هل يعني أنه كان يعرف من البداية أنني رينيه إيفلين؟
كنت أحاول أن أفهم ما قصده غريزيندورف، لكن صوته تواصل من جديد.
“لقد بدا لي الأمر غريبًا. ظننت أنكِ تتجولين تحت تأثير تعويذة عجيبة، لكن تبيّن أنها كانت ختمًا للذكريات.”
“لقد عرفتَ منذ البداية…؟”
تمتمتُ بذلك وأنا في حالة نفسية معقدة.
تذكّرت اللحظة التي التقيتُ فيها بسيد البرج وسيدريك لأول مرة في الحديقة، بعد انضمامي إلى برج السحر.
حينها شعرتُ أن نظرات سيد البرج العميقة تخترقني، لكن الحقيقة أنه لم يكن ينظر في داخلي فحسب، بل قد عرف حالتي التي لم أكن أنا نفسي مدركة لها.
شعرتُ بثقل يجثم على قلبي.
“لا تُجهدي دماغكِ. أغمضي عينيكِ، وصفّي ذهنكِ.”
“حسنًا.”
أخذتُ نفسًا عميقًا.
انتشرت طاقة غريبة بين تجاويف دماغي. لا بد أنها مانا غريزيندورف وهي تفتش دماغي بعناية.
كانت ماناه تجري بسرعة كالبرق، ثم تبطؤ مثل سلحفاة، وأحيانًا تتوقف كأنها متحجرة. أحيانًا دافئة، وأحيانًا باردة.
شعرتُ بالإجلال من قدرته على التحكم في ماناه بهذا الشكل المتقن.
“هممم…”
في تلك اللحظة خرج من فمي صوت أنين خافت.
“هل يؤلمكِ؟”
“نعم، قليلًا…”
لكنها لم تكن “قليلًا”. لم تكن مؤلمة جدًا أيضًا، بل كانت أشبه بتحمُّل الألم أثناء محاولة راقصة باليه فتح ساقيها إلى أقصى حد رغم أنها ليست مرنة بعد.
“هكذا إذن…”
خرج صوته متوترًا من بين أسنانه.
هل واجه عائقًا؟
لكن لا أظن أن مستوى سحر ليونيل أعلى من سيد البرج. لو كان كذلك، لكان ليونيل هو من يتولى المنصب.
شششش…
فجأة انسحبت الطاقة التي كانت تهيمن على دماغي بالكامل. فتحتُ عيني على الفور، والتقت نظراتي بنظرات غريزيندورف.
تمتم بصوت جاد:
“من الذي فعل هذا؟ لقد عقَّد الأمور بطريقة حقيرة جدًا.”
“…هل هناك مشكلة؟ هل لا يمكن فك الختم؟”
“يمكن. لكن لا أدري إن كان جسدكِ سيتحمّله.”
“مؤخرًا، استعدتُ ذكرى صغيرة.”
تمسكتُ بالأمل وتحدثت. كانت ذكرى استعَدتُها فقط بمجهود التذكر، دون أي مساعدة سحرية. وإن كان لديّ دعم من سيد البرج، فربما يمكنني استعادة كل شيء، وليس ذلك بأمل مستحيل.
“رأيتُها.”
“رأيتَها؟”
تفاجأتُ من رده ورفرفتُ بجفنيّ. ثانية، اثنتان، ثلاث… بعد نحو خمس ثوانٍ، احمرّ وجهي بشدة.
“رأيتَها؟!”
ارتفع صوتي قليلًا هذه المرة. هزّ غريزيندورف رأسه بهدوء وكأنه يعلم تمامًا ما أردت التأكد منه.
“أطلعتُ على ذكرياتك. تبدو علاقتكِ بالأمير كارسيون مميزة جدًا.”
“….رأيتَ كل شيء؟”
“حتى الذكريات القديمة التي نُسيت في أعماقكِ.”
“…..!”
آه!
لا، مستحيل!
صرختُ داخليًا وأنا أغمض عيني بقوة. سمعت ضحكًا عالياً فوق رأسي، وكنتُ أتمنى لو أختفي في جحر فأر.
لو كنتُ أعلم أن الأمر سيكون هكذا، لما طلبتُ مساعدته!
