“كما تعلمين يا ماريلّا، لا أتذكّر كيف تزوّجتُ، ولا كيف عشتُ هنا. لا أتذكّر شيئًا على الإطلاق. لكنّ الشيء الجيّد في هذا الزواج هو أنّني استطعتُ رؤية ماريلّا مجدّدًا.”
ابتسمت ساي بابتسامةً مُشرقة كأنّها عادت طفلة بريئة مُفعمة بالحبّ. كان ذلك المشهد جميلًا بشكلٍ مُبهر، حتى إنّ ماريلّا أغمضت عينيها بسرعة وفتحتهما من شدّة تأثّرها.
لكنّ ساي لم تُلاحظ ذلك التعبير، إذ كانت متحمّسةً للغاية لوجودها مع ماريلّا.
“هل كان هناك ما يُزعجكِ هنا؟”
“السيّدة أولتني الكثير من العناية، بل كنتُ مرتاحةً أكثر من اللازم.”
“متى جئتِ إلى هنا؟”
“بعد زواج السيّدة بفترةٍ قصيرة، أرسلتِ في طلبي. كنتِ تنوين المجيء إلى قريتي بنفسكِ، لكنّي منعتُكِ، فكتبتِ لي رسالةً طويلة جدًّا. لم أستطع تجاهل كلّ ذاك الشوق والمحبّة التي أظهرتها، فكيف لي ألّا آتي؟”
“فهمتُ…”
يبدو أنّها كانت تشتاق لماريلّا بشدّة، في الماضي والحاضر. فمنزل الكونت آلانترا لم يكن مكانًا دافئًا، وكانت تشعر فيه بوحدةٍ قاسية.
“وكيف حال حفيدكِ المريض؟”
سألت ساي بحذر، متذكّرةً صورة ماريلّا وهي تغادر مُسرعة لرؤية حفيدها ذي العامين الذي مرض فجأة. كانت تتفهّم رغبة الجدّة في البقاء إلى جانب حفيدها، لكنّ مشهد الرحيل ذاك جعل دموعها تنهمر.
حين طُرح موضوع الحفيد، أظلم وجه ماريلّا بوضوح.
كان من الطبيعي أن يُصاب الأطفال بأمراض خطيرة أحيانًا، وإذا لم يتلقَّ الطفل العلاج المناسب ومات، فستكون ساي قد نبشت جرحًا مؤلمًا.
وربّما كانت ساي، قبل فقدان ذاكرتها، تعرف إن كان الحفيد على قيد الحياة أم لا.
وإن كانت تلك الذكرى سيّئة، فماريلّا ستضطر لاسترجاعها مجدّدًا.
حين وصلت أفكار ساي إلى هذا الحدّ، شعرت بأنّها كانت متسرّعة في سؤالها. ربّما كان من الأفضل أن تسأل روزا أو باقي الخادمات عن ذلك أولًا.
“قالوا إنّ مرضه سيء وقد لا يعيش طويلًا، لكنّه بخير حتى الآن. فقط أضعف قليلًا من بقيّة الأطفال، لا أكثر.”
تغيّر وجه ماريلّا قليلًا وانفرجت شفاهها عن ابتسامة خفيفة، مِما أشعر ساي بالارتياح.
“هل أُرسل لكِ بالأدوية التي تحتاجينها؟ أو طبيبٌ بارع إن أردتِ؟”
“…لا حاجة لذلك. لحُسن الحظ، حصلنا على دواء جيّد، وقد بدأ يُظهر تحسّنًا. سيبقى على الدواء مدى الحياة، لكنّ الأهمّ أنّه على قيد الحياة.”
أمسكت ساي بيد ماريلّا بمودّة.
“لا بدّ أنّكِ عانيتِ كثيرًا نفسيًّا يا مُربيتي.”
رؤية طفلٍ مريضٍ عن قُرب ومُعاناة عائلته أمرٌ مؤلمٌ جدًّا.
وساي تعرف هذا الألم جيّدًا، لأنّ والدتها كانت قد توفّيت بسبب المرض، وكانت أيّامها الأخيرة قاسية.
أجابت ماريلّا بتعبيرٍ مشوبٍ بالأسى.
“علينا أن نتقبّل الأمر كما هو.”
ثم بدّلت ماريلّا الموضوع فجأة.
“هل ما زال رأسكِ يؤلمكِ؟”
“أجل. سيستغرق الشفاء وقتًا… لكن لا بأس، أنا أفضل الآن.”
