لن أخدع مرتين [ 47 ]
في ليلةٍ يسطع فيها الهلال الأخير.
ساد السكون في قصر الأمير.
لم يُسمع سوى صرير صرصور يقطع الصمت بين الحين والآخر.
كان فايتشي متكئًا على الأريكة غارقًا في التفكير، ثم مدّ يده إلى كأس الويسكي على الطاولة.
تألقت قطع الثلج داخله بانعكاس ضوء الموقد، وأصدرت طنينًا خافتًا وهي تتصادم بجدران الكأس.
“همم…”
ارتشف جرعة صغيرة، ثم حدّق في ألسنة النار المتراقصة.
“كان أحمق، لكنه مع ذلك من ذوي المرتبة العليا… مؤسف.”
تمتم وهو يستحضر صورة الكونت موتكان.
فالكونت اعتُقل بتهمة تهديد حياة أحد الروحانيين.
وكان من المقرر أن يُحاكم، غير أنّ فايتشي لم يكن ينوي أن يمد له يد العون.
فما إن تلقى التقرير عما جرى في مبنى الجمعية، حتى تخلى عنه.
كان ورقةً محروقة على أي حال.
ولو أنه استطاع التخلّص من تلك المرأة لكان أمرًا حسنًا، لكن فشله لم يترك في نفسه أسفًا كبيرًا.
“أيُعجز المرء عن التخلّص من امرأة واحدة؟”
وبما أنّ فايتشي قد رفع يده عنه، فلن يجرؤ أحد في الإمبراطورية على نجدته.
وهكذا فقدت الإمبراطورية واحدًا آخر من الأرواحيين الكبار.
لكن ما خفف وقع ذلك على فايتشي أنّ موتكان لم يمضِ وقتًا طويلًا في مرتبته العليا.
فلو أنه كان قد استثمر حوله جهودًا لسنين، لكانت الخسارة أعظم.
أما الآن، فلم يكن الأمر أكثر من حرمانه من فرصة بناء قوة جديدة، ولم يُقتلع ركنٌ قائم بالفعل.
ومع ذلك، لم يستطع الاطمئنان.
‘تحسّنت حالتها.’
‘ماذا؟ أأنت متأكد؟’
‘نعم، بلا شك.’
‘ألست قد بالغت في وصف الدواء لها؟’
‘كانت الجرعات كما في السابق تمامًا.’
شيء غريب أخذ يتبدّى في أحد أعمدته.
كارتِر، ذراعه اليمنى وظله الذي ينجز له كل ما هو قذر…
ابنته المريضة سارا بدأت فجأة تتحسن حالتها.
كان فايتشي قد أوكل طبيب القصر الملكي بمتابعة وضعها باستمرار، وهو من كان يصف لها الأدوية.
فبواسطة تلك الأدوية كان فايتشي يتحكم بكارتر.
إذا أسدى خدمةً مُرضية، مُنحت الفتاة دواءً أفضل.
وإن أساء، وُصف لها دواء أضعف يجعلها تتألم.
كانت تلك وسيلة ضبط مثالية، كزمامٍ على عنق كلب مطيع.
غير أنّ الفتاة أخذت تتحسّن مؤخرًا خلافًا لما ينبغي أن تؤول إليه حالها، وبرغم وصفات طبيبه.
وكانت تلك علّة لا يمكن أن تبرأ من تلقاء نفسها.
فأمر بإجراء تحقيقٍ سري.
لكنه لم يستطع زرع مراقبين حول كارتر نفسه، إذ كان يكتشفهم بسهولة.
فوجّه التحقيق نحو ابنته وبيتِه.
وكما توقع…
‘بهذا الدواء، لابد أن تتحسّن.’
ظهر دواء لم يصفه طبيبه.
‘أيّ دواء هذا؟’
‘إنه يحوي ماء الأرواح، دواءٌ نادر يعدّه الصيادلة شبه علاجٍ لكل داء.’
ماء الأرواح كان يحمل قوة الشفاء.
كما أنّ خرز النار يثير الحريق، وحجارة التراب ترفع الحواجز، فإن ماء الأرواح يشفي الأمراض كافة.
وقد كانت الجمعية تنتجه أحيانًا لأغراض البحث، فلا يُعدّ نادرًا كالأدوات الروحية النادرة، لكنه لم يكن دواءً في متناول كارتر ماديًا.
‘الكلب يحاول أن يقطع طوقه، هاه…؟’
كلبٌ متمرّد لا يعجبه.