قد يموت المرء من شدة الإحراج… على الأقل هذا ما شعرتُ به الآن.
حديثي مع نفسي أمام المرآة، تخيّلي للقبلة مع كارسيون، وتخيلي أننا زوجان أثناء طهي الطعام في المنزل…!
وفوق كل ذلك، كل الذكريات القديمة التي لا أذكرها… هو رآها كلها! هذا العجوز…!
لم أرغب بفتح عيني مجددًا. شعرت أن الموت الأبدي ليس خيارًا سيئًا.
كارسيون، آسفة…
أعتقد أن هذه نهايتي…
كنتُ أودّع حياتي من شدة الإحراج، لكن صوت غريزيندورف أجبرني على فتح عيني.
“بالطبع، لم أرَ كل شيء.”
يا لسعادتي وسط المصيبة.
نظرتُ إليه بشيءٍ من الراحة… القليلة.
“بعض الذكريات محمية بعدة طبقات، مشوشة، مشوّهة. كأن أحدًا ما حاول عمدًا إخفاءها.”
حرّك غريزيندورف عصاه السحرية بهدوء، كما لو كان قائد أوركسترا.
عندها بدأت المانا الشفافة تتشابك مثل متاهة، مكوّنة شكلًا دائريًا.
نظرتُ عن كثب، لأدرك أنها مانا تحيط بدماغي.
امتدت المانا إلى الأسفل، كأنها جذور شجرة، وشكّلت نمطًا معقّدًا هناك أيضًا.
فهمتُ على الفور. هذا قلبي. ليس دماغي فقط، بل حتى قلبي، مغلّف بطبقات من المانا.
“في نظري، يبدو كأن أحدًا حاول تدميرها وفشل.”
“…..”
“من المستحيل تدمير الذكريات. حتى لو تمكن أحدهم من فعل ذلك، فهو من المحرّمات. لا يمكن محو ما حدث بالفعل من الوجود.”
“……”
ما هي الذكريات التي حاول ليونيل تدميرها؟
لابد أن الأمر يتعلق بيوم تدمير مقاطعة إيفلين قبل خمس سنوات.
ما الذي حدث لنا في ذلك اليوم؟
اليوم الذي أصبح فيه ريو… ليونيل.
من بكون حقًا…؟
“عليّ أن أبحث أكثر لمعرفة ما إذا كان بالإمكان كسر الختم دون أن ينهار جسدكِ. لكن قبل ذلك، أظنني أستطيع التعامل مع بعض الذكريات الطرفية.”
حرّك غريزيندورف عصاه بضع مرات كأنما يمنحني هدية.
وكانت إشارة لأغلق عيني.
احتضنتُ قلبي الذي يخفق بتوقع، وأسرعت في تنفيذ ما طلبه.
***
بعد مغادرة رينيه، أطلق غريزندورف تأوّهًا غارقًا في التفكير.
لم تكن مهارة عادية.
ومن خلال تفتيشه للذكريات، لم يكن من الصعب استنتاج أن ذلك الختم كان من عمل الساحر الرفيع المستوى ليونيل، الذي حصل مؤخرًا على منصب في برج السحر.
بداية من قبل خمس سنوات، ظهر ليونيل فجأة في ذكريات رينيه.
كان قد شغل مكانًا بجوارها بادعاء كاذب أنه كان صديق طفولتها منذ أن كانت في السادسة من عمرها، رغم أنه لم يظهر له حتى ظل قبل ذلك.
“سحر التحول، أهو كذلك….؟”
خرج تأوّه بصوت معدني من بين أسنانه.
الكلب المدعو “ريو”. والرجل المدعو “ليونيل”.
ومن خلال ذكريات رينيه الأخيرة، استطاع أن يكتشف أنهما شخص واحد.
ما أثار اهتمام غريزندورف هو المستوى السحري الذي بلغه ذلك الشخص.
بعض النظر، بدا وكأنه يفوق سيد برج السحر نفسه.
ومع ذلك، كان يخفي قوته ببرود ويتظاهر بكونه مجرد ساحر رفيع المستوى.
