لن أخدع مرتين [ 69 ]
لم تُرخِ إيزابيلا حذرها وهي تواصل الحديث.
“سمعت أن القصر الإمبراطوري داخلًا وخارجًا يعيش في انشغالٍ كبير هذه الأيام باستقبال فترة نادرة من التبادل السلمي.”
فبعد زمنٍ طويلٍ من الحروب المستمرة، كان هذا بحق أول ظهور لـ الدبلوماسية.
“فقط قلقتُ من أن تكون وراء زيارة جلالتك إلى هذا المكان في وقت كهذا أمورٌ طارئة.”
وبمعنى آخر، القصر مشغول حتى الاختناق بالتحضير لاستقبال وفد مملكة هيليبور، فماذا تفعل أنت هنا؟
لم يكن فايتشي ليفوته قصدها، فأطلق ضحكة قصيرة.
بفضل ملامحه الوسيمة بدت ابتسامته رقيقة، لكنها في حقيقتها لم تكن سوى ضحكة سخرية لا تصدَّق.
“أخي الأكبر يُدير كل شيء بإتقان، فلم يبقَ ما أستطيع مساعدته فيه.”
بمعنى آخر، الذي عليه أن يسعى لئلا يفسد الأمور هو ولي العهد وحاشيته، لا أنا.
“ثم خطر لي أن أزور الجمعية لعلني أتمكّن من أن أشاركهم بشيء من متعة الأرواح.”
هكذا غلّف سبب وجوده هنا، وكأنه يريد أن يُظهر لمملكةٍ تزدري الأرواح عظمة قوتها.
لم يكن هناك ما يستحق الجدال أكثر مع مثل هذا التبرير.
“إذن يبدو أننا نعيق طريق جلالتك. سننسحب الآن.”
سحبت إيزابيلا ثيو من معصمه إلى جانبها.
فاتّبعها بهدوء، لكنه التفت ليُلقي تحية قصيرة على فايتشي، ثم ظلّ يحدّق فيه طويلًا كأن أمرًا ما يشغله.
ابتسم فايتشي له ابتسامة جانبية خفيفة.
“آه، صحيح. يا روحانية ماكا.”
توقفت إيزابيلا عن الحركة عند مناداته، وأدارت رأسها نحوه.
رأته يبتسم ابتسامة وادعة، لكن بما أنه قرر ألا يضع أي قناع أمامها، فقد كانت ابتسامته هذه مروِّعة.
“كيف حال نائب الماركيز؟ سمعت أنه مرّ بأمر صادم.”
كم كان وقحًا وهو نفسه الذي فجّر المنجم بيديه.
“لا داعي لقلقك. بفضلك حصل على رؤية عظيمة. وهو الآن يضع خطة جديدة للمنجم.”
غطّت حديثها بذكر خطة المنجم لتبدو عابرة، لكن ما قصدته بـ الرؤية العظيمة لم يكن سوى كارتر.
فبفضل الفوضى التي أحدثها فايتشي صار كارتر الذي كان عينَيه وأذنيه في قبضتهم، وهذا منحهم فعلًا رؤية واسعة.
لقد كان في كلامها استفزازٌ مبطَّن.
“ذلك حقًا خبر مفرح.”
لكن فايتشي بدا وكأنه غير مكترث بمثل هذا الاستفزاز.
رمق ثيو بطرف عينيه قبل أن يعود بنظره إليها ويضيف:
“لقد أقلقتني الأخبار عنكما، أنكما مكثتما طويلًا في مكانٍ مظلم.”
كان يُلمّح إلى الحادثة التي علقت فيها هي وليكاردو في المنجم.
“خشيت أن يكون قد أصابكما ضيقُ تنفّس أو ما شابه.”
بدا وكأنه يريد التلميح، لحسن الحظ أنكِ لستِ مصابة برهاب الأماكن المغلقة.
لكن إيزابيلا شعرت بغرابة في كلامه.
هل كان من الضروري أن يستخدم بالذات عبارة ضيق التنفس؟
لم تستطع أن تحدد الخلل بدقة، لكنها شعرت بضيقٍ جعلها تعجز عن الرد.
“على كل حال، حسنٌ أن شيئًا كهذا لم يحدث.”
أردف فايتشي بجملة قصيرة، ثم ابتسم راضيًا وهو يتراجع خطوة إلى الوراء.
“إذن اعتنيا بأنفسكما. يا روحانية ماكا… ويا كونت لامارت.”
