الفصل 51. من أكون أنا
تحت أضواء الثريا المتلألئة، كان عدد لا يُحصى من الرجال والنساء يرقصون في أزواج.
وفي وسط هذه اللوحة الراقية، كنتُ أنا أيضاً أحد المشاركين، ويا للدهشة.
“ترقصين جيداً.”
قال كارسيون وهو يبتسم برقة، بينما كان يراقبني أتحرك بانسيابية تامة على وقع الموسيقى دون أن أخطئ خطوة واحدة.
عندما تلامست أطراف أصابعنا، تبع ذلك حركة فرد الذراع، فابتعدنا قليلاً عن بعضنا.
ولهذا لم أستطع الرد فوراً.
ومع عودة جسدينا إلى التناغم مع الإيقاع، همستُ له:
“الفضل لك، صاحب السمو. لأنك تقودني ببراعة.”
“هل تقولين ذلك عن قناعة فعلاً؟”
“……”
لم أستطع إيجاد الكلمات في لحظتها، ولحسن الحظ، جاءتنا خطوة جديدة في الرقصة أبعدتنا مجدداً.
كنت مشوشة للغاية حتى شعرت أن رأسي سينفجر. لا، بل قلبي هو الذي سينفجر.
ما الذي يحدث هنا بحق؟
لماذا يتحرك جسدي تلقائياً على أنغام الموسيقى؟ وكيف أعرف كل هذه الخطوات؟
هل كان هذا أيضاً مما علّمه لي ذاك النبيل الذي كان يأتي كثيراً إلى الملجأ، كما قال لي ليونيل؟
إلى أي درجة كان يأتي حتى تتمكن جسدي من تذكر كل هذا؟
ثم لماذا كان يُعلّم يتيمةً مثلي هذه القدر من آداب الأرستقراطيين؟
عقلي كان يعلم… أن كلمات ليونيل مليئة بالثغرات.
ولكن إن كان الأمر كذلك، فكيف لي أن أفسر العلاقة التي جمعتني به؟
“لينا، يجب أن تركزي.”
“آه…!”
شدّني كارسيون من خصري ليقرّبني نحوه أكثر. قربه المفاجئ جعل أنفاسي تتلاحق.
كان الأمر غريباً للغاية.
ربما لم تتح لي الفرصة من قبل لألاحظ، لكن هناك حقيقة واحدة كانت تطفو ببطء في داخلي.
أنا أحب الرقص. دائماً ما كنت أحبّه.
فلماذا لم يخبرني ليونيل بذلك أبداً؟
وكيف عرف كارسيون هذا وأعدّ لي هذا اليوم؟
من أكون أنا حقاً؟
هل يُعقل أن أكون… “رينيه إيفلين”؟
ليتني كنت كذلك.
ليتني كنت صديقة كارسيون منذ الطفولة.
شعرت بصداع خفيف يرافق هذه الفكرة، فدفعت ذلك التفكير السخيف جانباً.
وفي تلك اللحظة، كانت الموسيقى تقترب من نهايتها.
عند آخر حركة في الرقصة، ابتعدنا عن بعضنا بمقدار خطوتين أو ثلاث، وأدّينا تحية الختام بين السيد والآنسة.
ثم مشيت متشابكة الذراع مع كارسيون، لكن كل العيون كانت معلّقة بوجهي.
“أشعر أننا نحظى بالكثير من الانتباه.”
لم أستطع كتم كلماتي.
حتى نظرة شخص واحد كانت كافية لأجفل، فكيف والجميع في قاعة الحفل يرمقني كلما سنحت لهم الفرصة؟
حتى من لا يعرفون وجه رينيه إيفلين بدأوا يتهامسون، بعدما انتشرت الأقاويل كالنار في الهشيم.
“هذا طبيعي، لأنكِ معي.”
رغم كل هذا، كان كارسيون هادئاً وكأن شيئاً لم يكن.
أو ربما يمتلك أعصاباً من فولاذ، لا تهتز بنظرات الآخرين.
“تعلم أنك تتحدث وكأنك تقرأ من كتاب؟ في الواقع، أنت أيضاً متوتر، أليس كذلك؟”
“……”
نظر إليّ طويلاً وكأنه يريد قول الكثير، لكنه اكتفى بزفرة طويلة خرجت من صدره.
ثم راح يحدّق بي وكأنني صداع مزمن لا يعرف كيف يتخلص منه.
ما الذي فعلته أنا الآن؟
كارسيون اليوم بدا كعادته… لكنه في الوقت نفسه، بدا مختلفاً بطريقة يصعب شرحها.
إن كان عليّ أن أصفه، لقلت إنه يمثل دور “كارسيون” أكثر من كونه هو نفسه.
أنا أيضاً لا أفهم ما الذي أعنيه.
