الفصل 18 : 

كما لو أنّها إثباتٌ على أنّه لا توجد قدرةٌ بلا حدود، فإنّ القدرات الخارقة التي تظهر فجأة، كانت دائمًا ما تأتي مُقيَّدة بشيءٍ ما.

وكان ذلك القيد يُعرَف تلقائيًّا فور امتلاك الشخص لتلك القدرة.

في الحقيقة، من وجهة نظر الشّخص نفسه، بدا الأمر سخيفًا للغاية. قد يرغب بعض النّاس في قدراتٍ استثنائيّة، لكنّ الغالبية كانوا يجدون في هذه القيود الغامضة شيئًا مزعجًا.

ومع ذلك، كان عليهم تقبّل تلك القدرات كما لو كانت مرضًا وراثيًّا، دون أيّ خيار.

وفوق هذا، لم تكن تلك القيود تخضع لأيّ معيارٍ أو اتّساقٍ واضح.

كانت قدرة لوريلّاي هي النار والجليد.

كانت قادرةً على تجميد ما حولها في لحظة أو إشعاله، لكنّ جسدها لم يكن قادرًا على تحمّل تلك البرودة والحرارة المفرطتين، وبدأ في التّلف من منطقة القلب.

لحسن الحظ، لم تكن تشعر بأيّ ألمٍ على الإطلاق، ولكن حالتها الجسديّة كانت تُشير إلى أنّها ستموت فجأة في يومٍ ما عند بلوغ الأربعين تقريبًا.

ولو أنّ قدرتها كانت قد ظهرت بعد بلوغها، لربّما كانت ستعيش من خمس إلى عشر سنوات إضافيّة، لكنّها كانت إحدى الحالات التي ظهرت قدراتها في الطّفولة، لذا فقد كان الوضع أسوأ.

أما قدرة بينجامين فكانت القوّة الخارقة والحواسّ الخاصّة.

ولو أنّها ظهرت في صغره، لكان قد واجه صعوبةً في التّحكّم بها، لكنّ بينجامين كان محظوظًا، فقد ظهرت قدرته مباشرة بعد إتمامه سنّ الرّشد، وبما أنّه كان قد نضج، استطاع السّيطرة عليها حتّى في لحظات الغضب أو الانفعال.

أما قيده، فلم يكن له علاقة بالحياة أو الموت.

كان القيد هو: أنّه لا يستطيع قول “أنا أحبّك” لمن يُحبّ.

فإن حاول النّطق بها، تجمّد لسانه، وإن حاول كتابتها، تصلّبت يداه. من اللّحظة التي يُفكّر فيها بالاعتراف، يبدأ جسده بالتّجمّد.

لكن يبدو أنّ جسده لا يتفاعل إلا مع الحبّ العاطفي، بينما لا يمنعه من إظهار اللّطف الإنسانيّ أو القلق.

بعض النّاس اعتبروا أنّ حاله أفضل بكثير من حال لوريلّاي.

لكنّ البعض الآخر رأى أنّ عدم القدرة على الاعتراف بالحبّ للشّخص الذي يحبّه، هو في حدّ ذاته مأساة.

كان من بين النّبلاء مَن عاش عمره كلّه دون أن يقول “أُحبّك” لزوجته أو عشيقته. لذا، من وجهة نظر هؤلاء، لم يكن قيد بينجامين يُعتبر قيدًا أصلًا.

لكن، مَن لم يُعانِ بنفسه، لا يستطيع الحكم إن كان ذلك القيد ثقيلًا أم لا.

سار بينجامين صامتًا، وإذ بعينيه تقعان على الشّال الذي ترتديه لوريلّاي.

“المجوهرات جميلة.”

تأمّل بنجامين الأحجار المُعلّقة على الشّال بتأنٍ.

“ساي أيضًا تُحبّ الأحجار كثيرًا.”

شعرت لوريلّاي بتوتّرٍ في نظراته، فأمسكت بالشّال بكلتا يديها.

“لا تطمع فيها! إنّها أحجارٌ نادرة من مملكة أليسين، وكان من الصّعب الحصول عليها.”

“أنا فقط أتحدّث نظريًّا. لو كنتِ تُريدين أن تُظهري ندمكِ على كلامكِ السّابق، كان يمكنكِ منحها كلفتةٍ طيّبة.”

رغم أنَّ كلامه بدا عاديًّا، إلّا أنّ نظرات بينجامين ظلّت مُسلّطة بإصرار على شالها.

“ومع ذلك، لن أُعطيك إيّاها! أنت ثريّ على أيّ حال!”

“كنتُ فقط أتأمّل، لا أكثر.”

“مستحيل! لن أعطيك إيّاها!”

