الفصل 8 :

 

لم يكن هناك أيُّ سببٍ يجعل خادمات عائلة ألانترا يتلقَّين معاملةً أفضل من خادمات دوقية ريفرستا.

 

لكن إن كُنَّ يُنادين بعضهنّ بلقب الخادمات الكريمات، فهذا يُظهر بوضوحٍ كم من السُّلطة منحتهنّ إيّاها.

 

لماذا فعلتْ ذلك؟

 

لا شكّ أنّها لم تكن لترضى بهنّ في الأصل.

 

هل عجزتْ عن التخلُّص من ظلّ والدها حتّى بعد الزّواج؟

 

ساي عضّتْ لسانها في داخلها، ضيقًا من رغبةٍ ضعيفةٍ ما تزال تعيش فيها في إنكار الواقع.

 

الطفلة داخلها، على الرّغم من الخيانة، لم تستطع أن تتخلّى تمامًا عن التعلّق.

 

حين يمنح السّيّد سلطته لخادمٍ، يصبح ذلك الخادم وكأنّه السيّد نفسه، متغطرسًا متكبّرًا.

 

ولا شكّ أنّهنّ عِشن في هذا المكان متمتّعاتٍ بذلك الامتياز بكلّ ما أوتين من قدرة.

 

‘كم هو مُقزّز.’

 

تغيّر وجه ساي إلى ملامح الانزعاج.

 

بيتي، التي كانت تضحك بفخرٍ وهي ترتدي خاتم والدتها الرّاحلة.

 

جاكلين، التي لم تكن تتردّد في الإبلاغ عن أدقّ تحرّكاتها إذا كان في ذلك منفعةٌ ماليّة.

 

وأبشعهنّ جميعًا… ديرا.

 

‘في مثل هذه الحالات، تقولين: لقد أخطأتُ، أرجوكِ أنقذيني. قوليها الآن، بأدب.’

 

عباراتٌ اضطُرّت إلى قولها كي تبقى على قيد الحياة.

 

بعد أن قالتها، كانت ديرا تضحك ضحكةً خفيفة وهي تمسح على رأسها بحنان.

 

‘يا لكِ من فتاةٍ طيّبة.’

 

اسودّ وجه ساي فجأة.

 

روزَا، التي رأت ملامحها، شهقتْ ثمّ عادت لتسجد على الأرض بكلّ جسمها.

 

“أرجوكِ، سامحيني على خطئي!”

 

رفع أحد الخَدَم فوق السيّد كان خطأً فادحًا.

 

 

وفي غير ظرفٍ استثنائيّ، كان يجب تصحيح خطأ روزا بلهجةٍ حازمة.

 

لكنّ ما تحتاجه ساي الآن هو المعلومات، لا الانضباط.

 

عادت ساي لتضبط ملامحها، ثمّ قالت بلُطفٍ وهي تنظر إلى روزا.

 

“روزا، سيكون هناك الكثير من الأمور التي أحتاج أن أسألكِ عنها لاحقًا. أرجو أن تُخبِريني عمّا كنتُ أفعله في الماضي، أو أن تُبادري بإخباري كما فعلتِ اليوم، حتّى من دون أن أطلب.”

 

ثمّ أضافت، بنبرةٍ لطيفة ولكن حازمة.

 

“لكن هناك أمرٌ عليكِ أن تعرفيه، وهو أنّني، مهما كنتُ عليه في الماضي، فلن أكون على ذلك النحو بعد الآن. لذا، تهيّئي لذلك.”

 

ابتسمت ساي ابتسامةً خفيفة وهي تنظر إلى روزا التي ما تزال متجمّدةً في مكانها.

 

“هل يمكنكِ أن تُحضري لي منشفةً دافئة وبعض الوجبات الخفيفة؟”

 

لم تكن تشعر برغبةٍ في الأكل.

 

لكنّها اعتقدت أنّ روزا، التي بدت متيبّسة، قد تسترخي قليلًا إن بدأت بالحركة.

 

أجابت روزا بأدب:

 

“ن-نعم. هل أُحضِر خادمةً أُخرى أثناء غيابي؟”

 

“لا بأس. على أيّ حال، أظنّ أنّ الجميع ينتظر في الخارج. وإن لزم الأمر، سأناديهم. فلتذهبي الآن.”

 

انحنت روزا بزاوية تسعين درجة، ثمّ خرجت من الغرفة.

 

***

 

روزا خرجت من الغرفة في طريقها إلى تنفيذ المهام، وكانت تضغط على فمها مرارًا بيدها المرتعشة.

