حين أعود بذاكرتي للوراء، لا أستطيع وصف ما حدث إلا بأنه معجزة.
كيف لإنسانة ضعيفة مثلي أن تنجو هاربة من صدام تنينين؟
لكن وقتها، لم يكن لدي عقل راجح يسمح لي بالحكم على الأمور بموضوعية. ما تبقى لي من ذكريات مبعثرة كان مجرد صدى لأصوات حديث التنينين اللذين دوى صداهما في رأسي.
أثناء جريي بجنون، كانت أصوات الكائنين العظيمين تلك تضاعف رعبي.
-جينيرتس. لماذا أصبحت كلبًا للبشر؟
-ما شأنك، هاديس.
-كرامة التنانين لا تسمح بذلك. لا تقل لي أنك بَصمت مع تلك البشرية التافهة؟
-قلت لك لا تتدخل!
حرارة لاهبة من لهاثهما الناري كادت تحرق ظهري.
رغم أنني لم أُصَب مباشرة بنفَسهما، إلا أن حرارة الهواء وحدها جعلتني أشعر أنني سأذوب. سراب حار تراقص في الأجواء التي سخنت بفعلها.
لا أعرف كم ركضت، ولا في أي اتجاه كنت أهرب.
حتى الإحساس بأن رئتي ستنفجر من الإرهاق بدا رفاهية في تلك اللحظة. أمام الموت الحقيقي، اكتشفت إلى أي حد يمكنني أن أكافح لأبقى على قيد الحياة.
“أه… هه…!”
غمرني شعور مرير بالظلم والقهر.
وحين اختفى صراع التنانين من مدى بصري، وجدت نفسي أمشي مترنحة وحدي في غابة مظلمة.
كنت أعرف أن وحوش الجبال أو مخلوقات أخرى قد تظهر، لكن… ربما لأنني كنت قد نجوت للتو من كائنات أعظم رعبًا؟ الأشياء التي كانت ترعبني سابقًا صارت تبدو تافهة الآن.
طبعًا… إلى أن واجهت وحشًا حقيقيًا.
“غروووررر.”
صوت مقزز انطلق من بين ظلال الظلام. حاولت أن أتبين مصدر ذلك العواء المخيف مستعينة بضوء القمر الخافت. لكن، بمجرد أن أدركت حقيقته، كان قد فات الأوان.
“آآآآه!”
أورك ضخم هاجمني وهو يلوّح بمطرقة حربية.
صرخت صرخة مدوية ترددت في أرجاء الجبل.
بوووم!
المطرقة التي تفوق حجم رأسي بعدة أضعاف شقت الهواء وارتطمت بالأرض.
رميت بجسدي جانبًا بأقصى ما أستطيع، ونجوت بأعجوبة.
كان الأورك يحدق بي بعينيه اللامعتين، وكأنه يقيم طعامه القادم.
ويبدو أنه قرر أنني فريسة سهلة، لأن فمه اتسع في ابتسامة شيطانية.
أحسست وقتها فعلاً أنني مجرد وجبة سهلة لهذا الوحش.
تماسكي. يجب أن أهرب بأي ثمن.
وقبل أن تكتمل هذه الفكرة في رأسي، كنت قد انتصبت على قدميّ وبدأت بالجري.
لكن المطرقة الضخمة للأورك قطعت طريقي مرة أخرى.
دووم!
“آآآآآه!”
صرخت مرة أخرى، وأنا أتراجع مذعورة. وخلال ذلك، اصطدم ظهري بشيء صلب.
شعرت بقشعريرة تتسلل لعمودي الفقري.
سائل لزج سقط على رأسي.
وصوت زمجرة مخيف صدر فوقي مباشرة.
لم أكن بحاجة للتفكير كثيرًا لأدرك أن ما يلامس ظهري هو الأورك نفسه.
مصيبة.
لا مهرب.
هل هذه نهايتي؟ أن أُقتل هنا في الجبال، ولا يدري أحد عني؟
فجأة…
“بففف!”
صدر صوت مروع لتمزيق لحم، وتطاير سائل أخضر غريب.
جسد الوحش الصلب الذي كان ملاصقًا لي سقط أرضًا.
استدرت بسرعة، وإذا برجل مغطى بالدم الأخضر يقف تحت ضوء القمر الساطع.
شعر أحمر. عيون قرمزية. يدان أشبه بمخالب تنين.