“لو حدث شيءٌ آخر كهذا، فقلبي لن يحتمل.”
ثم قالت ماريلّا بلطف.
“لا تمرضي، يا سيّدتي.”
“شكرًا لكِ، يا ماريلّا.”
رغم بساطة الكلمات، إلّا أنّ سماعها من شخصٍ أحبّها منذ طفولتها جعل قلبها يلين. تابعت ماريلّا كلامها بحذر.
“لكن، يا سيّدتي… هل حقًّا لا تتذكّرين شيئًا على الإطلاق منذ زواجكِ حتى الآن؟”
“نعم، لا شيء إطلاقًا. الأمر أشبه بأنَّ تلك الفترة طُمِستْ تمامًا كأنّها دُهِنت باللون الأبيض.”
“فهمتُ… كنتُ آمل أن تتذكّري ولو شيئًا صغيرًا.”
“لا تقلقي. ما نسيته هو ما حصل منذ الزواج وحتى الآن، لكنّي لم أنسَكِ، ولا الآخرين.”
“جيّد.”
قالت ساي متعمّدةً تخفيف الجوّ، وهي ترفع كتفيها مازحة.
“قيل إنّني كنتُ مريعةً هنا، أليس كذلك؟”
لم تستطع ماريلّا إنكار ذلك، فاكتفت بابتسامة ضعيفة. عندها تنهدت ساي بخفّة.
“الآن، لا أعرف حتى لماذا كنتُ كذلك.”
فقالت ماريلّا بمواساةٍ دافئة.
“الأمر الجيّد هو أنّكِ لم تعودي كذلك. سيّدتي، أو لنقل آنستي، كنتِ دائمًا ذات قلبٍ كبير وحنون. الآن، الجميع يُدرك ذلك، خاصّةً سيّدي الدوق، فهو يقدّركِ كثيرًا.”
“دوق ريفرستا يبدو أنّه اعتنى بي كثيرًا.”
“رغم أنّه لا يُعبّر كثيرًا بالكلام، إلا أنِّ أفعاله تُظهر كم يُحبّكِ. وأنا، كمُربية، سعيدةٌ لأنّكِ محبوبة. لا شيء أجمل من أن يُحبّ الإنسانُ إنسانًا آخر.”
بنجامين.
في الحقيقة، ساي كانت تتعمّد ألّا تُفكّر في آخر لقاءٍ لها معه بعد مغادرته للعاصمة.
فهي حسّاسةٌ جدًّا لتصرّفات الناس. بسبب بيئتها، كانت دائمًا تقرأ لغة الجسد ونبرات الصوت لتُميّز إن كان الآخر ودودًا أم لا.
ولم تكره اقتراب بنجامين منها.
بل شعرت بانجذابٍ غريزيّ نحوه.
ولهذا السبب، بدأت تتحفّز وتُقاوم. كانت تخشى أن تقع في حبّه دون أن تعرفه جيّدًا.
وخاصةً أنّها لا تعرف مشاعره هو، فإن أحبّته من طرفٍ واحد، فقد تجد نفسها تتبعه بلا حول ولا قوّة.
لأنّ الطرف الذي يُحبّ أكثر، هو من يخسر دائمًا.
لكن، كلّما حاولت ألّا تُفكّر به، فكّرت به أكثر.
عينيه. صوته. حركاته. كلّها كانت تعود إلى ذهنها وتُربكها أحيانًا.
أرادت أن تعرفه أكثر.
بينما كانت ساي غارقة في التفكير ببنجامين، سألت ماريلّا بحذر.
“ألن تُخبري كونت آلانترا بشأن فقدانكِ للذّاكرة؟”
نظرت ساي إلى ماريلّا فور سماعها هذا السؤال.
ماريلّا لا تعرف ما الذي حدث بعد مغادرة ساي. ويليام كان يتقن دور الأب الحنون، ويُجيد خداع الآخرين. لم يكن يشعر بأيّ ذنب حين يستغلّ الناس.
ربّما كان يُنظر إليه كأبٍ جيّد ومحبّ للعائلة في عيني ماريلّا.
وساي لم تُرِد أن تُظهر لها تلك الجراح.
لذا اختارت كلماتها بعناية.
“لا أريد أن أقلق والدي. ربّما سيتحسّن الوضع مع الوقت. ثم إنّني لم أفقد كلّ ذاكرتي.”
“ما زلتِ دافئة القلب كعادتكِ، يا سيّدتي.”
