3
لقد دقّت دافني ، لا … إفريلين ، بقدَمها على عقد الجمشت الّذي تحطّم و تذرّى بالفعل ، ثمّ جسّت نبض جسدها الّذي صار جثّةً باردة.
“لقد توقّف”
و لمّا رأت وجهها الّذي مات من دون أن تتمكّن حتّى من إغماض عينيها ، اضطرب صدرها.
رفعت يدها و أغلقت تلك العينين ، ثمّ نهضت من مكانها.
كان خيطٌ من ضوء الصّباح ينساب عبر نافذة صغيرة.
بردٌ لم تشعر به يومًا في جسد دافني المدَرَّب كان يلتفّ حول عظامها.
قطّبت حاجبيها و هي ترفع يدها البيضاء الشّاحبة حتّى بدت عروقها.
إن كانت تلك الحياة المروّعة الّتي انسابت إلى رأسها حقيقة ، فلابدّ أنّ رغبتها في الانتقام من الأسرة الإمبراطوريّة مارشيليس كانت أيضًا حقيقة.
تألّقت حدقتاها البنفسجيّتان بوضوح.
‘حقًّا ، إنّ جسد هذه المرأة في حالة يُرثى لها. إنّه مُتلف إلى حدٍّ لا يُمكنه تحمّل الكثير’
كمّيّة الهواء الّذي يدخل رئتيها لم تبلغ نصف ما كانت تتنفّسه حين كانت دافني ، و طعم الدّم يملأ فمها ، بل إنّ الوقوف بثباتٍ قليلًا يُتعبها.
و بالمقارنة مع أيّ إنسانٍ عاديّ ، فإنّ عروقها الزرقاء الظّاهرة دلّت ، بحسب خبرة الجنديّة الّتي رأت آلاف الحالات في ساحات الحرب ، على أمرٍ واحد.
‘إنّها مُسمّمة’
لقد غُذّي هذا الجسد على السّموم طويلًا ، لا ليومٍ أو يومين بل لفترة ممتدّة.
و بما أنّ إفريلين لم تتناول السّم طَوعًا في ذكرياتها ، فلا بدّ أنّه خُلِط لها في الطّعام أو الشّراب و أُجبرت على تناوله لمدّة طويلة.
كانت طريقة لرفع مناعة الضّحيّة إلى حدٍّ يمنع الموت و يجعل الجسد نفسه يتحوّل إلى أداةٍ قاتلة.
‘هذه المرأة … هي بيلاتوكزين (Bellatoxin)*’
ارتجفت عيناها.
لقد واجهت خلال حروبها الخمسين أعداءً نُشّئوا خصّيصًا كأسلحة بشريّة.
أولئك الّذين غُذّوا بالسّموم منذ طفولتهم ، رجالًا و نساءً قادرين على إغواء خصمهم و قتله عبر علاقة جسديّة واحدة … و قد كانوا يُسمَّون بيلاتوكزين.
و بسبب السّموم الّتي تفتك بأعضائهم الدّاخليّة ، نادرًا ما يعمّر أحدهم إلى ما بعد مطلع العشرينات.
استحضرت إفريلين في ذهنها دوق بلايز ، الّذي أمر الإمبراطور بزواجها منه.
و لسببٍ تجهله ، كان الإمبراطور ينوي استخدام هذه المرأة الّتي رُبِّيت كـ”بيلاتوكزين” لاغتياله.
الرّجل الّذي يقضي ليلةً واحدة مع جسدٍ كهذا … ستكون تلك آخر ليلةٍ في حياته.
‘كما قال الأمير ، لم تكن هذه المرأة سوى ماشية’
التوى فم دافني –و قد صارت إفريلين – بابتسامة مالحة.
أن تُولَد كـ مارشيليس ، ثمّ يكون المصير القاسي و العاجز هو النّهاية الوحيدة … و أن تكون الإجابة الأخيرة هي أنا؟
عبرت فوق اشمئزازها لمسةٌ خفيفة من الشّفقة.
‘إذا وصلتُ إلى رتبة سيد السيف فسأتمكّن من إزالة كلّ السّموم’
في عمليّة استيقاظ سيد السيف ، يُعاد تكوين خلايا الجسد كلّها عبر الاندماج مع الأورا ، و تحدث عمليّة “انسلاخ” تُطرَد فيها جميع السّموم و الرّواسب القديمة.
ليس كلّ “سيّد سيف” محصّن ضدّ كلّ أنواع السّموم ، لكن كلّ ما سبق الاستيقاظ يختفي تمامًا.