وما أثار اشمئزازه أكثر أنّ وجه تلك المرأة الحقيرة هو ما خطر له في تلك اللحظة.
‘تلك الوضيعة المريبة…”
حين علم بفشل خطة موتكان، ازداد يقينًا.
المرأة لم تكن عادية.
فهو يعرف خطة موتكان أدقّ من أي أحد، غير أنها تحايلت عليها واستخدمتها لصالحها.
خدعَت الكثيرين بتمثيلها، لكن فايتشي كان يدرك الحقيقة.
‘وقحة…’
وأثارته الرغبة في تحطيمها أكثر.
أخذ يمرر سبابته على حافة كأسه، ثم ارتشف ما تبقّى منه حتى آخر قطرة، وهمّ بأن يملأه من جديد.
عندها ـ طَرق. طَرق.
اخترق صمت الغرفة صوتُ طرقٍ على الباب.
“ادخل.”
فتح الباب ودخل كارتر.
ناول فايتشي كأسه الفارغ لكارتر.
“لا بأس يا مولاي.”
“خذه.”
كان صوته آمرًا، فما كان من كارتر إلا أن تردد قليلًا ثم مد يده.
ألقى فايتشي قطعتين صغيرتين من الثلج في الكأس، وملأه بالويسكي حتى فاض.
“سيدي…؟”
ناداه كارتر متوجسًا، غير أنّه لم يعره انتباهًا، وواصل صبّ الشراب.
حتى كاد يفيض من حافته.
“اشرب.”
ارتجفت نظرات كارتر.
فهو لم يكن يحتمل الشراب، وكأسٌ واحد من الويسكي كفيل بأن يسكره.
أما هذه الكمية، فلا بد أن تطرحه أرضًا فاقد الوعي.
وفايتشي يعلم ذلك جيدًا.
خفق قلب كارتر بعنف، إذ غشيه شعور بالقلق.
فهو يعلم أنّ سيده لا يقدم على فعل شيء بلا مقصد.
حتى دعوته المفاجئة هذه لا بد وراءها غاية.
“أتعصي أمري ولا تشرب ما أهبه لك؟”
رفع فايتشي بصره إليه، وبسمته ماكرة لكن عينيه تخلو من أي ضحكة.
ابتسامة تقشعر لها الأبدان.
وعندها تذكّر كارتر كلمات إيزابيلا:
“سيدي، مساعدتك لي أمر أشكره، لكن إن لم تكن تنوي أن تكون رجلي بحق، فالأجدر أن تتوقف. ففايتشي ليس من السذاجة بحيث يُخدع بسهولة.”
لأنه كان يظن نفسه أقرب المقرّبين إليه، فقد توهّم أنه يعرف كل صغيرة وكبيرة من شؤونه، فأمِن جانبَه.
لكن الحقيقة أنّه لم يكن هو العارف بكل شيء، بل كان الآخر هو الذي يعرف عنه كل شيء.
“سأ…أشربه شاكرًا.”
لم يكن بوسع كارتر أن يرفض كأس الأمير.
“اشربه دفعةً واحدة.”
فامتثل للأمر، ورفع الكأس الممتلئ إلى فمه وأسقاه حلقه دفعةً واحدة.
لسع الويسكي الحارق حنجرته ومريئه، حتى تمنّى لو تقيأه في الحال، لكنه لم يستطع.
وصلت الحرارة إلى معدته، فأحسّ جسده يلتهب، وأنفاسه تلهب صدره بطعم حارق.
“كح… كح.”
اختنق وهو يبتلع قطع الثلج، فسعل مرارًا حتى كاد صدره ينفجر، وزاد ضغطه على معدته.
“ألا تجد مذاقه رائعًا؟ إنه ويسكي أُهدي إليّ من مملكة هيليبور.”
قالها فايتشي بهدوء وهو يسكب كأسًا ثانية لكارتر، حين أعاد إليه الكأس الفارغ.
وملأه من جديد… حتى فاض.
“يا… مولاي…؟”
همس كارتر بصوت مرتجف، لكن فايتشي ابتسم بعينيه نصف إغماضة وقال بنبرة ناعمة:
“أردت أن أشاركك هذا الشراب النفيس… فأنت أعزّ عليّ من سواك.”
كانت كلماته رقيقة، لكنها محمّلة بأشواك صغيرة.
“نخبك.”