حدّقت فيه لوريلّاي بعينها التي لا تُغطّيها عصابة العين. فأجابها بينجامين ببرود:

“لو سمحت ساي، تعالي لزيارتنا في وقتٍ ما. أشعر أنّكِ ستنسجمين معها.”

“……حقًّا؟”

نظرت إليه لوريلّاي بتردّد، ثم احمرّ وجهها.

“رائع. هل هذا يعني أنّني سأحظى بصديقة؟”

كانت تبدو كطفلةٍ صغيرة.

فلأنّها كانت مُقيّدةً بعدم التّواصل مع الآخرين حفاظًا على سريّة قدراتها، فقد كانت دائمًا تحنّ إلى فكرة الصّداقة.

كان بينجامين على درايةٍ تامّة بهذا الجانب منها، لذا قال ببساطة.

“للمعلوميّة، ساي تُحبّ الأحجار الكريمة.”

“هممم. حسنًا. عندما أزوركم، سأهديه شالًا كهذا. ليس هذا بالضّبط، لكن سأشتري واحدًا مماثلًا. زوجتكَ لا تُحبّ الأشياء المُستعملة، أليس كذلك؟”

أجابت لوريلّاي بجفاء، مع بقاء أثر الاحمرار على وجهها.

“كيف حال زوجتك؟ هل أحببتَ الزّواج؟”

كانت العلاقة بين لوريلّاي وبينجامين، ليست شخصيّة للغاية، بل إنّ لوريلّاي غالبًا ما كانت تُبادر بالحديث كلّما زار بينجامين العاصمة الملكيّة.

وكان بينجامين، بشخصيّته الصّامتة، لا يُفصح بالكثير، لذا لم تكن لوريلّاي تعرف عنه الكثير.

ما جعل العلاقة بينهما تتوطّد، هو أنّ لوريلّاي رافقت بينجامين عدّة مرّات عندما ذهب لتطهير منطقة ديبيران المليئة بالوحوش.

ورغم أنّ بينجامين كان صاحب الجهد الأكبر، إلّا أنّ مساهمة لوريلّاي لم تكن بالقليلة، لذا قررت الأسرة المالكة تكريمها علنًا، تمامًا كما فعلت مع بينجامين.

لكن لوريلّاي، بدافع الكسل، رفضت ذلك التّكريم العلنيّ، وطلبت فقط مبلغًا كبيرًا وبعض الشّروط الّتي أرادتها.

عندما ذُكِرت ساي، ابتسم بينجامين ابتسامةً خفيفة وهو شارد الفكر.

فرأت لوريلّاي ذلك، ومدّت لسانها.

“إييييه. هل ابتسمت لأنّك فكّرت في زوجتك؟”

“نعم. أفتقدها.”

“رائع. بجديّة؟”

كانت لوريلّاي تعلم أنّ أقصى ما يمكن لبينجامين قوله من تعبيرٍ عاطفيّ هو “أفتقدها”، لذا شعرت وكأنّها سمعت اعترافًا صارخًا بالحبّ، وأمسكت بذراعها وهي تقشعرّ.

“هل استدعانا جلالة الملك من أجل ‘ذلك’؟”

سأل بينجامين فجأة بوجهٍ جاد، فأومأت لوريلّاي برأسها.

“ذلك.”

تمّ تطهير معظم مناطق ديبيران من الوحوش، لكن بسبب اتّساع المنطقة، وصعوبة ملاحقة كلّ الوحوش، لم يكن القضاء عليها جميعًا أمرًا ممكنًا.

من المحتمل أن يتمّ تكرار مهمّة تطهيرها بشكلٍ دوريّ.

وما زاد الطّين بلّة، هو أنّ الوحش القائد الّذي كان يتزعّمهم، لم يتمّ القبض عليه بعد.

ذلك القائد، ورغم إصابته إصابةً خطيرة، ضحّى بمئاتٍ من أتباعه ليفرّ. ولم يكن بمقدور مجموعة بينجامين ملاحقته بسبب الإرهاق الشّديد.

من قبل، لم يكن هناك ما يُدعى بـ”قائد الوحوش”.

لذلك كان ظهوره أمرًا غريبًا ومُقلقًا في آنٍ واحد، إذ مع وجود محورٍ مركزيّ، يمكن للوحوش أن تتجمّع في أيّ وقت.

وقد أُطلِق على ذلك الوحش اسم “ذلك”، لأنّ الحكومة أعلنت رسميًّا أنّ التّهديد في ديبيران قد زال.

ومنعًا لإثارة الذّعر، لم يتمّ الكشف عن فرار القائد الوحش.