عندها، ضمّت ساي ماريلّا مجدّدًا بمودّة.
“طيبةُ قلبي تعود لأمّي ولمُربيتي.”
ذكريات الحبّ، وذكريات أن تكون محبوبًا.
لولا تلك الذكريات، كيف كانت ستبقى على قيد الحياة وسط نفاق والدها وتجاهل أخيها؟
ولذلك، ورغم أنّها لا تتذكّر كيف أقنعت المُربي بالمجيء، أرادت أن تحترم رغبتها لو أرادت أن تعود إلى عائلتها.
“إن شعرتِ يومًا بأنّكِ ترغبين بالحديث أو أنَّ الأمر صعبٌ عليكِ، فقط أخبريني. أنا سعيدةٌ بوجودكِ هنا، لكن إن أردتِ التوقّف عن العمل أو الذهاب إلى عطلة أو العودة لعائلتكِ، فقولي لي دون تردّد.”
كانت من القلائل الثمينين في حياتها، أولئك الذين ساعدوها على التظاهر بالقوّة داخل قفصٍ فاخر، وساعدوها على الثبات في الأوقات العصيبة.
“بقدر ما أحببتِني، أتمنّى أن تعيشي براحةٍ وسعادة، يا مُربيتي.”
“سيّدتي…”
صوت ماريلّا اختنق بالعاطفة. فقالت ساي بمزاحٍ صارم:
“لكن، إن لم تقومي بعملكِ جيّدًا، فسأوبّخكِ، فهمتِ؟”
“نعم، بالطبع.”
رغم هذا الكلام، كانت ساي تدرك أنّها لم تُكلّف ماريلّا بأعمالٍ شاقّة. فقط كانت تطلب منها التجوّل في الحديقة أو شرب الشاي معها – مجرّد رفيقة.
هل كانت ماريلّا تشعر بالوحدة؟
لم تكن ساي غافلةً عن مشاعر المُربية حين طلبت منها القدوم، رغم أنّها كانت تقضي وقتها مع عائلتها. لكن على ما يبدو، كانت وحدة ساي أكبر وأعمق بكثير.
كم هو أمرٌ مُحزن.
“ألا تشعرين بالوحدة في مكانٍ لا تعرفين فيه أحدًا؟”
عندها، ابتسمت ماريلّا كأنّها تعرف تمامًا ما يدور في ذهن ساي.
“كما تعرفين، أنا أحبّ العمل كثيرًا. وعائلتي تفهّمت رغبتي. كما أنّني أُربّي طيورًا هنا، لذلك لا وقت لديّ للشعور بالوحدة. قيل إنّ هذه الطيور كانت مملوكة لشخصٍ رفيع الشأن، وقد دُرّبت جيّدًا.”
“حقًا؟”
حين فكّرت ساي في الطيور، تذكّرت كيف كان والدها يُربّي الكثير منها في بيتٍ زُجاجيّ كبير.
الطيور كانت تطير داخل البيت، لكنّ الطيور الوحيدة التي يُمكنها الخروج منه هي التي تملك غريزة العودة.
أمّا البقيّة، فكانت تدور فقط داخل القفص الزجاجيّ.
وهذا يُشبه حالها تمامًا، ولهذا كانت تكره ذلك المنظر.
“ألا تشعر الطيور بالاختناق داخل القفص؟”
أجابت ماريلّا وكأنّها تعرف ما تفكّر فيه ساي.
“لحُسن الحظ، الطيور التي لديّ تملك غريزة العودة، فأُطلق سراحها أحيانًا لتطير خارج القفص، ثم تعود بعد أيّام. وإن لم تعد… فربّما وجدت حريّتها.”
كانت كلماتها لطمأنةً ساي.
فقد عرفت ماريلّا، التي رافقتها طويلًا، ما الذي تحتاجه من كلمات.
عندها، أسندت ساي رأسها على كتف ماريلّا. أرادت أن تدلّل نفسها قليلًا.
فقامت ماريلّا بتمرير يدها على شعرها بحنان.
سلامٌ داخليّ دافئ.
وربّما كانت قد استدعت المُرضعة رغم معرفتها بظروفها، لأنّها كانت بحاجةٍ لشخصٍ يمنحها هذا النوع من الطمأنينة.
‘لكن… لكي أشعر بالطمأنينة حقًّا، يجب أن أعرف ما الذي خطّط له أبي مع الخادمات.’
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 20"