كانت ساي مستلقيةً بهدوءٍ في منتصف السرير. كانت تغطُّ في نومٍ عميق، ولم يكن يُسمَع في الظلام سوى صوتِ أنفاسها الخافتةِ المنخفضة.
سواءٌ كانت غاضبة، أو بوجهٍ بارد، أو أحيانًا بعينين ممتلئتين بالدموع،كانت ساي، عندما يعود ليلًا، تمدُّ تلك الأصابعَ النحيلة وتلفُّها حول عنقه وتحتضنه.
ولم يكن هناك حاجةٌ إلى كلماتٍ عمّا سيحدث بعد ذلك.
حين رآها بنجامين للمرّة الأولى في قاعة الحفل.
على نحوٍ غريب، شدّت نظره. على الرغم من أنها كانت بعيدةً جدًا.
كانت تقف بوجهٍ جميل وبكبرياء. كانت تعامل الناس بابتسامةٍ مناسبة وتصرفٍ مهذّب، لكن كان يحيط بها جوٌّ يجعل الاقتراب منها صعبًا.
كان هناك كثيرٌ من النساء اللواتي اقتربن من بنجامين. من نساءٍ يردن غرس أنيابهنّ في فريسةٍ شهية تُدعى الدوقة الكبرى، إلى نساءٍ يقتربن بخجلٍ ووجنتاهنّ محمرّتان.
لكنها كانت أوّل امرأةٍ لا يستطيع أن يصرف نظره عنها.
ولذلك، اكتفى أوّلًا بالنظر إليها.
ولم يكن عدم اقترابه بسبب نقصٍ في الجرأة كرجل.
بل لأنه أراد أن يعرف أوّلًا تلك المرأة التي تبدو لطيفةً ومهذّبةً مع الجميع، لكنها في الوقت نفسه تحافظ على مسافةٍ مع الجميع.
كانت المرأة التي تبتسم بشموخ أمام الناس، كثيرًا ما تصرف الخادمة في قاعة الحفل، وتُسدل الستائر في شرفةٍ خالية، وتبقى وحدها.
وأحيانًا كانت تكون في الغرفة التي تجتمع فيها النساء لإصلاح مكياجهنّ وهنّ يثرثرن، لكنها بدت أكثرَ راحةً عندما تكون وحدها.
في تلك اللحظات، كان تنفّسها ونبضُ قلبها مستقرَّين.
كان بنجامين يتعقّب آثارَ ساي وهي تستريح وحدها بحواسّه الحادّة.
وكانت ساي تتمتم بصوتٍ صغير لا يكاد يسمعه أحد.
-‘آنسةُ البارون آيرين شخصٌ طيّب، لكن شخصيّتها قويّة، لذلك تُتعبني أحيانًا.’
تنهدٌ خفيف.
-‘وضعهم الماديّ ليس جيّدًا، وأخوها يعاني من الربو.
يجب أن أُرسل لهم بعضَ الأدوية الجيّدة.’
في البداية، شكّ بنجامين إن كان ذلك مجرّد تصرّفٍ لتحسين الصورة. فهو كان يظنّ أن الكونت ألانترا الذي يبتسم وكأنه طيّب القلب ليس كذلك في الحقيقة،
ولذلك اعتقد أن ابنته قد تكون مثله.
لكن عندما رآها تمنح لطفها لأشخاصٍ لا علاقة لذلك بالمصلحة أو بالصورة، توصّل إلى نتيجة.
‘إنها ساذجة. ساذجة تتظاهر بالكبرياء.’
كانت طيّبةً إلى حدٍّ مفرط.
لكنها لم تكن طيّبةً فقط.
-‘الإنسان الذي يخون مرّةً، يخون مرّتين أيضًا. فكّري جيدًا في ما ستفعلينه. أيُّ نصيحةٍ كانت، ففي النهاية الأهمّ هو قلبُ الآنسة.’
-‘لكنني أحبّه. ولا يوجد خاطبٌ أفضل منه أيضًا…….’
-‘الاختيارُ يعود للآنسة. فقط تذكّري أنه إذا اخترتِ واحدًا، فقد تخسرين الآخر.’
كانت هذه الكلمات التي قالتها عندما جاءت آنسةٌ تستشيرها بسبب حبيبٍ خائن. كانت تعطي نصائحَ واقعيّة عندما يحتاجها الآخرون، لكنها لم تفرض القرار. وفي الواقع، كانت تبتعد بلا تردّد عمّن يتجاوز الحدود أكثرَ من اللازم.
على الرغم من جانبها اللطيف، إلا أنها كانت حاسمةً وباردة عندما يجب أن تكون كذلك، وكان هذا التناقض غريبًا.
ثم أدرك وهو يراقبها. أنها لا تكون ليّنةً إلا مع من تعتبرهم عائلتها.
‘ماذا ستفعل تلك الآنسة لو أصبحتُ أنا من عائلتها؟’
أصبح فضوليًّا. وأراد أن يصبح شخصًا مميّزًا لساي.
وفي ذلك الوقت، كان ويليام ألانترا يدفع باتجاه الزواج. كان بنجامين قد رفض كلّ عروض الزواج من العائلات الأخرى من قبل، لكن هذه المرّة قبِل.