وقد مرّ وقتٌ طويل دون أيّ حركة، ما جعل البعض يعتقد أنّه ربّما مات، لكن يبدو أنّهم اكتشفوا أثرًا له مؤخرًا.

“لن يكون أمرًا سهلًا.”

“وهل كان هناك شيء سهل من قبل؟”

كلّما زادت قدرة الفرد، زادت المهامّ الخطيرة الملقاة على عاتقه.

رغم أنّ المكافآت كانت جيّدة، إلّا أنّها لم تكن مناسبة لأولئك الذين يفضّلون الأمان أو يخشون المخاطر.

ولحسن الحظ، فإنّ بينجامين كان يتمتّع بشجاعة كبيرة.

وكان هناك موقفٌ واحد فقط يفقد فيه شجاعته…

وهو: حين يتعلّق الأمر بساي.

وبينما كانت لوريلّاي على وشك أن تُطلق تعليقًا آخر، أشار إليها بينجامين بعينيه، فسكتت فورًا.

رغم أنّ الشّخص لم يكن قد ظهر بعد، إلّا أنّ بينجامين، بحواسّه المتقدّمة، شعر بوجود أحدهم واقفًا.

هذا المكان لا يُسمح بدخوله إلا لمن حصل على إذن، أو للملوك.

ومع اقتراب الخطى، ظهرت امرأةٌ بابتسامةٍ متألّقة.

“من المفرح حقًّا أن ألتقي بأشخاصٍ أوفياء للعائلة الملكيّة مصادفةً كهذه.”

كانت تلك المرأة هي إلّيونورا، زوجة الملك السّابق، تقف وبجانبها وصيفتان وخادمان.

كانت إلّيونورا تنتمي إلى واحدة من أبرز العائلات النّبيلة، ودخلت القصر وهي شابّة، زوجةٌ لملكٍ مُسنّ.

ورغم أنّ الملك كان قد فقد زوجته الأولى، إلّا أنّه لم يمنح إلّيونورا لقب “الإمبراطورة”، لأنّه أعلن أنّه لن تكون له إمبراطورة غير تلك المتوفّاة.

وكان لقاؤه بها فريدًا: فقد كانت زوجته الأولى قائدة فرقة فرسان القصر، وأنقذته في موقفٍ خطر، فوقع في حبّها، وتزوّجها بعد سعيٍ طويل.

وبعد وفاتها، لم يتزوّج مرّة أخرى، ولكن عائلة إلّيونورا أصرّت على هذه الزّيجة لأسبابٍ سياسيّة.

لم يُعاملها الملك معاملةً سيّئة، بل كان لطيفًا ومُحبًّا لها، رغم فرق السّنّ الكبير، وكانا يعيشان بسعادة.

لكنّها لم تبقَ بجانبه طويلًا، فقد مات الملك بعد أقلّ من خمس سنوات من زواجهما.

كان الملك ضعيف البنية، وعاش حياته حذرًا، لكنّ موته لم يكن بسبب المرض، بل بحادث.

سقط من على حافّة جرفٍ أثناء رحلة استجمام، بعد أن حاول قطف زهرةٍ بيضاء نمت عند الحافّة.

وكان لا يزال ممسكًا بتلك الزّهرة لحظة موته.

وتقول إحدى الرّوايات الرّومانسيّة إنّه كان يريد أن يُهديها إلى إلّيونورا، لكن لا أحد يعرف الحقيقة سوى الميّت نفسه.

بعد وفاته، تولّى العرش وليّ العهد، أوسكار.

وأصبحت إلّيونورا، أرملة الملك السّابق، سيّدةً محترمة ذات مكانةٍ مرموقة داخل العائلة المالكة.

كانت بشعرها الأشقر الكثيف، وعينيها الخضراوين، وشفتيها الحمراوين الممتلئتين، لا تزال جميلة إلى حدٍّ كبير.

وبما أنّها تزوّجت في عمرٍ صغير، فإنّها ما تزال شابّة وجذّابة، وزادتها ملامح النّضج أنوثةً وسحرًا.

قال بينجامين، من دون استخدام أيّ عبارات مُنمّقة.

“إنّه لشرفٌ لي أن أُقابل سموّ سيّدة القصر.”

وبحُكم مكانته كدوق، كان بينجامين في مرتبةٍ تُقارب مرتبة أفراد العائلة المالكة، فكان بإمكانه التّحدث معها على هذا النّحو.

أما لوريلّاي، فانحنت لها احترامًا، قائلةً:

“يشرفني لقاء سموّ السّيّدة الفاضلة، الحكيمة والعطوفة.”

《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》

═════• •✠•❀•✠ •═════

الترجمة: فاطمة 

حسابي ✿

《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》