الفصل 84. القوة للإستمرار في الحياة
سحق!
رسم السيف المغلّف بالهالة قوسًا حادًا.
بدا أن الدخان الأسود قد انشق كما ينشق البودينغ، ثم تلاشى إلى جانبيْه واختفى.
لكن الدخان الذي بقي راح يتمدد ويتكاثر كأنما يتناسل، حتى صار يغطي مساحة أوسع مما كان عليه قبل قليل.
إيفان، الذي بالكاد أفلت من الدخان الأسود الذي هاجمه من الخلف، استل سيفه وهتف:
“شكرًا لك، سمو الأمير!”
“ركز جيدًا! كدت تموت أيها الأحمق!”
رغم أن صوته كان خشنًا، إلا أن كارسيون كان يشعر وكأن قلبه قد ذاب من الخوف. الهاوية كانت خطرًا حقيقيًا.
إذا ابتلعها أحد، حتى أقوى الفرسان لم يكن بإمكانه النجاة من الداخل.
لا بد من تدخل خارجي في الوقت المناسب لإنقاذه.
كارسيون، الذي أنقذ فارسًا آخر كان غارقًا حتى خصره في الهاوية، لوّح بسيفه وصرخ:
“ليونيل! هل هاديس قريب؟”
“أشعر بطاقته، لكنها ضعيفة جدًا ولا أستطيع تحديد موقعه بالضبط!”
أغمض ليونيل عينيه وبدأ بترتيل تعويذة. انبثق نور ساطع وطرد الظلام.
لكن، ما لم يُطرد بالكامل، كان الدخان الأسود يتكاثر بسرعة مجددًا.
السيف الحاد المغلف بالهالة شق الدخان مرارًا وتكرارًا. تمكنوا من إنقاذ عدة خيول كانت تصرخ بهلع.
لكن بهذه الطريقة، لن يكون هناك نهاية.
كأنهم يسكبون الماء في إناء مكسور، كانت طاقتهم تنفد بلا جدوى.
كارسيون، وهو يطحن أسنانه، حدق بليونيل الذي كان يدفع الدخان الأسود باستخدام السحر الضوئي.
“أيها الأحمق! ألديك شيء آخر؟ أنت تنين أيضًا، ألا تملك مهارة غش مثل الهاوية؟!”
“وهل أخفيت شيئًا عنكَ!”
رد ليونيل وهو يزمجر غاضبًا.
“هاديس يبلغ آلاف السنين، بينما أنا بالكاد بلغت السابعة عشرة!”
“تبا!”
شتم كارسيون بغضب. كان من الواضح أن ليونيل يقاتل بصعوبة، مما جعله يشعر باليأس.
لو كانت لديهم قوة بشرية كافية، لكان بإمكانهم تقسيم القوات، بحيث يتولى البعض التعامل مع الهاوية بينما يبحث الآخرون عن موقع التنين الأسود.
“على الأقل حاول معرفة موقعه!”
صرخ بغضب، فشتم ليونيل بدوره وهو يقفز عاليًا ويختفي في مكان ما.
إذا تمكنوا من العثور على جسد هاديس الحقيقي…
عندها كان كارسيون واثقًا من الفوز. سواء في الماضي أو الآن، ما كان يعرقلهم هو هذا السحر الملعون.
هاديس كان ينصب الفخاخ بالسحر ويخفي جسده، مما يصعّب مهاجمته.
طالما لم يعرفوا مكانه، كانوا مجبرين على الدفاع فقط، غير قادرين على شن أي هجوم فعّال.
وبعد إنهاكهم، كان هاديس يشن عليهم هجومًا مباغتًا.
“أيها السحلية الحقير الجبان.”
تفحص كارسيون وضع المعركة. حتى مع قلة عددهم، كان الفرسان يقاتلون بشراسة.
بدا أن بعضهم قد ابتلعتهم الهاوية.
وبمجرد أن ترك ليونيل مكانه، انتشر الدخان الأسود بسرعة أكبر من ذي قبل.
“آاااه!”
“أنقذوني!”
“اللعنة! اقطعوا ساقي!”
بدأ البعض يضطر لقطع أطرافه لينجو بحياته.