جينيرتس.
رغم أنه لأول مرة يتخذ هيئة بشرية، عرفت أنه هو.
“رينيه.”
“…ري، ريو؟”
خرج صوتي مرتجفًا. كان كلبًا أحببته طويلًا، والآن… مجرد رؤيته أرعبتني.
لم يكن كلبًا، ولا إنسانًا أيضًا. إنه… تنين.
“هيا بنا. قال هاديس إنه إن لم يلاحظنا، سيتركنا أحياء.”
“ها، هاديس؟”
“اسم التنين الأسود الذي استيقظ بعد ألف سنة. تنين مثل هذا، أنا تنين حديث العهد لا أستطيع مجاراته. حتى قبل أن يغط في النوم، كان يُعرف بفوضويته.”
تقدم جينيرتس نحوي خطوة واحدة.
“لنذهب. إلى مكان لا يرانا فيه.”
“تـ- توقف هناك!”
تراجعت لا إراديًا إلى الوراء.
عيني علقت على يد جينيرتس، التي كانت لا تزال تمسك بقلب الأورك الممزق.
يده، التي تحولت إلى مخلب تنين، زادت رعبي.
بدا وكأنه تفاجأ قليلًا بردة فعلي. ثم حين لاحظ نظرتي، ابتسم ابتسامة خفيفة وقال: “آه، هذا.” ثم سحق قلب الأورك بيده حتى لم يترك له أثرًا.
شعرت برأسي يخلو تمامًا من التفكير. ثم، في خواء رأسي الأبيض، تذكرت الأشخاص الذين سحقهم التنين الأسود بأقدامه.
أشخاص تهشمت أجسادهم حتى لم يبق لهم حتى شظايا عظام.
“أووغ…”
شعرت بالغثيان. ثم، مرتجفة الأطراف، بدأت أتراجع للوراء.
رغم أن ساقي خارتا، فإنني استدرت وهربت غريزيًا.
“رينيه!”
ركض جينيرتس نحوي وأمسك بكتفي.
شعرت بمخالب قاسية تلامس بشرتي، وكان الإحساس غريبًا ومربكًا.
خيّل إلي أن قلبي سيتعرض للتمزيق مثل قلب ذاك الأورك الملقى أرضًا.
دفعته بعيدًا واستمررت في الجري.
“هاه… هااه!”
“رينيه! لا تهربي! أنا ريو!”
ريو كان مجرد جرو.
لكن أنت… أنت تنين اتخذ هيئة إنسان.
“آه!”
وهنت ساقاي فجأة. وتعثرت بحجر وسقطت أرضًا.
وهكذا وقعت بسهولة بين يدي جينيرتس.
ولم أجد أمامي سوى خيار أخير للهرب. فقدان الوعي.
***
لا أعرف كم من الوقت مرّ.
كان رأسي خاليًا وكأن شيئًا قد فرغ منه.
من أنا؟ وأين أنا؟
بينما أتساءل عن أكثر الأسئلة البشرية بداهة، فتحت عينيّ ببطء.
“لينا! لينا! هل استفقتِ؟”
كان أحدهم يحدق بي بوجه مفعم بالقلق.
“لينا…؟”
“نعم. لينا.”
نادى الرجل ذو الشعر الأحمر اسمي مرة أخرى.
وعندما رأيت حدقتيه الحمراء المقلقة تهتزان بتوتر، شعرت أن علاقتي به ليست عادية.
لما لزمت الصمت، في إشارة إلى الإيجاب، حرك شفتيه عدة مرات قبل أن يتكلم أخيرًا.
“أنتِ… سقطتِ من على الشجرة. من رأسكِ مباشرة. لقد كنت قلِقًا للغاية.”
“أنا…؟”
“نعم.”
ارتجف صوته قليلًا.
آه… وماذا أفعل بهذا الشعور بالذنب؟
أنا حتى لا أعرف اسمه…
“آه… يبدو أنني سقطت بطريقة خاطئة.”
“لِمَ؟”
سأل بصوت يكاد يبكي. كان وجهه يبدو هشًا للغاية وكأنه سينهار عند أقل كلمة.
خشيت أن أجرحه إن تحدثت بفظاظة، فبدأت أوضح له أمري بلطف.
“قلت إن اسمي لينا، صحيح؟ لكنه يبدو غريبًا على مسامعي…”
“……”
“أعني… لا أتذكر جيدًا.”
