2
“تقولين أنّني قويّة؟”
تسلّل ضحكٌ ساخر إلى شفتي دافني.
“ها ، تقولين إنّني قويّة؟”
سرعان ما ملأ ضحكُها الجافّ زنزانة السّجن كلّها.
هاها—! ، هاهاها— ، لم يتوقّف ضحكها.
لقد كانت هناك أيّامٌ اعتقدت فيها حقًّا أنّها قويّة.
حين ارتقت بمهارتها المصقولة إلى مرتبة سيد السيف.
و حين حقّقت أكثر من عشر انتصارات متتالية في الحروب مع الدّول المجاورة ، فنالت لقب “حاكمة الحرب”.
و حين أنقذت أفراد فرقة الأفعى السوداء من موقفٍ ميؤوسٍ منه من دون أن تخسر أحدًا منهم.
و حين تصدّت لرجلٍ ركض و هو يحمل قنبلة داخل موكب الإمبراطور ، فأصبحت مرّة أخرى بطلة الإمبراطوريّة.
كانت تعتقد أنّها قويّة حقًّا.
لكن الآن؟
لم تعد سوى مقاتلة سقطت بتهمة الخيانة و صدر بحقّها حكم الإعدام ، و بشرية ضعيفة بائسة نُزِعت منها النواة ، مصدر قوّتها كلها.
“لقد جعلتُ عشرين شخصًا ممّن أعرفهم يموتون ، و ها أنا الوحيدة الّتي بقيتُ حيّة”
“دافني …”
وضعت إفريلين يدها المرتجفة على فمها.
و كانت العينان الصّارمتان لدافني باردتَين كأنّهما قادرتان على تدمير العالم.
“هل أبدو قويّةً فعلًا ، و أنا الّتي ظللتُ أتشبّث بالحياة خمس مرّاتٍ ، مضحيّةً بأرواحٍ بريئة؟ هاه؟”
كان الشّعور المنبعث من جسد دافني بعد أن زال ضحكها خانقًا إلى حدّ الألم.
و مع ذلك فتحت إفريلين فمها بصعوبة.
“… إنّكِ قويّة”
“… ها!”
“لو كان غيركِ ، لفقد إرادة الحياة و تحوّل إلى قشرةٍ فارغة. لكنّ عينيكِ لا تزالان تتألّقان بهذا الوضوح”
اقتربت إيفريلين منها خطوةً و تابعت.
“و لهذا … انتقمي لهم بجسدي”
كانت قد حصلت على معلومة أنّ “حاكمة الحرب” دافني أغريف مسجونةٌ هنا.
و لذلك تمرّدت فجأة على أوامر الإمبراطور و الأمير.
كي تعهَد بمهمّتها الأخيرة إلى هذه المرأة القويّة الّتي نجت بصورةٍ بائسة مرّةً أخرى قبل موتها.
و هي تعرف ما يمكن فعله بوسيلة غالت الملكيّة المقدّسة ، “عقد الروح”.
“…….”
ساد صمتٌ طويل داخل الزّنزانة المشحونة بهالة دافني القاتلة.
ثمّ قالت دافني من دون أن يرفّ لها حاجب: “سخافة”
“إنّه حقيقيّ! أنا ابنة لو إسترا ، أميرة غالت. و هذا هو أثر غالت المقدّس ، ‘عقد الرّوح’. يمكنه نقل روحكِ إلى جسدي!”
خفضت إفريلين صوتها ، لكنّ كلماتها كانت تقطر باليأس.
ابنة أميرة غالت؟ لو كانت تقول الحقيقة ، فهي لا شكّ ابنة غير شرعيّة للإمبراطور.
كانت هناك إشاعات تقول إنّ الإمبراطور رزق بابنة من أميرة غالت الّتي اتّخذها رهينة.
أمّا عن الأثر المقدّس ، فهذه المرّة الأولى الّتي تسمع فيها دافني عنه.
