4
“هل تسمعنا؟ أيمكنك الإجابة؟“
وجهت لاسيل سؤالها إلى الفراغ الذي ما زال يتردّد منه صرير الأقدام الغامض.
فما هي إلا لحظات حتى اهتزّت الورقة بخفّة، وبدأ السهم الخشبي يتحرّك وحده دون أن يمسّه أحد.
“لِماذا… لِماذا يعمل هذا حقًا؟!”
“لأنّه استحضارُ أرواح، طبعًا…”
بينما كانت إليان تصرخ رعبًا، انزلق السهم ليدلّ على العبارة.
“لستُ أنوي إلحاق الأذى بك.”
“وإن كان يكذب؟ ماذا لو كانت كذبة؟“
ظنّت إليان أنّها وجدت إجابة، لكنها في الحقيقة لم تفعل سوى أن تفتح بابًا لمشكلة جديدة.
وما إن أنهت كلامها حتى تردّد السهم لحظة، ثمّ أشار إلى جملةٍ أخرى. “لقد قُتِلت.”
تبادلت إليان ولاسيل النظرات المذعورة.
حتى لاسيل، التي اعتادت رؤية الأرواح، لم تواجه يومًا شبحًا يتحدّث بهذه الصراحة.
“ما الذي تعنيه بذلك؟“
ارتجف صوت إليان وهي تطرح السؤال، فاهتزّ السهم ثانية وأشار إلى عبارةٍ لم تكن تتوقّعها.
“هل يمكنني الحصول على فنجان شاي؟“
“…هاه؟“
لم يكن في حسبانهما أن يطلب الشبح شيئًا كهذا في تلك اللحظة بالذات.
أسرعت إليان إلى المطبخ، لكنّ كل شيء كان غارقًا في الظلام، ولم يُرَ إلا الضوء الخافت في غرفة نومها.
فلم تجد سوى كوب ماءٍ كانت قد تركته قرب سريرها.
“هل الماء يكفي بدلًا من الشاي؟“
تحرّك السهم وأشار إلى كلمة “شكرًا.”
ربما كان ذلك قبولًا.
وقبل أن تستوعب المرأتان ما يحدث، اهتزّت الطاولة قليلًا، فانسكب بعض الماء على الورقة.
تموّه الحبر، ثمّ أخذ السهم يتحرّك عبر البقع الرطبة، يرسم كلماتٍ جديدة.
“أنا الابن الثاني لعائلة الماركيز. توفيت منذ خمس عشرة سنة.”
“خمس عشرة سنة؟!”
قالت إليان بصوتٍ مرتعش.
فإذا كانت ذاكرتها صحيحة، فقد تمّت خطوبتها قبل ثلاث سنوات فقط.
“لكن… الخطوبة…”
تحرّك السهم ببطءٍ وأشار إلى “لا.”
“أتقصد أنّك كنتَ ميتًا حينها؟ وأنهم أخفوا ذلك وأجروا الخطوبة؟“
“نعم.”
“ولِماذا أخفوا موتك؟“
“لست أعلم على وجه الدقة، لكن يبدو أنهم طمعوا في ثروة عائلة الكونت.”
كتب السهم هذه الجملة بحبرٍ باهتٍ يكاد يختفي.
حدّقت لاسيل في الورقة مطوّلًا، ورفعت حاجبًا بتفكير.
‘هل من الآمن أصلًا أن أسمع هذه الاعترافات؟‘
كانت هذه المعلومات كفيلة بفضح عائلة الماركيز تمامًا، وهذا ما ستعتبره يوجيريا كنزًا من الأخبار، لكن لاسيل لم ترتَح للطريقة التي وصلتها بها الحقيقة.
“ولِماذا جئت إلى هنا إذًا؟“
تحرّك السهم ببطء، تاركًا خلفه حروفًا مشوشة باهتة.
“الماركيز… الناس… سيأتون… اهربي قبل…”
لكن الحبر تلاشى قبل أن تكتمل الجملة.
ومع ذلك، فهمت إليان المقصود على الفور.
“عائله الماركيز؟ ومتى سيأتون؟“
لم يأتِ أي ردّ.