“……”
“ولا حتى اسمك.”
“ريو… نيل.”
( ملاحظة: هنا قال ريو وضاف نيل، مافي فرق بين الراء واللام فالكورية، نفس الشيء لاسم لينا أو رينا مستوحى من رينيه، صراحة من بديت اترجم مكنت ادري ان ريو هو ليونيل كان خليت اسمه ليو^_^)
“ليو نيل؟”
“نعم. اسمي ليونيل.”
قالها وكأنه يحاول تثبيت نفسه، وهو ينظر إليّ بعينين مرتجفتين.
بادلته النظرة لوهلة، ثم أدرت وجهي وأخذت أتفحص المكان حولي بهدوء.
كان مكانًا دافئًا يغمره ضوء الشمس.
جدرانه الخشبية كانت توحي بأنه كوخ صغير، وكانت نافذته تطل على غابة خضراء مورقة.
السرير كان ناعمًا، ولكن بقية المكان كان فوضويًا للغاية.
كان الأمر وكأننا دخلنا منزلًا مهجورًا للتو.
رأيت بعض الأثاث الكبير المغبر، دون أي زينة أو أغراض صغيرة تملأ الفراغات.
كان واضحًا أن السرير وحده قد تم ترتيبه بعجلة.
ربما لاحظ ليونيل تساؤلي الصامت، فبدأ يشرح بتلعثم.
“لـ، لقد خرجنا من دار الأيتام مؤخرًا. لم نجد الوقت لتزيين المكان بعد. لقد انتقلنا حديثًا.”
“آه، فهمت.”
أنا يتيمة إذن. وليونيل أيضًا يتيم.
هل لهذا أشعر بهذا الفراغ داخلي؟
نظرت إليه، وعلى شفتي ابتسامة خفيفة.
“هل نحن صديقان؟”
“أ، أجل.”
هز ليونيل رأسه وأردف بعد لحظة تردد.
“أصدقاء الطفولة. منذ أن كنا في السادسة من عمرنا.”
***
آه، إنه حلم…
رددت اللحظة المألوفة في ذهني وأنا أفتح عيني.
أول ذكرى لي.
ليونيل.
والسبب الذي جعل تلك اللحظة تصبح أولى ذكرياتي.
“……”
وخزني قلبي كشوكة حادة.
لا أعرف من الذي نقلني، لكنني كنت مستلقية مجددًا في غرفة نوم رينيه إيفلين، أي غرفتي.
رفعت جسدي وسط ضوء الشمس الساطع وتوجهت نحو النافذة.
الحديقة التي أحببتها بشدة.
لعبت فيها مع كارسيون، وشاركته ألعاب الطفولة، ورميت الكرة لريو ليحضرها لي، ونسجنا أكاليل الزهور معًا، وهناك ذكريات لا تحصى تملأ هذا المكان.
“لقد أعاد تجسيدها تمامًا.”
شعرت بشيء حار يتصاعد في حلقي.
الحديقة التي أحببتها كثيرًا بدت الآن وكأنها تلبست بلون الوحدة والحزن.
أين ذهب أكثر من ثلاثمائة فارس من فرسان فونيكس الذين جاءوا مع كارسيون؟
وأين أولاند المعلم، وإيفان، وليونيل…؟
“لقد رحلوا جميعًا.”
لقد انطلقوا جميعًا في رحلة خطيرة من أجل القضاء على التنين الأسود، الذي يدعى هاديس.
لم أستطع التحرك من مكاني لفترة طويلة.
لطالما كان الألم الشديد يصاحبني عندما أحاول تذكر الأحلام الغارقة في الضباب.
أما الآن، فقد عادت ذاكرتي بكل تفاصيلها المؤلمة بوضوح لا يحتمل.
ارتجفت أطراف أصابعي واهتزت شفتاي.
ثم، ومع انتشار الارتجاف في كامل جسدي، غطيت وجهي بكلتا يديّ وسقطت جاثية.
“آسفة… آسفة…”
شعرت بندم لا يوصف تجاه ليونيل.
لقد تخليت عنه.
وكانت حقيقة ذلك مؤلمة حد الاختناق، ومخزية، وقاسية للغاية.
وظللت أبكي نحيبًا، ألهث وأرتجف بشدة لفترة طويلة.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 80"