رفع فايتشي كأسه، لكن كأسه لم يحتوِ سوى القليل، بينما امتلأ كأس كارتر حتى حافّته.
ثم قرع كأسه بكأسه واحتسى رشفة صغيرة، وعيناه لا تفارقان عيني كارتر.
لم يستطع كارتر أن يرفض.
ارتجفت يداه وهو يفرغ الكأس الثاني، وأطلق شهقة مكتومة وهو يترنّح.
ارتفعت الخمرة إلى رأسه فدار به المكان، وكادت ساقاه تخذلانه.
لكنه تماسَك بصعوبة وقال:
“إن كان مولاي يبحث عن رفيق للشراب… فربما أجد لك مَن يسليك أكثر مني.”
كان صوته ملؤه التضرّع، كأن عقله يرفض الاستسلام رغم ثقل لسانه.
لكن فايتشي لوّح بيده رافضًا:
“لا حاجة… أنا أردت أن أحتسيه معك أنت بالذات.”
وكان في صوته دفء يقطر مودة، لكن كارتر علم أن تلك المودة لم تكن بريئة، بل أشبه بأغنية سيرين الساحرة التي تستدرج السفن إلى الهلاك على الصخور.
“كأس ثالثة؟”
“لا، كفاني….”
رفض كارتر على عجل، حتى بدا صوته أشبه برجاء يائس.
فابتسم فايتشي راضيًا وهو يراقبه يصارع لئلا ينهار، وكأنه وجد في ضعفه متعة.
“حسنًا يا كارتر. ألا تريد أن تقول لي شيئًا؟”
ارتجف كارتر للحظة، ثم هز رأسه نافيًا:
“…لا، يا مولاي.”
“حقًا؟ لا شيء؟”
لم يجب.
لكن السؤال كان يحمل نبرة من يعرف الحقيقة مسبقًا، ويطالب بجواب محدّد.
ابتلع كارتر ريقه بصعوبة، إذ بدا له وكأنه يبتلع مع الشراب ما تبقى من شجاعته.
“لا داعي للتفكير كثيرًا. أسألك إن كان لديك تظلّم… أو مطلب.”
“…لا، مولاي.”
قالها متماسكًا بصعوبة، بينما قبضته ترتجف من شدّة التوتر وهو يتشبّث بوعيه.
“هُمم… هكذا إذن؟”
رمقه فايتشي بنظرة طويلة، كأنه يزن إخلاصه.
وعلى الرغم من أنّ كارتر يترنّح ولا يكاد يملك قواه، ظلّ فمه مطبقًا بإصرار.
للحظة فكّر فايتشي أن يسقيه أكثر ليُضعفه تمامًا، لكنه عدل عن ذلك؛ فاعترافات تُنتزع في سُكرٍ كهذا لا يُوثق بها.
أما اليوم، فلم يكن الهدف سوى تذكير بسيط وتحذير خفي.
“إذن لا بأس.”
ملأ كأسه من جديد وأضاف بنبرة عابرة:
“تذكر حديثنا السابق؟ عن المنجم.”
“تقصد منجم بيت ماكا، يا مولاي؟”
“أجل، ذاك بالذات.”
جالت عيناه الكسولتان على وجه كارتر، ثم أردف:
“سأبدأ بتنفيذه. ما رأيك؟”
“أتّبع أوامرك، يا مولاي.”
أجاب كعادته بلا تردد، لكن فايتشي قرأ في عينيه أكثر مما قاله لسانه.
“جيد… إذن استعد.”
كانت تلك إشارة الانصراف، فانحنى كارتر ببطء، ثم أسرع متعثّرًا إلى خارج الغرفة.
وبإغلاق الباب، عادت السكينة الباردة إلى المكان.
ارتشف فايتشي رشفة صغيرة من كأسه وهو يتمتم:
“لقد رُميت النرد….”
لم يبقَ سوى انتظار النتيجة.
أيسلخ كلب الصيد في الماء المغلي؟
أم يُبقيه إلى جولات صيد أخرى؟
فذلك الكلب ما زال نافعًا بعد، والأفضل أن يظل على قيد الخدمة.
وانعكس وهج النار المشتعلة على عيني فايتشي الحمراء، فتألقت بوميض مخيف.
—
معليش على الغيبه بس جيوبي الانفيه أثرت في عيوني كمان وماقدرت اتحمل شاشه التاب
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول. وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
واتباد : punnychanehe
واتباد احتياطي : punnychanehep
التعليقات