 

‘تسألينها إن كنت ستشاركه في الغرفة؟ هل جُننتِ؟! ثمّ تلك الأخطاء في الكلام، ما الذي يحدث لي؟’

 

ارتكبتْ أخطاءً لم تعتدها، بسبب التوتّر الشّديد.

 

بل إنّ جمال السيّدة الساحق – الذي قد يأسر النساء أيضًا – زاد الطين بلّة.

 

حاولت روزا مرارًا أن تُهدِّئ من ارتجاف يدها.

 

لم يمضِ على وجودها هنا سوى خمسة أشهر، وها هي تُصبح الخادمة الخاصة للسّيّدة المشهورة من منزل ريفرستا! أمرٌ لا يكاد يُصدّق.

 

حين أُعلن أنّها ستكون الخادمة الخاصّة، سُمِعَتْ تنهّداتٍ خفيفة من الخادمات الأخريات.

 

منهنّ من نظر إليها بشفقة، ومنهنّ من شعر بالارتياح، وبعضهنّ نظرن إليها كأنّها لا تعني لهنّ شيئًا.

 

خمسة أشهر ليست وقتًا طويلًا، لكنّها كافيةٌ لقراءة أجواء أيِّ قصر مهما كان واسعًا.

 

سيدّة ريفرستا كانت سيّئة السُّمعة.

 

منذ بداية الزّواج، كانت تُلقِي الأشياء لأتفه الأسباب.

 

لم تكن تضرب، لكنّ تصرّفها أوحى بأنّها لا ترغب في إهدار وقتها في ذلك.

 

أن تُبدِّل ماء الغَسل أكثر من عشر مرّات صباحًا أمرٌ عادي.

 

وأن تُشير بتعابير وجهها لتغيير طبقٍ ساخنٍ دون أن تتذوّقه، عادةٌ يوميّة.

 

والترف؟ حدِّثْ ولا حرج.

 

لم يَمضِ عامٌ على زواجها، وقد اشترت من الجواهر ما لا يُحصى.

 

اشترت فساتين أيضًا، لكنّ قيمة المجوهرات لا تُقارن.

 

كانت تقول بابتسامةٍ خبيثة إنّها تُفضِّل الأحجار التي لا تفقد جمالها، على الثّياب التي تبلى.

 

ومع كلّ ذلك، كانت… في غاية الجمال.

 

جمالٌ يخطف الأنظار من اللّحظة الأولى.

 

شعرها الذهبيّ المتلألئ لا يفقد بريقه حتّى إنْ تناثر.

عيناها الرّائعتان تشعّان كالجواهر الزّرقاء.

 

ولم يكن وجهها وحده جميلاً، بل قوامها أيضًا كان متناسقًا يُثير الإعجاب.

 

وبحسب تعبيرات وجهها، كانت تَظهر أحيانًا كأنّها أنيقة، وأحيانًا بريئة، وأحيانًا مغرية بشكلٍ مُدهش.

 

كانت تَعامِل الدّوق بجفاء، لا بل ببرودٍ قاسٍ.

 

لكنّ المدهش أنّها لم ترفض قضاء اللّيل معه، بل كانت تشارك غرفته بخلاف عادة النّساء النبيلات.

 

وقيل إنّها حين نُقلت إلى غرفة الدّوق قالت:

“من الأفضل أن أستمتع، بدلًا من إضاعة الوقت في الذّهاب والإياب، أليس كذلك؟”

 

المعنى واضح…

 

امرأةٌ لا تفكّر إلّا في لذّتها ومكاسبها.

 

لكن روزا، كخادمةٍ متدرّبة، لم ترَها عن قُربٍ سوى مؤخرًا.

 

والآن، طُلِبَ منها أن ترعاها وحدها! ثقلٌ كبيرٌ على كتفيها.

 

لكنّ ساي بدت مختلفةً عمّا سمعته.

 

في السّابق، كانت نظراتها حادّة ومليئةً بالاستياء. أمّا الآن…

 

‘صارمة، لكنّها لطيفة ودافئة.’

 

لعلّ ذلك ما جعلها تُجيب بسهولةٍ عن أسئلتها.

 

لكنّها خافت في الوقت نفسه، فلو لم تُجِبْ بصدق، ماذا قد يحدث لاحقًا؟

 

روزا كانت تعمل من أجل عائلتها، ولا يُمكنها أن تفقد عملها.

 

تذكّرت السيّدة وهي تقول برقّة: “سأتصرّف بطريقةٍ مختلفة من الآن فصاعدًا.”

 

وبطريقةٍ ما، بدا لها هذا أصعب من أيّام التجبّر والسّوء.

 

***

 

وضعت ساي المنشفة الدافئة ذات البخار على وجهها.

 

لم ترغب في الاستلقاء كي لا تغفو مجددًا، فمالت على الأريكة، ووضعت رأسها على المسند.