كارسيون بذل قصارى جهده لتقليل الخسائر. لكن كل شبر حوله كان قد غمره الدخان الأسود بالفعل.
تبا! تبا!
لم يكن قادرًا إلا على حماية نفسه ومن هم بقربه.
كان يشعر بالعجز.
رغم علمه أنه لا يجب أن يفقد الأمل في مواقف كهذه، إلا أن اليأس اجتاح قلبه كمدٍّ جارف.
“كارر…!”
“……؟!”
هاه؟
ما الذي حدث للتو؟
صرخة أولاند انقطعت فجأة.
ثم غرق كل شيء في الظلام.
لم يعد يشعر بالأرض تحت قدميه، ولا إن كان معلقًا في الهواء. كان ببساطة واقفًا وسط العتمة.
بمجرد أن أدرك أنه ابتلعته الهاوية، سمع صوتًا يأتي من مكان ما.
“كا… كارسيون…”
صوت مرتجف بالكاد يسمع. كان صوت رينيه.
شعر كارسيون وكأن قلبه سقط في قاع بئر.
التفت بسرعة، وكأن النار لسعته.
ورآها.
رينيه، والدموع تملأ وجهها، كانت مقيدة بحبال سوداء صنعها هاديس بسحره.
عينا كارسيون الزرقاوان ارتجفتا كشمعة تحت الرياح.
اختنق حلقه.
لا…
رينيه، لماذا أنتِ في هذا الوضع…؟
“هِييك…”
رآها وهي تتلوى بالألم، فانغرز المشهد في أعماق ذاكرته.
مد يده نحو مقبض السيف بجنون.
لكن، بمجرد أن حاول لمسه، سمع صوت تهديد لعين.
“لو أخرجت السيف، سأقتلها.”
“……!”
“إن أردت إنقاذ هذه الفتاة، لا تتحرك.”
“آآآآه!”
صرخت رينيه بألم. عندها فقط لاحظ كارسيون الأشواك التي كانت مغروسة في الحبال التي تقيدها.
كان جسدها مغطى بالدماء.
“أيها اللعين!”
هل تظن أنني سأقع في هذا الفخ السخيف؟
لم يكن ينوي أبدًا اللعب حسب قواعد هاديس القذرة.
هؤلاء الأوغاد، دائمًا نفس الخطة: بعد اللهو والعبث، ينهون كل شيء بالقتل.
حتى الآن، كانت حالة رينيه حرجة.
إذا بقيت هكذا، قد تموت من النزيف الحاد.
وحينها، سيتظاهر هاديس بدهشة مصطنعة: “أوه، لقد ماتت؟ لم أكن أنوي ذلك!”
لذلك، بدلًا من الوقوف مكتوف الأيدي، اختار كارسيون القتال.
بغض النظر عن التحذير، مد يده نحو السيف.
لا، بالكاد أخرج نصفه فقط…
كراااك!
وفجأة، اختفت رينيه من أمامه.
لحظة. ما الذي حدث للتو…؟
كيف اختفت بهذه السرعة؟
تجمد كارسيون كأنه تحوّل إلى جليد.
لكن قبل أن يفيق من الصدمة، ظهر اقليم ايفلين المحترق وأمامه جسد رينيه الميت .
كانت ألسنة اللهب تبتلع كل شيء.
وكانت رائحة الجثث المحترقة تملأ الجو.
مكان الذكريات الدافئة تحوّل إلى جحيم.
سيطر عليه شعور بأنه فقد كل شيء.
وغزا العفن روحه كما يأكل العفن الخبز.
كل شيء انتهى.
الحياة لم تعد لها معنى.
ششششش…
حدثت المعجزة وقتها.
انقسم مشهد اقليم إيفلين الملطخ بالدخان والنار إلى نصفين، كما لو قُطع ورق.
ومن الشق، انتشر نور ساطع، ثم ظهر غابة خضراء مورقة.
“كارسيون! أيها الوغد! ألا تفيق؟!”
اخترقت صرخة أولاند أذنيه. وضربه بقوة على مؤخرة رأسه.
“آه!”
أدار كارسيون رأسه للأمام مترنحًا، وحدق في أولاند بوجه مذهول.