“و لماذا تفعلين شيئًا كهذا؟”
مهما يكن ، لا يمكن تصديق هذه المرأة بسهولة.
فكيف لوريثة دم مارشيليس الإمبراطوري أن تسمح لروح “فريسةٍ عفنة” مثل روحها بأن تسكن جسدها؟
“لأنّي أريد لهم أن يلقَوا الهلاك”
“إذن افعلي ذلك بنفسكِ …”
لكن فجأة ، و مع صوت كحّة ، انسابت خيوطٌ رفيعة من الدّم على شفتي إفريلين.
ارتعشت حاجبا دافني للحظة.
و مدّت إفريلين يدها لتضعها على كتف دافني الصّلب الّذي كان أعلى من كتفها بنصف شبر.
و بعينيها البنفسجيّتين اللتين امتلأتا بعزمٍ جارف قالت: “سأتزوّج قريبًا زواجًا لا أريده. أريدكِ أن تصبحي أنا ، و تزوّجيه بدلًا عنّي. كلّ ما عليكِ فعله غدًا حين يأتي الأمير هو أن تقولي إنّكِ موافقة على الزّواج”
“لا تمزحي معي. أن أصدّق كلام مارشيليس أصعب عندي من السّجود لكلب”
فلم تكن دافني تعرف شيئًا عن الحبّ أو الزواج.
كانت أهمّ أولويّاتها هي النّصر في الحرب فقط.
“أنا واثقة أنّكِ ستستطيعين”
اختلط الألم و الغضب في عيني إفريلين الّتين كانتا تلمعان باضطراب.
و فجأة ، تحرّكت خصلات شعرها الأشقر و توهّج عقد الجمشت و ارتفع في الهواء.
شعرت دافني بنسيمٍ غريبٍ يلتفّ حول قدميها ، فحاولت أن تبتعد عنها ، لكن تلك الفتاة الضئيلة كانت ثابتة كالصّخر ، لا تُزاح.
“توقّفي ، اللعنة! ماذا تفعلين!”
صرخت بصوتٍ خشن ، لكنّ إفريلين ابتسمت ابتسامةً باهتة و همست: “سأدعمكِ”
ثمّ اندفعت ذكريات إيفريلين كلّها نحو دافني مع وهجٍ ساحقٍ من الضّوء.
**
نشأت إفريلين لو إسترا دو مارشيليس في مكبّ النفايات خلف القصر الإمبراطوري.
كانت ابنة غير شرعيّة وُلدت من علاقة لم ترغب فيها أمّها ، و كانت تمثّل عار العائلة الإمبراطوريّة.
كانت الإمبراطورة و الأمير ينظران إليها كالحشرة ، و حتى الخادمات كنّ يحتقرنها.
قدّمن لها حساءً فيه حشرات و كنّ يضحكن ، و رششن عليها ماء المماسح كي ترتجف طوال الليل من البرد بلا ثيابٍ نظيفة.
و لحظة اهتمام الإمبراطور بها حدثت يوم علّقت أمّها نفسها ، و هي تحدّق في الفراغ كالعادة.
في الثانية عشرة من عمرها ، وقفت إفريلين مذهولة أمام جثمان أمّها الّتي كانت تهملها دائمًا ، فقال الإمبراطور و هو يمرّ بجوارها: “ستكون لها فائدة”
كانت إفريلين جميلة.
فخصلاتُ ذهبها اللامعة كانت تتلألأ كضوء النّجوم ، و عيناها البنفسجيّتان تلمعان بسحرٍ غريب.
و من الواضح أنّها ، حين تنضج ، ستصبح امرأة قادرة على زلزلة البلاد بجمالها.
و بينما كانت الإمبراطورة تحدّق بها ببرود ، اعترف بها الإمبراطور رسميًّا كأميرة.
لكنّ حياتها لم تتغيّر سوى بالانتقال من مكبّ النفايات إلى مكانٍ أوسع قليلًا ، فظلّت معاملتها بائسة كما هي.
