظرت إليه و هي تلتقط أنفاسها.
و حين رأى ذلك ، شعر سيدريك بنفورٍ عميق ، إلى جانب شيءٍ غريب.
لقد تغيّرت نظرتها.
كانت عيناها ، الّلتان لطالما بدتا كعيون حيوانٍ ضعيف ، هادئتين على نحوٍ غريب و مستقرّتين بصورةٍ مقلقة.
“أُعرب عن أسفي”
خفضت إفريلين نظرها ببطء ، ثمّ قالت بوضوح: “لكن ليس لي علاقة بالأمر”
سألها سيدريك بحدّةٍ تُنذر بالخطر: “تعنين أنّه ليس ذنبك؟”
“أنا لم أرَ صقر سموّ الأمير في حياتي”
كانت تكذب.
فهذا السّمّ لا يُمكن الحصول عليه بسهولة ، بل هو نادرٌ للغاية.
و لم يكن سيدريك مصدّقًا لها ، و رغب في الإمساك بعنقها مجدّدًا و انتزاع الحقيقة منها ، لكنّ عنقها الّذي احمرّ للتّوّ بدا ضعيفًا إلى درجة أنّه قد ينكسر بين أصابعه.
اندفعت منه هالةٌ قاتلة ، لكنّ إفريلين بقيت واقفة دون أن تتحرّك.
و كانت تُخفي داخليًّا ابتسامةً باردة.
<إن وضعتنّ بقايا الطّعام في بطن فأرٍ وقع في المصيدة ، ثمّ تركتِهِ عند نافذة الطّابق السابع ، فسيأتي السّارق و يأخذه>
لقد أصبحت استحالة إطعامها عنوةً أمرًا واقعًا ، و طالما أنّ عدم إنهاء الطّعام سيجلب اللّوم ، فقد أطاعت الخادمتان أوامرها برحابة صدر.
و كان صقر سيدريك الشّره قد ابتلع بنفسه السّمّ دون أن يُدرك.
و لم يكن هناك سبيل ليعرف سيدريك الطّريقة الّتي دُبّرت بها.
“…….”
و بعد أن حدّق فيها طويلًا ، همس لها ببرود: “عندما تموتين لاحقًا ، سأُقطّع جثّتك و أجعلها قربانًا لروح صقري”
نظر إليها طويلًا و هي واقفة دون أن تُجيب.
ثمّ استدار و غادر الغرفة بخطواتٍ واسعة.
لم يتبقَّ سوى القليل على زواج أخته غير الشّقيقة ، و على موت إفريلين الّذي كان يراه قريبًا.
لقد أعلن أنّه سيُفرغ غضبه على جثّتها لاحقًا ، ثمّ مضى دون أن يلتفت.
و عندما اختفى تمامًا ، رفعت إفريلين رأسها و نظرت إلى الخارج.
و انساب صوتها ببرودة: “أيّها المختلّ”
إمبراطور مملكة بيلنوا ، و الأمير كذلك ، لم يكونوا سوى شياطين مختلّين.
و كانت تشعر بأنّها كانت حمقاء يومًا ما حين أقسمت بالولاء لمثل هذا القصر الإمبراطوريّ.
لم يكن ما فعلته اليوم سوى خطوةٍ صغيرة في مسار انتقامها ، و كان القادم أكثر إثارة.
في تلك اللحظة ، هبط غرابٌ مألوف على حافّة النّافذة و هو يُصدر صوتًا حادًّا.
“لقد أتيتِ يا سكارليت”
و ارتسمت ابتسامةٌ على شفتيها.
و بغياب الصّقر ، صار لهذا الطّائر الآن حرّيّة الدّخول إلى القصر كما يشاء.
التعليقات لهذا الفصل " 5"