لكن بشرطٍ واحد. أن تكون ساي ألانترا نفسها راغبةً في هذا الزواج.
يتذكّر اليوم الذي التقى فيه ساي للمرّة الأولى ليسألها عن رغبتها في الزواج.
على عكس ما كان يراها من بعيد، كانت تلك المرّة الأولى التي ينظر فيها كلٌّ منهما إلى الآخر وجهًا لوجه.
كانت أشعّةُ شمسِ العصرِ الكسولة تلفُّها بلطف. ولم يكن فيها توتّرُ قاعة الحفل.
كان وجهُها المتّجه إليه يلمع جمالًا. وكان عطرُ الزهور الذي يزيّن المقهى يبدو وكأنه يهبّ حولها وحدها.
لم يرَ شيئًا. سوى هي.
حبس بنجامين أنفاسه لحظةً. كاد قلبه ينفجر.
بِمَ يمكن أن يُعبَّر عن ذلك؟
ما الذي قاله، وأيَّ شايٍ شربه، وأيَّ تعبيرٍ ارتسم على وجهها عندما كانت تتحدّث، وكلَّ حركةٍ من يدها، وكلَّ كلمةٍ قالتها، ما زال حيًّا في ذاكرته حتى الآن. ومع ذلك، وبسبب الإثارة العارمة التي اجتاحته، بدا كلُّ ذلك كأنه حلم.
كان شوقٌ مجنون يهزُّ جسده كلّه، وفي الوقت نفسه كان هناك شعورٌ بالراحة. كان أمرًا لم يختبره من قبل.
وبالنسبة لبنجامين، انطبعت هذه المشاعر بقوّةٍ على أنها حبّ.
“……ولهذا طُرح موضوعُ الزواج. على الرغم من أنه زواجٌ بين عائلتين، إلا أنني أرغب في احترام رأي الآنسة. فإن لم ترغبي فيه، أرجو أن تخبريني بلا أيّ عبء. يمكنني أن أُلغي الأمر دون أن يلحق بالآنسة أيُّ ضرر. ولكن إن كنتِ ترغبين، فأعدكِ بأن ألتزم بالمودّة والاحترام طوال فترة الزواج.”
لم تستطع كلماتُ المودّة والحبّ أن تحتوي فيضَ مشاعره هذا.
حتى الكلمات التي استخرجها متجاوزًا أقصى ما يسمح به الحظر لم تُرضِه.
كان يعرف أنه يحبّها، ومع ذلك لم يستطع أن يقول إنه يحبّها.
ذلك الأمر انغرس في قلب بنجامين بألم.
يتذكّر عينيها الزرقاوين اللتين اتّسعتا دهشةً في تلك اللحظة. لكن الدهشة كانت عابرة، وسرعان ما ابتسمت من جديد بابتسامةٍ ناعمة كأجود الريش.
تلك الابتسامة طارت نحوه، وطعنت قلبه بقوّةٍ أشدُّ من أيِّ سلاحٍ حادّ.
“نعم، أوافق. إن كان سموّ الدوق الأكبر، فأوافق.”
كان صوتها هادئًا، لكن بنجامين رأى احمرارًا خفيفًا يلوّن وجنتيها، وسمع خفقانَ قلبها السريع كصوتِ العصافير.
ثم أضافت بهدوء.
“أريد أن أُنشئ أسرةً يسودها الحبّ والاحترام، مهما كان عدد الأطفال. وبما أنك تفكّر في موقفي، أشعر بأن هذا ممكن، وهذا يمنحني الأمل.”
أراد أن يقول لها المزيد.
كم هو ممتلئٌ بها. وكم يُصبح أحمقَ متيبّسًا بسببها.
كم هي محبوبة.
وكم هي جميلة.
أراد أن يقول ذلك. من قلبه.
لكن بالكاد استطاع أن يقول جملةً واحدة.
“سأجعلكِ سعيدةً.”
ولحسن الحظ، كانت هذه الكلمات خارج حظر قول “أحبّك”. كان بنجامين متوتّرًا خشية ألّا يستطيع حتى نطق هذه الكلمات.
وعلى الرغم من أنها كلماتٌ مفاجئة في موقفٍ لم يتعرّف فيه كلٌّ منهما على الآخر بعد، إلا أنها ضحكت بفرحٍ وأجابت. كانت لطيفةً جدًّا وهي تضحك على كلماته مرّةً بعد أخرى.
“لنكن سعداء معًا. فلو كان أحدُنا سعيدًا وحده، سيشعر بالوحدة.”
معًا.
كان بنجامين سعيدًا للغاية بموافقتها. شعر أن ذلك أثمن من أيّ إنجازٍ حقّقه في حياته.
في العائلات النبيلة عادةً، تكون مدّة التحضير للزواج ستة أشهرٍ على الأقل، وفي المتوسّط نحو عام. لم يكن بنجامين خبيرًا بالنساء، لكنه كان يعرف على الأقل أن النساء قد يقضين أيّامًا في التفكير في زخرفةٍ واحدةٍ من زهور قاعة الزفاف.