توقّف السهم عن الحركة تمامًا، كما لو انقطع الاتصال فجأة.
“لِمَ لا يُجيب؟“
“لقد أشرقت الشمس.”
رفعت لاسيل نظرها نحو النافذة، فأشارت إلى الضوء الذي بدأ يتسلّل.
لقد كان تركيزهما على الورقة قويًا لدرجة أنّهما لم تلاحظا أن الفجر بزغ، وأنّ كل شيء في المنزل عاد إلى حالته الطبيعية.
“حسنًا… هذا يعني أن…”
بدت إليان تائهة الأفكار وهي تتحدث.
“عائلة الماركيز خطّبتني لرجلٍ ميت منذ البداية؟ أليسوا مجانين؟!”
“بل مجانين تمامًا…”
“وما غايتهم؟ حتى لو أرادوا ثروة عائلتنا، فهم أكثر غنًى منّا!”
“…”
غرقت لاسيل في التفكير للحظة.
أول ما عليها فعله هو التأكد من أنّ الشبح الذي تحدّث معهما فعلًا هو الابن الثاني للماركيز.
كانت قد نسيت أن تطلب منه إثباتًا لهويّته وسط توتر اللحظة، وربما لم يكن سوى روحٍ أخرى.
لحسن الحظ، ما زال الحبر على الورقة، وسيكون التحقّق ممكنًا.
“…يبدو أن هذا ما يجب فعله. ما رأيكِ؟“
“فكرة معقولة… لكن من سيساعدنا في التأكد؟“
سألت إليان وهي تحدّق بالورقة التي تحمل تلك الكتابة الغريبة.
فحتى إن وُجدت عينات من خط الابن الثاني، فكيف يمكن العثور عليها الآن؟
“ربّما يعرف دوق سيرين.”
“آه، ذاك الرجل…”
كان المقصود هو إيرينيس سيرين، الابن الأكبر لعائلة دوق سيرين.
كان من المقرر أن يكون خطيب يوجيريا ذات يوم، لكنّ شخصيّتيهما كانتا متنافرتين حدّ النفور، فتمّ إلغاء الأمر.
وبسبب مرافقة لاسيل الدائمة ليوجيريا، صارت علاقتها بإرينيس أوثق من علاقة أنستها به.
عادةً ما كانت أحاديثهم الثلاثة تدور على النحو الآتي.
إيرينيس: “مرحبًا، مضى وقتٌ طويل. الجوّ جميل اليوم.”
يوجيريا: “نعم.”
إيرينيس: “تبدين شاحبة أكثر من قبل.”
يوجيريا: “نعم.”
إيرينيس: “هل ترغبين في المزيد من الشاي؟“
وأحيانًا كان الصمت يُخيّم تمامًا.
إيرينيس: “…”
يوجيريا: “…”
لاسيل: “…”
حتى تعجز لاسيل عن احتمال الصمت فتفتح الحديث، فيردّ عليها إيرينيس بامتنان، وكأنّها أنقذته.
وفي الحالات القصوى، كان الحوار يجري هكذا.
إيرينيس: (حديث مطوّل عن الأعمال)
يوجيريا: (تردّ بحماس لأن الموضوع يتعلّق بالتجارة)
أحد أفراد عائلة سيرين المارّين: (يعترض على رأييهما بجملة واحدة)
لاسيل: (تعلن التحدّي وتطلب المبارزة)
ولعلّ تلك اللحظة كانت الوحيدة التي تتفق فيها يوجيريا وإيرينيس على أمرٍ واحد.
غير أن موهبة إيرينيس السحرية كانت معدومة، فلم يُسمح له بوراثة اللقب، لأنّ عائلة سيرين لا يورّثون سوى السحرة.
ومنذ تركه تدريبات الوريث، انقطعت علاقته بيوجيريا أيضًا.
“على أيّ حال، كانت بين عائلة سيرين وعائلة الماركيز صِلاتٌ قديمة.”
“إذًا، قد يكون مفيدًا في الأمر. ما زلتِ على تواصل معه؟“
“نعم.”