لقد كانت دافني ، الّتي دُعيت “حاكمة الحرب” ، واحدة من نخبة سادة السيف الخمسة في الإمبراطوريّة ، و كانت تتحكّم بالأورا ، طاقة الطّبيعة ، و تُجسّدها على نحوٍ يجعلها قادرة على سحق مئات الخصوم وحدها.
و الطّريقة الوحيدة لقتل “سيد السيف” هي بتحطيم نواة الأسترا القريبة من القلب.
و هذا ما فعله أولئك الّذين اصطحبوها إلى قاعة التّحقيق ، بعد أن ظنّت بسذاجة أنّ براءتها و براءة أسرتها من تهمة الخيانة ستُثبت.
لقد أحسنت الأميرة التّصرّف بالفعل.
و مَن كان قد بلغ مرتبة سيد السيف مرّة يمكنه بلوغها مجدّدًا.
و فيما كانت تزمّ حاجبيها ، انهمر أمامها ضوءٌ ساطع.
انفتح الباب ، و وقف الأمير مقابِلها.
‘و روك معه!’
شعرٌ ذهبيّ لامع ، عينان حمراوان ، بزّةٌ بيضاء نظيفة ، قامة طويلة ، وجهٌ جميل إلى حدّ مُقرف.
حتّى حين كانت تُدعى “حاكمة الحرب” ، لم تجرؤ على النّظر مباشرة في وجهه.
خليفة بيلنوا النّبيل ، السيّد الّذي يجب أن تُكرّس له روحها و قلبها ، وجودٌ مجيد لا يُمكن المساس به.
كان سيدريك إيسكار دو مارشيليس بمثابة شمس صغيرة لجنود الإمبراطوريّة.
“… هاه ، و ما هذا؟”
لكنّه الآن ، و هو يقطّب حاجبيه و هو يحدّق في جثّة دافني تحت قدميه ، كان الأساس الّذي قاد الجماعة الّتي خانت عائلة أغريف و قتلت عائلتها.
اشتعل جسد إفريلين برغبةٍ عارمة في أن تلتفّ أصابعها حول عنقه و تقتله فورًا.
لكنّها قاومت بكلّ ما تملكه من عقلٍ و قوّة.
فبهذا الجسد الواهن ، لم يكن قتله ممكنًا.
“الفتاة الّتي كانت بخير بالأمس ها هي تموت فجأة اليوم”
جاء صوتُ أحد أتباعه من الخلف.
“سيحزن «القلعة». ألم يراهن بأنّها ستصمد ثلاث مرّات أخرى على الأقلّ؟”
ألقى الأمير آخر نظرة احتقار على جثّة دافني ، ثمّ حوّل بصره إلى إفريلين.
كان في نظرته تساؤلٌ مزعج عمّا إن كانت تعرف شيئًا عن موتها.
فنفت إفريلين ذلك ببرود.
ردّ فعلها الهادئ ، الّذي لا يدلّ على أنّها رأت جثّة ، جعل حاجبيه يهتزّان قليلًا.
هل تبادلَتْ حديثًا مع تلك الميتة ليلًا؟
طرد تلك الفكرة السّريعة ، و سألها بصوتٍ خالٍ من أيّ شعور: “هل ما زال رأيكِ على حاله؟”
“و إن لم يتغيّر ، فماذا ستفعلون؟”
في ذكريات إفريلين ، كانت قد رفضت الزواج بدوق بلايز ، و لذلك حُبست هنا.
فانحنت شفتاه بابتسامة باردة.
“سأستخدمكِ بديلةً عن تلك”
فجأة ، انكسر إصبع جثّة دافني تحت وطأة حذائه الأسود.
“فالصّيد يحتاج دائمًا إلى فرائس جديدة”
اقترب بجسده قليلًا منها ، و رفع عينيه لمستواها ، ثمّ همس بصوتٍ مُنخفض: “أتساءل كيف سيكون صراخكِ … حين يُخترَق قلبكِ يا إفريلين”
تردّد صدى ضحكات الصّيّادين القساة في أذنيها.
و لوّح في ذاكرتها منظر والدها و هو ينزف من صدره تحت وابل الرّصاص.
أظافرها ترتجف ، و شفاهها تجفّ ، و رغبتها في تفريغ تلك العينين الحمراوين بيديها كانت تكاد تنفلت.
لكنّها انحنت برأسها و أجبرت نفسها على ضبط كلّ تلك المشاعر.
ثمّ تمتمت بشفاهٍ مرتجفة: “سأتزوّج … لقد غيّرتُ رأيي”
و عند سماع ذلك الصّوت المبحوح ، اعتدل الأمير سيدريك واقفًا.