هل هو مجرد وهم أم أنه يبالغ في التأكيد على نعتي بـ روحانية ماكا؟
هل بلغ به الضيق إلى هذا الحد لمجرد أنها صارت روحانية بيت ماكا؟
بعد أن اختفى داخل المبنى، وقفت إيزابيلا مع ثيو في مكانهما صامتين للحظة.
“لنذهب إلى البيت.”
قالت ذلك وهي تمسك يد ثيو وتسحبه، محاولةً أن تطرد عنها ذلك الشعور المقزز وكأن أفعى باردة زحفت على جسدها.
أرادت فقط أن تعود وتغتسل بماء دافئ.
لكن ثيو لم يتجاوب مع سحبها، كأنه صخرة جامدة.
التفتت إليه لتجد على وجهه تعبيرًا معقدًا.
“ما بك؟”
“أشعر الآن فقط أن المكان لم يعد دار الأيتام.”
“هاه؟”
“ذلك البيت الذي تتحدثين عنه.”
كان وجه ثيو غريبًا، وفيه شيء من الضيق، بل ربما غضب قليل.
“حين كنتِ تمسكين بيدي وتقولين ‘لنذهب إلى البيت’، كان ذلك يعني دومًا العودة إلى دار الأيتام.”
هناك، كانا دائمًا بعد الاستحمام ينامان في الغرفة نفسها، على السرير نفسه، وأيديهما متشابكة.
وحين كبرا، وفُصلت غرف الذكور عن الإناث، كانا أحيانًا يتركان سريريهما ليناما معًا على الأريكة.
لكن الآن… لقد ولّت تلك الأيام.
“الآن حين تقولين لنذهب إلى البيت… أشعر وكأننا في الحقيقة نسير كلٌّ في اتجاه مختلف.”
كان بيت ثيو هو القصر الجانبي لماكا.
وكان بيت إيزابيلا هو القصر الرئيسي لماكا.
صحيح أنهما تحت اسم أسرة ماكا نفسها، لكن الأمر كان مختلفًا.
“أما أنا، فـ’البيت’ عندي لم يكن سوى أنتِ.”
لم يكن المقصود مجرّد مبنى يُسكن فيه، بل إن البيت بالنسبة لثيو كان حيثما تكون إيزابيلا.
ولذلك بدا له قولها “لنذهب إلى البيت” غريبًا وثقيلًا.
“لقد مرّ الوقت يا ثيو. لا يمكننا أن نظل تحت مظلة دار الأيتام إلى الأبد.”
مرور الزمن وتبدّل الحال كان أمرًا لا مفرّ منه.
العالم يمضي، وأعمارهم تكبر، والتغيّر حتمي.
وأفضل ما يستطيعون فعله هو التكيف معه.
بعد كل ما مرّت به إيزابيلا، تقبّلت هذا الأمر بهدوء، لكن ثيو لم يستطع بعد.
أسند ثيو جبهته على كتفها.
كان يكره التغيّر، يتمنى لو توقف كل شيء كما هو.
كان يخشى المستقبل المجهول… كثرة المتغيرات.
وكان داخله خوف عميق، أنه في مكان ما على ذلك الطريق سيفقد يدها.
قبل بضع عشرات الدقائق، تلقّى ثيو تقريرًا من ناياس الروح الذي أرسله لمتابعة إيزابيلا.
أخبره بأنها داخل مبنى جمعية الأرواح.
وهناك، يقلّ الاتصال الروحي بمجرد دخول المبنى، فضلًا عن أن إيزابيلا تعرّضت فيه سابقًا لموقفٍ خطير حتى وإن كان من تدبيرها فقلق عليها ثيو وجاء مسرعًا.
لكن عند الباب الخلفي، التقى بمن لم يتوقّع لقاءه.
‘لم أتوقع أن أراك هنا…’
كان الأمير فايتشي دويتشلان يتجوّل عند الباب الخلفي وكأنه ينتظر شخصًا.
‘هل كنت تنتظر إيزابيلا؟’
ربما أراد الانتقام لما لقيه منها.
ولم يخطر ببال ثيو سبب آخر يجلب الأمير إلى هنا.
فبشيء من الحذر والقلق سأله.
‘هم؟ لا، كنتُ في الحقيقة أنتظرك.’
جمدت أطراف ثيو عند هذه الإجابة.
لم يجد سببًا يجعل الأمير ينتظره، إلا إن كان قد اكتشف شيئًا ما.
‘هل لك حاجة بي؟’
سأله بتوتر، لكن الأمير فجأة فتح موضوعًا آخر تمامًا.
“كنت فقط فضوليًا بشأن رأيك. عن رجلٍ وامرأة يعيشان تحت سقف واحد.”