 

حين بدأت تُركّز في التّفكير، بدأ رأسها النّاقه يوجعها.

 

النّزيف توقّف، لكنّ الضمادة ما تزال ملفوفة.

 

قيل لها ألا تُعرِّض الجرح للرطوبة، لكنّ منشفةً دافئة قد تُساعد قليلًا.

 

هل تُنادي مربيتها؟

 

بمجرّد أن فكّرت بها، شعرت بالدفء في صدرها.

 

المربية كانت تعمل لدى عائلة ألانترا منذ أن كانت والدة ساي فتاةً صغيرة.

 

رغم أنّها لم تبدأ كمربية، إلا أنّها كانت كذلك سابقًا، فاختيرت للعناية بها.

 

لطالما أحاطتها بالحنان والإخلاص، حتى بدت كأنّها من العائلة.

 

ربّما لو كانت جدّتها لأمّها على قيد الحياة، لكانت العلاقة شبيهةً بذلك.

 

أمّا من جهة والدها، فجدّها وجدّتها كانا على قيد الحياة، لكنّهما كانا يُحبّان شقيقها لوكالدو فقط، ولم يُعيراها أيّ اهتمام.

 

نظراتهما لها، وكأنّها لم يكن يجب أن تولد، كانت كافيةً لسحق أيّ طفلة.

 

‘أنا أيضًا من عائلة ألانترا. لكنّهم تصرّفوا كأنَّ لوكالدو وحده من يملك دمًا نبيلاً.’

 

لعلّ تجاهلهم لها كان أهون من كراهيّتهم.

 

نظراتهم المُمتلئة بالاحتقار كانت أشبه بوخز الإبر.

 

حين كانت صغيرة، لم تكن تتلقّى من والدها وأخيها سوى الإهمال، لا أكثر.

 

فحاولت نيل محبّة الجدّين بالدّلال والتّصرّف كطفلةٍ طيّبة.

 

لكنها سرعان ما أدركت الحقيقة…

 

مهما فعلت، لن تُحرّك مشاعرهم.

 

لو أسقطت شيئًا، ووبخوها بشدّة، ثمّ فعل شقيقها الشيء نفسه، لأسرعوا إليه يسألونه إن كان بخير.

 

في مرّةٍ، كسر لوكالدو مزهريّةً غالية في الممر، ثمّ ألقى باللّوم عليها.

 

عنّفوها، وحين أشارت الخادمة لاحقًا إلى أنّه الفاعل، لم يعتذروا.

 

بل قالوا له: “أنت شجاع، وستُصبح رجلًا عظيمًا.”

 

الوحيدتان اللّتان واسَتْها حينها، كانتا والدتها ومربيتها.

 

وحين تكون والدتها موجودة، كان الجدّان يَكفّان عن معاملتها بتلك القسوة.

 

‘لولا هاتين المرأتين، ما كنتُ لأصبح إنسانةً سليمة أبدًا.’

 

لكن ما إن تذكّرت ساي أفعالها داخل دوقية ريفرستا، خَفَتَ حماسها.

 

فجأة…

 

سَطع النّور في عينيها.

 

شخصٌ ما رفع المنشفة عن وجهها.

 

من دون أن تفتح عينيها، تمتمت:

 

“هل أزلتِها بالفعل؟ لا بأس إن بقيَت قليلًا…”

 

“إن أبقيتِها طويلًا، ستُشعرُكِ بالاختناق. كما أنَّ الرّطوبة لا تُفيد الجرح.”

 

إنّه صوت دوق ريفرستا.

 

فتحت ساي عينيها على الفور.

 

رأت يده الكبيرة القويّة فوق وجهها، وعيناه تحدّقان بها.

 

تلك النظرات الصّريحة والقويّة جعلتها تَصرف بصرها فورًا.

 

لم يكن بسبب ملامحه الحادّة.

 

بل لأنّها لم تستطع تحمُّل النّظرة التي انعكست في عينيه الحمراوين.

 

هي لا تتذكّر شيئًا عنه، بينما هو قد يعرف عنها الكثير.

 

هذا وحده يكفي ليُشعرها بالحرج.

 

وبنبرةٍ محرجة، قالت وهي تُغيّر الموضوع:

 

“كان يمكنك إرسال خادمةٍ للقيام بهذا الأمر.”

 

ثمّ أدركت غياب روزا.

 

حين أخذت تبحث عنها بعينيها، أجابها بنجامين بهدوء.

 

“لقد صرفتُها أنا، ساي.”

 

 

 

《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》

 

═════• •✠•❀•✠ •═════

الترجمة: فاطمة 

حسابي ✿

《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》