‘لا، تمهّلي قليلاً …’
كنتُ ألوّح بيدي كردٍّ للتحيّة، ثم فجأة أدركتُ خطئي. لم يكن ذلك أسلوب تحيّة يليق بخادمة أمام شخصٍ يُفترض أنّه ضيف الدوقيّة.
“أوه! أهلاً وسهلاً!”
أنزلتُ يدي متأخّرة وانحنيتُ برأسي. عندها انطلقت من شفتيها—التي بدت كجنيّة—ضحكةٌ صغيرة.
ما معنى تلك الضحكة يا ترى؟ وبينما كنت أحرّك عينَيّ متفكّرة، كانت قد اقتربت منّي بالفعل.
“أظنّ أنّني أراكِ للمرّة الأولى … هل تعملين هنا؟”
“آه، نعم!”
“اسمكِ؟”
“اسمي ليليان.”
آه—
فتحت شفتيها وكأنّها تذكّرت شيئًا، لكن سرعان ما ابتسمت بلا مبالاة وقالت: “يا للطف. يليق بكِ هذا الاسم.”
“شـ، شكرًا لكِ.”
ما الأمر؟ ماذا كان ذلك التفاعل قبل قليل؟
وبينما يساورني الشكّ، فتحتُ موضوعًا بسيطًا لاستئناف الحديث.
“هل أنتِ ضيفةُ صاحب السموّ الدوق؟”
“صحيح. جئتُ أبكر قليلًا عن موعدي فحسب.”
أجابت وكأنّ الأمر لا يستحقّ الاهتمام، لكنه لم يكن أمرًا عابرًا أبدًا.
فأن يُسمح لشخصٍ بالتجوّل في الداخل إلى هذا الحدّ، و ليس في غرفة الاستقبال فقط، فهذا يكاد يكون مستحيلًا من دون إذن مالك القصر.
‘هل هي عشيقة الدوق؟ أم خطيبته؟’
أيًّا يكن، كانت هذه فرصة بالنسبة إليّ.
ورغم أن ضميري وخزني قليلاً لفكرة استغلال امرأة لطيفة كالجنيّة، فإنّ اليوم أصبح اليوم الثالث. ولم أعد أستطيع تأجيل التقرير أكثر.
ففتحتُ فمي راغبةً في انتزاع أيّ معلومة—
“هل يمكنني معرفة اسمكِ، آنستي؟”
“نعم؟”
رمشت بعينيها للحظة ثم انفجرت ضاحكة. وانتشرت ضحكتها النقيّة في أرجاء الحديقة.
‘لماذا، ماذا يحدث؟’
نظرتُ إليها بارتباك شديد، فشرحت لي وهي لا تزال تكتم بقايا ضحكتها: “آه، المعذرة. لقد مرّ وقت طويل جدًّا منذ آخر مرّة ناداني فيها أحد بـ’آنستي’.”
وبعد أن هدأت تمامًا، مدت يدها بأناقة وقالت: “ناديني بالسيدة برانت. أنا أدير صالونًا في العاصمة.”
وكان في إصبعها البنصر خاتمٌ لامع من الألماس. يا للعجب، إذن هي متزوّجة بالفعل!
“أعتذر، يا سيدتي”
“لا بأس. من الجميل سماع كلمة ‘آنستي’ بعد كل هذا الوقت.”
يبدو أنّها كانت صادقة، فقد راحت تتلمّس خاتمها بملامح راضية تمامًا.
‘جيّد، هذا مطمئن.’
مهما كانت الوسيلة، فالطرف الآخر يُظهر لي ودًّا ما. وليس فقط لأنني ناديتها بـ’آنستي’، لكن لم يكن الوقت مناسبًا لتحليل ذلك الآن.
إذن، لنجمع المزيد من المعلومات.
“ما الذي أتى بالسيدة إلى الدوقيّة اليوم؟”
ابتسمتُ وطرحت سؤالًا خفيفًا. فجاء الجواب غير متوقّع تمامًا.
“همم، يمكن القول إنه نوع من متابعة شؤون الرعاة.”
رعاة؟
لم أسمع بهذا من قبل. وقد تفضّلت هي بالشرح: “صاحب السموّ الدوق هو أكبر رعاة صالوننا. عادةً ما يرعى الفنّانين والمثقّفين الواعدين. أحيانًا يستثمر في اللوحات أو الابتكارات الفريدة أيضًا.”
“آه هكذا—”
“بمعنى آخر، إنها هواية راقية لرجل نبيل ثري.”
غمزت بعينها مازحة، فأومأتُ موافقةً.
وفي تلك اللحظة—
“ماذا تفعلان هنا.”
التفتت أنظارُنا كلتاهما إلى مصدر الصوت البارد.
وهناك كان الدوق فيليوم واقفًا شامخًا خلفنا، الشخص نفسه الذي كنّا نخوض الحديث عنه منذ قليل.
***
عاد رايموند إلى مكتبه وهو يسترجع ما حدث قبل قليل.
‘أ—أنا كنتُ فقط أعمل! تـ ، تفضّلا بمتابعة حديثكما!’
ما إن ظهر حتى قفزت الخادمة الصغيرة مرعوبة، وفرّت إلى داخل الحديقة وكأنّ طفلًا ضُبط وهو يفعل أمرًا سيئًا.
‘مزعِجة.’