يبدو أن تواصله مع يوجيريا انقطع منذ زمن، لكنه ظلّ يراسل لاسيل.
بل كانت قد أرسلت إليه رسالة بالأمس فقط.
“أظنه يعيش أيّامًا هادئة الآن. يبدو مرتاحًا بعد أن تخلّص من عبء الوراثة.”
فقد تبنّى الدوق أحد السحرة من الفرع الجانبي كوريثٍ جديد، ما منح إيرينيس حريّة لم يعرفها من قبل.
“عمومًا، إن أرسلت له رسالة اليوم، فسيصل الردّ خلال ثلاثة أيّام.”
“آمل فقط ألا يصل قبل أن يأتينا أحد من عائله الماركيز.”
“سأطلب من الآنسة يوجيريا أن تتولّى أمر ذلك.”
وبهذا، بدا أن جميع المسائل العاجلة قد سُوِّيت مؤقتًا.
غادرت لاسيل منزل إليان بعد أن حيّتها بتحيّةٍ قصيرة.
***
[رسالة من لاسيل زان إلى إيرينيس سيرين
إلى العزيز إيرين،
مرحبًا، إيرين. كيف حالك؟
أما أنا، فبخيرٍ على نحوٍ مقبول، وقد بدأتُ أعتاد على الحياة في هذه الإقطاعية.
قبل أيامٍ قليلة، زرت منزل الآنسة إليان، وفي طريقي للعودة رأيت عند شجرة الصفصاف امرأة تقف هناك.
كان شعرها يتماوج كلّما اهتزّت الأغصان، فراقني المنظر وبقيتُ أحدّق فيها طويلًا…
لكنّي أدركت لاحقًا أنّ ذلك كان تصرّفًا وقحًا.
على أيّ حال، ما أدهشني هو أنّها كانت بلا ساقين.
أتُرى السحر الحديث بلغ هذا الحدّ من الدقّة؟
أما المزاح فجانبًا، فأنا حقًا بدأت أتأقلم مع الحياة هنا.
إن كان وقتك يسمح، فهلاّ جئت لزيارتنا هذا الأسبوع؟ لديّ أمرٌ أودّ مناقشته معك.
بانتظار ردّك.
الجوّ أصبح ألطف مؤخرًا، فاحذر من نزلات البرد.
المخلصة دومًا،
لاسيل زان.]
[الردّ من إرينيس سيرين
إلى السير لاسيل زان،
في الواقع، لم يكن لديّ ما يشغلني مؤخرًا، وأعاني من فراغٍ مملّ.
سآتي اليوم نفسه.]
***
الناس جميعًا في الإمبراطوريّة يعرفون ثلاث حقائقٍ عن إيرينيس سيرين.
أولًا، إنّه أحد سيّدي سيوف الإمبراطوريّة، لكنه لا يستطيع ان يرث لقب العائلة لأنه ليس ساحرًا.
ثانيًا، لقد فشل في الاعتراف بحبّه خمس عشرة مرّة حتى الآن.
وثالثًا، إنّ الجميع يعلم أنّ المرأة التي يحبّها هي لاسيل… ما عدا لاسيل نفسها.
“لكن، لِمَ يا ترى لا تُدركِ ذلك؟“
سأل إيرينيس نفسه وهو يتكئ على الأريكة بنظراتٍ شاردة.
فأجابته شقيقته الصغرى، ريلا سيرين، وهي تتابع العمل على الأوراق دون أن ترفع رأسها.
“لأنّك فشلت في كلّ مرّة.”
“لكنني كنتُ واضحًا جدًا!”
“…”
لم يكن إيرينيس يخطّط للفشل في البداية، بل بذل قصارى جهده في اعترافه الأول.
دعاها في نزهةٍ خاصّة، وبعد أن أمضيا وقتًا ممتعًا، قرّر أن يصارحها…
لكن فجأة، خرج وحشٌ سحريّ من المطعم المجاور.
دبّ الذعر في المكان، وتحوّل الموعد الرومانسي إلى معركةٍ فوضوية، ولم تتح له فرصة النطق بكلمة.
‘أما المرة الثانية فكانت أسوأ.’
التعليقات لهذا الفصل " 4"