“…عذرًا؟”
بدت كلمات الأمير غريبة، لكن سرعان ما اتضحت بنيّة ما أضافه.
‘أقصد محبوبتك. هل يليق أن تظل في بيت ماكا هكذا؟’
كان ذلك على الأقل ليس السؤال الذي خشيه ثيو.
لكن حتى هذا السؤال لم يكن مريحًا.
‘ماذا تقصد بذلك؟’
‘فقط أتساءل… رجل وامرأة في عزّ الشباب، يعيشان متقاربين، ألا يثير ذلك فيك شيئًا؟’
ترك كلامه معلقًا كأنه لا يعرف الجواب.
‘أنت تعلم… البشر بطبيعتهم، حتى لو لم تكن بينهم أي صلة، فإن قضاء وقت طويل معًا ورؤية بعضهم كل صباح ومساء قد يولّد بينهم مودة لم تكن موجودة.’
أليس هذا ما يفسر سرعة تقارب الناس في ساحة الحرب؟
‘حتى الأعداء، إن التقيت بهم كل يوم، تنشأ بينكم مشاعر ما.’
لو سمعت إيزابيلا هذا لثارت بشدة، لكنها لم تكن حاضرة.
‘إن صرتما قريبَين أكثر، فذلك لا يضرني، بل ينفعني.’
‘همم~؟’
مسّد فايتشي ذقنه وهو يتأمل رد ثيو كأنه وجده مثيرًا للاهتمام.
‘إن كنت تقول هذا… حسنًا.’
أنهى الحديث بلامبالاة وهو يهز كتفيه، ثم أضاف بصوت خفيف.
‘أما أنا، بعقليتي المحافظة، فلا أستطيع أن أفهم.’
وكان ذلك بالضبط حين ظهرت إيزابيلا.
تظاهر ثيو أمام الأمير بأنه لم يفهم شيئًا مما قال، لكن في داخله كان يضع كل كلمة على محمل الجد.
خصوصًا أن قلقه كان يتزايد منذ حادثة انفجار المنجم.
‘إيزابيلا بالنسبة لنا أيضًا شخص ثمين، سنحميها ونصونها.’
كانت كلمات الأمير في الظاهر بلا معنى كبير، مجرد حديث عابر.
لكنها وجدت طريقها لتثير قلق ثيو، حتى كاد يفتعل المواقف كي يطلق توتره.
‘إيزابيلا، يبدو أننا سنكون وحدنا نحن الاثنان.’
حتى مسألة الذهاب معها للصيد على انفراد لم تكن في الأصل أمرًا يستحق هذه الحساسية.
ومع ذلك، لم يرضه ذلك، حتى فضّل أن يخاطر ويشارك في مسابقة الصيد.
‘حتى عاطفة لم تكن موجودة قد تنشأ.’
كانت تلك الحجارة الصغيرة التي جمعها الأمير كلمة بعد أخرى قد تراكمت في صدر ثيو حتى صارت جبلًا.
‘لنذهب إلى البيت.’
باتت هذه الكلمة بالذات تمزّق صدره وتثير اضطرابه.
لم يعد يعرف ما إذا كان تفكيره صحيحًا أم لا.
“هاه…”
كلما حاول أن يزفر ضيقه، تسلّل القلق لملء فراغه.
“لا تقلق كثيرًا. كل الناس يخافون من المستقبل، هذا أمر طبيعي.”
طمأنته إيزابيلا وهي تربت على ظهره.
لكن على غير عادته، لم تصل كلماتها إلى قلبه.
كلمة واحدة منها كانت كفيلة أن تبدّد همومه دومًا… إلا اليوم.
“إن كان يزعجك أن نذهب كل مرة إلى مكان مختلف، فماذا لو انتقلتُ إلى القصر الجانبي؟ لو طلبنا من نائب الماركيز، سيوافق.”
كانت تقول ذلك لأجله، لكن في داخله كان هناك شعور صغير بالغيرة، يرفض حتى أن تضطر هي للكلام مع ليكاردو بسببه.
هذه الغيرة وهذا الوجه المظلم في داخله كان غريبًا عليه هو نفسه.
لكنه لم يستطع السيطرة على عاطفته.
“لا… لا، ليس ضروريًا.”
قالها وهو يحاول طرد تلك الأفكار، ومضى معها بخطاه.
مؤمّلًا أن يأتي الغد أو الأسبوع القادم وقد هدأ قلبه من جديد.
ولم يكن يدري أن ألاعيب فايتشي قد بدأت تتسرّب بهدوء وتسيطر على أعماق نفسه.
—
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول. وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
التعليقات