تتعرّض للأذى في كلّ مرّة أغيب فيها قليلًا، ولما رأتني وقد عدت فجأة إلى القصر بعد غيابٍ طويل، كادت تظنّ أنّها رأت شيطانًا.
وحتى بمجرّد مزحة خفيفة أصبحت تتوتّر بعكس عادتها.
‘حسنًا. جيّد. لقد سئمتُ استبدال الخادمات كلّ مرة.’
‘هاه …!’
آه، كانت تلك لطيفة بالفعل.
ليليان التي لم تستطع الردّ عليه واكتفت بزمّ شفتيها. وما إن استعاد رايموند صورة ذلك الوجه الوضيء حتى ارتفع طرف شفتيه دون قصد.
اقتربت السيدة برانت وقدّمت إليه أوراقًا.
“هذه وثائق الرعاية التي تحدّثت عنها. إنّه رسّام متقلّب المزاج، لكنك أدركت موهبته جيّدًا.”
“…….”
“صاحب السموّ الدوق؟”
عادت إليه حواسه متأخرة قليلًا، فمرّر يده على شعره.
“آه، كنتُ شاردًا قليلًا.”
تناول رايموند الأوراق وبدأ يقرأها بدقّة، ثم أمسك قلمه ووقّع وثيقة بعد أخرى.
ضغط الختم بقوة، ثم أعاد الأوراق إليها وسأل: “ما رأيكِ أنتِ؟”
كان السؤال يبدو عن الرسّام المعنيّ، لكنّه لم يكن كذلك.
فقد كان ذهنه منشغلًا بشيء آخر تمامًا.
وقد أدركت السيدة برانت ذلك، فأجابت بصراحة: “كانت لطيفة.”
وجهٌ نقيّ لا يستطيع إخفاء تعابيره مهما حاول.
ونظرة حادّة متحفّزة لمعرفة المزيد.
كانت ليليان تمامًا على مقاس ذوق السيدة برانت، التي كادت تتمنّى لو تُوظّفها كعارضة لصالونها.
“وهل هذا كلّ ما لاحظتِه؟”
رفع رايموند حاجبه غير مقتنع، فتابعت: “همم … شعرتُ وكأنّها ترتدي ثوبًا لا يناسبها.”
وهذا تحديدًا ما أثار فضولها. فالفتيات اللواتي يُخفين سرًّا دائمًا يكنّ أكثر إثارة للاهتمام.
لكنّ راعي صالونها الأكبر كان باردًا: “هذا لا يكفي. أريدكِ أن تبحثي لي مرّة أخرى عن تلك الخادمة.”
وبنبرة تتذمّر، رمقتْه السيدة برانت بطرف عينها.
“كلّما التقيتُ بك تكلّفني بأعمال جديدة. لستَ رحيمًا أبدًا.”
“وبما أنّ زوجكِ اللورد برانت غائب، فليس أمامي سوى الوثوق بكِ.”
“أوه، لا تنسَ أنك السبب في فراقنا المؤقّت هذا.”
“فراق؟ بل قدّمتُ لكِ هدية—قليلًا من الحرّية.”
طالبها رايموند بتصحيح العبارة بثقة، فما كان منها سوى أن ضحكت.
“حسنًا، ليست عبارة خاطئة تمامًا.”
فهما زوجان متحابّان إلى حدّ يثير ضيق الآخرين، ولهذا يمكن لرايموند أن يمازحها بهذه الطريقة.
“سأرسل لكِ خبر اللورد برانت فور وصوله. فهو عنيدٌ بلا داعٍ، ولن يُخبركِ بشيء قبل إنهاء مهمّته.”
“أقدّر اهتمامكَ.”
انحنت قليلًا بامتنان.
فزوجها، كما قال الدوق، رجل مستقيم وعنيد إلى حدّ يغيظ أحيانًا.
***
“آه، يا للإنهاك …”
عدتُ إلى غرفتي بعد يوم شاق وأنا أدلّك كتفيّ المتيبّسين.
ربما لأنني كنت متوترة أكثر من المعتاد اليوم؟
‘طبعًا، لقد صادفتُ ضيفة غريبة وصاحب السموّ الدوق أيضًا.’
خصوصًا عندما ظهر الدوق بلا سابق إنذار—كدت أموت رعبًا!
لكن رغم ذلك نجحتُ في الانسحاب بطريقة طبيعية إلى حدٍّ ما، واستطعتُ لقاء العمّ البستاني لتسليمه الوجبات الخفيفة.
وأكلتُ حصّتي أيضًا.
“اليوم سأستطيع كتابة شيء على الأقل!”
قبضتُ يديّ بحماس.
كم ليلةً قضيتها مؤخرًا وأنا أرتجف خوفًا من أن يُطعن أحدُ جانبيّ؟ حتى أمهر العاملين يسقطون من الشجرة عندما يُنهكون. حتى خطئي في غسل الصحون اليوم كان بسبب هذا التعب.
ورغم الإرهاق، لم يعد بإمكاني التأجيل، فجلستُ أمام المكتب. كنتُ أنوي أن أختلق شيئًا مناسبًا بالاعتماد على ما دار بيني وبين السيدة برانت.
لكن فجأة توقّفت. تجمّد جسدي.
والسبب بسيط جدًّا—
“كيف سأرسل هذا …؟”
لقد اصطدمتُ بمشكلة واقعيّة للغاية.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 5"