و لاح على فمه ازدراءٌ بارد و هو يستدير ، كأنّه ينظر إلى ماشية خائفة.
لم يُغلق باب السّجن خلفه ، و أومأ أحد الخدم لإفريلين أن تتبعه.
و ظلّت عيناها معلّقتين بمؤخّرة رأس سيدريك و هو يبتعد.
ليس خوفًا من أن يُلقي بها مجدّدًا في ساحة الصّيد.
بل كي لا تنفجر ضحكتها من الفرح لحصولها على فرصة.
‘الأميرة إفريلين. لقد سمعتُ حقدكِ جيّدًا. و أنا الآن سأُذيقهم العذاب الحقيقيّ بهذا الجسد’
و بابتسامة واضحة ، خطت إيفريلين خطوةً للأمام.
حين خرجت من السّجن ، أحسّت بهواءٍ أكثر نقاءً ممّا اعتادت طيلة الشّهور الماضية.
**
و ما إن خرجت من السّجن حتّى رأت خادماتٍ ينتظرنها.
اتّبعتْهنّ عبر الممرّ المؤدّي من السّجن حتّى لاح قصر الإمبراطورة المبنيّ من الرّخام الأحمر.
كانت دافني قد تلقّت لقب الفارسة و هي في الخامسة عشرة ، و ظلّت تجوب ساحات القتال حتّى بلغت السابعة و العشرين.
و حين كانت السيّدات في عمرها يتردّدن على الصّالونات و القصور ، كانت هي تمسك سيفها و تُسقط الأعداء و تستعيد الأراضي.
أمّا زياراتها القليلة للقصر فكانت فقط لرفع تقارير الحرب مع قادتها.
و مع أنّها كانت قد زارته مرارًا ، إلّا أنّ قصر الإمبراطورة المترف أثار في داخلها نفورًا غريزيًّا.
و مع ذلك ، كانت ذكريات إفريلين كافية لتدلّها على وجهتها.
كانت الأميرة تقطن في الطّابق السّابع ، أعلى منطقة في قصر الإمبراطورة.
و بالطّبع ، كان النّاس يفضّلون الطّوابق السّفلى ، أمّا العلويّة فيسكنها الخدم في الغالب.
“هاه …”
و بعد صعود طابقين من السّلالم الطويلة ، انقطع نَفَس دافني كأنّه عالق في حلقها.
توقّفتْ و رفعت يدها تغطّي فمها.
“كح”
و مع سعلةٍ واحدة ، امتلأت راحتها بكتلةٍ من الدّم ، فارتجفت نظرات إيفريلين الباردة.
و تعالى أمامها صوتُ إحدى الخادمات و قد شبكت ذراعيها بسخرية.
“حتى العجوز الّذي ينتظر الموت أقلُّ ضعفًا من حضرتها الأميرة”
فضحكت خادمةٌ أخرى و أضافت: “أسمعتِ صوتها كلّما تتنفّس؟ كأنّ داخلها حقًّا عجوز!”
كانت تلك وقاحةً مفرطة لا يُمكن أن يقترفها خدمٌ تجاه أميرة تحمل اسم مارشيليس … إلّا إن كان الاحتقار مألوفًا عليها بحيث لا يُعاقَب أحد.
و لم يتدخّل أحد في القصر يومًا لمنعهم من السّخرية منها.
“……”
كانت إفريلين منحنيةً قليلًا ، تلهث ، ثمّ رفعت جذعها ببطء و نظرت مباشرة إلى الخادمة الّتي تكلّمت أوّلًا.
ارتجف حاجبا الخادمة حين التقت عيناها بعيني إفريلين.
و رغم أنّها كان ينبغي أن ترتبك من تلك النظرة المخالفة للعادة ، رفعت ذقنها بدلًا من ذلك و ردّت بحدّة: “لماذا؟ أهناك ما تودّين قوله؟”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بيلاتوكزين Bellatoxin —
كلمة Bella: تعني “جميلة” باللاتينيّة/الإيطاليّة.
كلمة toxin: تعني “سمّ” أو “مادّة سامّة”.
فـ Bellatoxin = السمّ الجميل أو السمّ الفتّاك الجميل.
في سياق الرواية ، فهي صفة أو لقب يُطلق على شخصٍ جُعل جسدُه سامًّا بذاته ، أي شخص يتحوّل بسبب التعرّض المزمن للسّموم إلى ما يشبه “السّمّ البشري”—جسد يمكن أن يُميت الآخرين بمجرد الاقتراب أو اللمس أو عبر إفرازات الجسد.
التعليقات لهذا الفصل " 3"