“تسف، يقال إن كلام السحرة المنعزلين لا يُعتمد عليه… لكن…”
مع ذلك، أليس هذا مدهشًا للغاية؟
قرر غريزندورف أنه يجب أن يراقب ذلك الساحر المليء بالأسرار، بينما كان يحدّق بصمت في هيئة المانا التي كانت تحيط بالدماغ والقلب والتي أعاد تشكيلها قبل لحظات وكانت معلقة في الهواء.
إن لم يتمكن من فك هذا، فلن يحفظ ماء وجهه بصفته أعظم ساحر في هذا العصر.
***
هذا رائع!
كنت أرغب في أن أدفن نفسي داخل جحر فأر من شدة الإحراج، لكن الآن أصبحت ممتنة بغريزندورف كمن يقلب راحة يده.
لم أستطع منع نفسي من الضحك الذي كان يتسلل من بين شفتيّ.
<مرحبًا، كارسيون. أنا رينيه إيفلين. هل تريد أكل توت أزرق؟>
أول لقاء مع كارسيون.
وفوقه، تداخلت ذكريات يوم كنا نشتري التوت الأزرق معًا في مدينة إيفلين قبل عدة أشهر.
<هم؟ هذا يكفي.>
<تقول إنك تحبها. هل يكفيك هذا؟>
<آكل حبتين أو ثلاث فقط.>
كنت تأكله بهذه الطريقة وأنت بالكاد تحبه؟
كنت أريد الركض إليه فورًا واحتضانه بقوة.
لو لم أكن على وشك السفر إلى إقليم إيفلين غدًا، لكنت رميت كل أعمالي وراء ظهري وذهبت.
عدت إلى المختبر وتوجهت إلى إيفان، الذي كان يحتل أحد الزوايا كالعادة.
كان يقرأ كتابًا ولم ينظر إليّ حتى حين سألني:
“هل ستذهبين إلى مكان بعيد؟”
كان يسأل إن كنت بحاجة إلى حارس مرافق. وأنا نفسي بدأت أشك في ما إذا كان فارس حراسة فعلًا.
ألا يبدو وكأنه يتضايق بوضوح؟
على أي حال، أخبرته بفخر واضح:
“سموك، لديّ خبر سعيد.”
رفع إيفان حاجبه بإظهار اهتمام طفيف ثم نظر إليّ ببطء وهو يبعد عينيه عن الكتاب.
وبكل غرور، وهو يعقد ساقيه الطويلتين، سأل:
“ما الخبر السعيد؟ هل عادت إليكِ بعض الذكريات؟”
“نعم.”
“……!”
نظرت حول المختبر سريعًا وخفّضت صوتي ليكون مسموعًا فقط لإيفان:
“تذكرت أول لقاء لي مع كارسيون. لقد كان هدية من السيد غريزندورف.”
“هوو…”
ظهرت على وجه إيفان ملامح اندهاش حقيقية. أنزل عينيه وكأنه يفكر في شيء، ثم نظر إليّ مجددًا.
“لكن هل من الصواب أن تخبريني بذلك أولًا؟”
أنا أعلم أنه كان يجب أن أخبر كارسيون أولًا.
لكن ربما لن أتمكن من رؤيته لأنني سأغادر إلى إقليم إيفلين.
“كارسيون مشغول، وأنا أيضًا مشغولة.”
“……؟”
“سأغادر في وقت مبكر صباح الغد. لذا سموك، أخبر كارسيون بهذا الخبر السعيد نيابةً عني، أرجوك.”
“هل نسيتِ أنني سأذهب معك؟”
“أعني الآن، الآن.”
“……أتجرؤين على استخدامي كرسول حب؟”
“أنا مشغولة جدًا اليوم حتى إنني لا أستطيع الحركة.”
“…….”
تجمّد وجه إيفان تمامًا. لكنني أعلم.
إنه من النوع الذي يظهر الضيق على وجهه بينما يقدم اللطف في الخفاء.
طق.
أغلق الكتاب بصوت مسموع وكأنه يعبّر عن انزعاجه الشديد، وعبس وهو ينهض من مكانه.
يقولون أنه لا أحد يستطيع أن يبصق في وجه مبتسم.
ابتسمت له ابتسامة مشرقة تعبيرًا عن امتناني.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 69"