احتقرها الجميع ، و كانت بالكاد تجد ما تأكله أو تلبسه.
و كان الرّجل الوحيد الّذي لامس قلبها هو ابن بارون ، معلّمها في فنون الإتيكيت.
علّمها قواعد السّلوك اللازمة للأميرة بدقّة صارمة استعدادًا لزواجها المستقبلي.
و حين بدأ يشفق عليها ، نشأت بينهما علاقة أعمق.
أحبّته ، و أحبّها ، لكنّهما لم يعترفا بذلك.
كانا يتبادلان المشاعر بنظراتٍ و صمتٍ و تصرفاتٍ خفيّة.
فالقصر مليء بالعيون المترصّدة ، و أفراد العائلة الإمبراطورية كانوا وحوشًا قساة.
و قبل شهر ، حين تغيّر معلّمها فجأة ، أسرعت تبحث عن الأمير ، أخيها الّذي كان يشرف على برنامجها التّعليمي.
“وجدتُ لوحةً لكِ في مسكنه”
قال ذلك بينما كان يمسح سيفه بقطعة قماش ، و قد ارتسمت على شفتيه ابتسامة مائلة.
“فذبحتُه. و الغريب أنّه لم يصرخ ولا مرّة و هو يموت … أثار غضبي ، ففقأتُ عينَي جثّته. تريدين واحدة؟”
رأت القطرات الحمراء على القماش فاهتزّت قدماها تحتها.
لكنّها لم تستطع البكاء بصوتٍ عالٍ ، فاكتفت بدموعٍ سقطت بصمت.
اقترب الأمير منها ، و لوى شفتيه ، ثمّ وجّه حدّ سيفه نحو عنقها.
“لا تظنّي نفسكِ بشرًا. أنتِ مثل ذلك الصّعلوك الّذي قتلتُه اليوم ، مجرّد بهيمة”
تساقطت الدموع على ذقنها.
“كما يُذبح البقر و الخنازير الّتي نُطعمها ، ستُذبحين أنتِ أيضًا حين أُرسلكِ إلى الدوق بلايز. فهمتِ؟”
إدوين كرويل بلايز ، حاكم أراضي الشّمال حيث الثّلج لا يتوقّف طوال العام.
كان شمال البلاد يحكمه دوق بلايز ، و الجنوب يحكمه دوق فلورنس ، و هما سيفُ و درعُ عائلة مارشيليس.
و كانت هي الهدية الّتي سيقدّمها الإمبراطور إلى أحد هذين الدّوقين مقابل ولائه.
دوق بلايز—
لمّا التقت عيناها ذات يومٍ بعينيه الزرقاوين اللتين تشعّان برعبٍ غريب ، لم تستطع حتّى أن تتنفّس.
“إن فهمتِ ، فاخرجي”
ثمّ أعاد الأمير سيفه إلى غمده ببطء.
و أصدر ذلك السّيف الّذي قتل حبيبها صوتًا كأنّه يبتسم ابتسامةً شيطانيّة.
تلك اللّيلة لم تستطع إفريلين النوم—
قضت اللّيل تفكّر في حياتها الماضية و القادمة ، و في ما تستطيع فعله و ما لا تستطيع.
و حين بزغ الفجر ، توصّلت إلى إجابةٍ واحدة.
قبضت على عقدها و هي تتذكّر حبيبها.
‘يجب أن أقضِ على الشّر’
“…….”
فتحت إفريلين عينيها ببطء ، و هي ممدّدة على أرض الزّنزانة تحت ضوء الشّمس.
تدحرجت عيناها سريعًا نحو المرأة ذات الشّعر الأسود السّاقطة بجوارها.
شهقت إفريلين و سحبت جسدها بسرعة مبتعدة خطوتين.
‘… هذه أنا!’
كانت المرأة الممدّدة كجثّةٍ باردة ليست سوى دافني أغريف.
كانت هي نفسها.
التعليقات لهذا الفصل " 2"