ولذلك كان ينوي أن يمنحها وقتًا كافيًا للتحضير. لكن من رغبت بالزواج سريعًا كانت ساي نفسها.
“ثلاثةُ أشهرٍ كافية. فأنا أتطلّع إلى الحياة الزوجيّة مع سموّ الدوق الأكبر أكثرَ مِمّا تتصوّرون.”
لم تكن واقعةً في الحبّ بجنونٍ مثله، لكنها كانت تحمل له مشاعرَ طيّبة أيضًا.
في ذلك الوقت فقط.
بعد تثبيت الزواج، كان بنجامين يرغب في لقاء ساي كثيرًا قبل الزفاف، لكنها أُصيبت مباشرةً بحمّى شديدة. وبعد أن تعافت، لم يرها في منزل الكونت ألانترا سوى مرّتين أو ثلاث، وكان شحوبُ وجهها واضحًا.
وبحجّة أنها تريد أن تركّز على استعادة صحّتها استعدادًا للزفاف، لم يستطع أن يكثر من اللقاء بها خشية أن يُتعبها.
لم تكن ساي تعاني من مرضٍ مزمن، لكن بنيتها كانت ضعيفة، وكانت تصاب مرّتين تقريبًا في السنة بنزلات برد أو حمّى شديدة. وكان من المؤسف أن يحدث ذلك قبل التحضير للزواج مباشرةً، لكن الأهمّ كان صحّة ساي وسلامتها.
كان بنجامين، إن نظر إلى ساي وحدها، يريد أن يمنح منزل الكونت ألانترا أكثرَ دون أن يطالب بالكثير.
لكن غريزته كانت تخبره أن القيام بدور الساذج مع ويليام، الكونت الحالي لألانترا، أمرٌ خطير. ولذلك كان قد أعدّ مسبقًا قائمةَ الشروط الضروريّة بحيث لا يتكبّد خسارةً أبدًا.
كان ويليام، الذي يتظاهر أمام الناس بأنه أبٌ يحبّ ابنته أكثرَ من أيّ شيء، يحاول أن ينتزع من بنجامين أكبرَ قدرٍ ممكن من الفائدة مقابل إرسال ساي، إلى درجة أنه نسّق معه أكثرَ من عشر مرّات بشأن المهر.
كان بنجامين يعرف أولئك الذين يقولون أيَّ شيءٍ بسهولة. فمهما أظهروا من كلماتٍ حلوة وتصرفاتٍ لطيفة، إن لم تدعمها أفعالٌ حقيقيّة، فلن يثق بهم أبدًا.
كان قد رأى كثيرًا من الناس الذين يقولون إنهم سيحمونك، لكنهم عند وقوع الخطر يدفعونك درعًا أمامهم. وفي ساحة القتال، كان هذا أسوأَ نوعٍ من البشر، قد يقرّر مصيرَ الحياة أو الموت.
ولذلك كان بنجامين أكثرَ حذرًا من ويليام.
كانت ساي تتحدّث دائمًا عن أبيها بصورةٍ طيّبة أمام الناس، ولم يُرِد أن يقلقها بذكر هذا الجانب، فلم يتطرّق إليه.
كان ويليام قد أخذ من بنجامين أكثرَ بكثيرٍ ممّا أعطى.
ولذلك قرّر بنجامين بهدوء أن يجعل كلَّ الأراضي والممتلكات التي تلقّاها من ويليام والمتعلّقة بالزواج، تُسجَّل باسم ساي الشخصي، لا ضمن أصول عائلة الدوق الأكبر.
‘بهذا يحصل بيليام على ما يريده، وتتزوّج ساي دون أن تخسر شيئًا.’
على الرغم من أنه بالكاد رأى وجهها قبل الزفاف، كان بنجامين قادرًا على الانتظار.
كان يحتفظ بابتسامة ساي في تلك اللحظة التي قبلت فيها عرضه. وكان قلبه يفيض بها باستمرار، حتى إنه كان أحيانًا يلوّح بسيفه بجنونٍ في ساحة التدريب، ثم يحتاج إلى الاستحمام بالماء البارد ليهدّئ صدره المشتعل.
لكن بعد الزواج فعليًّا، تغيّرت ساي تمامًا.
سخرية، ولذعٌ بالكلام، وضيق، وحساسيّة.
اختفت ساي التي عرفها، كأنها سراب.
كانت لا تقبل به إلا في الفراش.
ومع ذلك، ظلّ بنجامين ينتظر مؤمنًا بأن هناك سببًا ما. وحتى لو لم يكن هناك سبب، كان يريد أن يمنح المرأة التي وقع في حبّها من النظرة الأولى العهدَ بالمودّة والاحترام الذي أقسمه.
لكنه في النهاية إنسان، وكان قلبه أحيانًا يضطرب ويتألّم.
ثم، في أحد الأيام، فقدت ساي ذاكرتها.
وعادت إلى ساي التي في ذلك اليوم الذي التقيا فيه قبل الزواج، اليوم الذي تحدّثت فيه عن السعادة.
التعليقات لهذا الفصل " 28"