وفي اللحظة نفسها، عادت إليه حاسة الواقع، وفهم كل ما يجري.
لقد ابتلعته الهاوية.
“لو تأخرنا قليلًا فقط، لكنا وقعنا في كارثة، أيها الأحمق! لقد شحب وجهك في لحظة.”
“هاه، هااه…!”
أول شعور اجتاح كارسيون كان الارتياح. لقد كان مجرد وهم، وليست حقيقة.
لقد كان مجرد خداع صنعته الهاوية، وهذا ما أنقذه.
في الوقت ذاته، أدرك بعينيه ما الذي يخشاه أكثر من أي شيء آخر.
أن يعجز عن حماية رينيه، وأن يفشل في حماية أرض ايفلين.
كم هو مرعب أن ينهار قلب الإنسان بهذه السهولة. حين لم يتمكن من حماية قلبه، انهار كل شيء آخر معه.
لم يكن لقوة الشخص أو لمكانته أو سلطته أو ممتلكاته أي أهمية.
عندما ينهار القلب، تضيع القوة للإستمرار في الحياة.
لقد أظهرت له الهاوية مدى سهولة تحطم حياة الإنسان.
شعر بقشعريرة تسري في جسده وهو يدرك هشاشة البشرية.
وفي تناقض غريب، اشتعلت بداخله إرادة لا تقهر لبذل كل قوته كي لا يقع في هذا الوضع المرعب.
“لم يستغرق الأمر حتى عشر ثوانٍ. كم هو مرعب، هذا الشيء.”
تمتم أولاند بصوت منخفض وهو يطرد الدخان الأسود بسيفه.
عشر ثوان فقط؟
كارسيون لم يصدق أذنيه.
لم يكن يملك سوى أن يسميه سحر الوهم المروع الذي يتجاوز قوانين الزمان والمكان.
أهي قوة تنين عتيق مضى عليه آلاف السنين؟
-يا للأسف.
في تلك اللحظة، سمع صوتًا يرن في رأسه.
كارسيون وجميع الفرسان استنفروا على الفور في وضعية تأهب قصوى.
-كارسيون، أيها الإنسان المحظوظ.
كان الصوت وكأنه يراقبه خلسة، وينتظر الفرصة للإيقاع به داخل الهاوية.
رفع كارسيون رأسه.
كانت هناك أجنحة سوداء ترفرف فوق شجرة عالية.
كان هاديس قريبًا للغاية.
“كنت أظن أنك ستواصل لعبة الاختباء والهرب إلى الأبد.”
عندما يظهر الجسد الحقيقي، يصبح كارسيون في موقع أكثر تفوقًا.
عندما أطلق كلمات التحدي بسخرية، اشتعل الغضب في هاديس.
-أيها الإنسان المتعجرف، سأريك الآن الفارق الحقيقي بيني وبينك.
فتح هاديس فكيه على اتساعهما.
“ألم تهرب خائفًا في المرة السابقة أيضًا؟ يبدو أن قوتك لم تعد كما كانت.”
بدت نبرة كارسيون ساخرة، مما أشعل غضب هاديس أكثر فأكثر. ثم، من بين فكيه الضخمين، انبعث لهب حارق.
فووووووه!
لكن كارسيون لم يكن ليسمح أن يُصاب بهجوم يراه قادمًا.
قفز أولاند وإيفان بخفة لتفادي اللهب.
وكذلك فعل فرسان فونيكس الذين نجوا من الهاوية.
رغم قلة عددهم، إلا أن كل واحد منهم كان من نخبة النخبة.
قفز كارسيون إلى ارتفاع يتجاوز حدود الإنسان العادي.
قالوا إن التنانين تموت وحيدة في أماكن لا يعرفها أحد؟
ليس كل تنينٍ عبر التاريخ كان كذلك. وحتى لو كان، فمن السهل أن نصنع سابقة جديدة.
“سأسجلك كأول تنينٍ يموت أمام أعين البشر!”
لوّح بالسيف، الذي كان يحمل طاقة هائلة تكاد تشق الوادي نصفين.
التعليقات لهذا الفصل " 84"