ربما أراد تغيير الجو، فقد التقط كأسين من الشمبانيا من صينية أحد الخدم المارّين، وناولني أحدهما.
طنّ.
طرقنا الكأسين ببعض كما لو كنا متفقين مسبقاً، لكن فجأة اقترب منا شخص.
“هل تستمتعين بالحفل؟”
“صاحب السمو سيدريك.”
انحنيت احتراماً له.
“رؤيتك هنا أمر غريب. ترقصين جيداً على ما يبدو.”
“إنه لشرف أن تنظر إليّ بهذه النظرة الطيبة.”
تبادلنا المجاملات الرسمية المعتادة.
وبدا أن كارسيون لم يتدخل لأنه رأى الحديث شكلياً، أو ربما لأن بعض النبلاء اقتربوا منه في تلك اللحظة فأضاع الفرصة.
…هاه؟
لكن لماذا يبدو أن كارسيون يبتعد شيئاً فشيئاً؟
لم نتبادل أنا وسيدريك سوى بضع كلمات، وفجأة تجمع حول كارسيون عدد من الناس، حتى أصبح محاطاً بدائرة من الرجال الطوال.
تقابلت أعيننا بين الرؤوس للحظة، لكن لم يحدث شيء.
كان يبدو كمن يريد الخروج من هناك، لكن الأمر لم يكن سهلاً.
“واو… شعبيته كبيرة.”
شعرت فجأة بمسافة كبيرة تفصلني عنه، فابتسمت ابتسامة باهتة.
لكن من الواضح أنها لم تكن ابتسامة حقيقية.
“لقد اختفى لسبع سنوات، فلا عجب أن يكون ثميناً الآن.”
قال سيدريك تلك الكلمات بلا مبالاة، ثم ابتسم باستخفاف ومدّ يده نحوي.
“هل تمانعين رقصة؟”
“ماذا؟ أنا؟ لا أجرؤ…”
تلفّتُّ بسرعة أبحث عن الأميرة كيت، زوجته.
كانت تتحدث مع بعض السيدات بعد أن رقصت أول رقصة مع سيدريك.
“لا تقلقي، زوجتي التي تحكم الوسط الاجتماعي بقبضتها مشغولة بما فيه الكفاية.”
وكأن لتأكيد كلامه، جاء أحدهم ودعا الأميرة كيت لرقصة.
على أي حال، الرقصة الأولى مع الشريك تكفي.
“الرقص معي أفضل من الوقوف وحيدة، أليس كذلك؟”
“…أشكركَ على إنقاذي.”
مددت يدي بسرعة لأمسك بيده.
أو… هكذا كنت سأفعل.
“كما كنتِ تماماً.”
لكن صوتاً جديداً قاطع اللحظة، فبقيت يدي معلّقة في الهواء.
عندما التفتُّ، وجدت رجلاً وسيماً بشعر فضي لامع يقف أمامي.
إنه ولي العهد أوستين.
رأيته للمرة الأولى في حفل الشكر، وهذه هي المرة الثانية التي أراه فيها.
إنه شخصية عظيمة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
ابتلعت ريقي بتوتر.
“أحيّي ولي العهد، شمس الإمبراطورية الصغيرة.”
“هل قلتِ إن اسمكِ لينا؟”
“نعم، صحيح.”
ولي العهد أوستين، بابتسامة خبيثة لا تتناسب مع وجهه الوسيم، أدار رأسه نحو سيدريك.
“إذاً لا عجب أن يفقد كارسيون صوابه لأجلك.”
ألقى كلماته بتلك النبرة التي توحي بأنه يعرف أكثر مما يجب.
ثم أعاد نظره نحوي، وقال:
“يبدو أن حياتكَ الآن مرتبطة بهذه الفتاة، أليس كذلك؟”
“ماذا تقصد؟”
سأل سيدريك متجهماً.
“ألم تكن تعلم؟ لو أغضبتَ هذه الفتاة، ستفقد دعم كارسيون فوراً، أليس كذلك؟”
“.…لا أعلم من أين جئت بهذا الكلام.”
الأجواء كانت مشحونة.
رغم أن كلا الرجلين كانا يبتسمان، إلا أن الهواء بينهما كان كالسكاكين.
وقفتُ متيبسة بين هذين العملاقين السياسيين، أحاول جاهدة أن أبدو كأنني غير موجودة، لكن عبثاً.
فهدف أوستين الرئيسي… كان أنا.
نظر إليّ أخيراً بعد أن رمق سيدريك بنظرة جانبية متعالية.
“أود أن أرقص معك الرقصة التالية. هل لي بالشرف؟”
كيف لي أن أرفض؟ كان ذلك مستحيلاً.
ابتلعت ريقي بصعوبة، ثم تمتمت:
“سـ… سيكون شرفاً لي.”
يا إلهي…
ما الذي يحدث؟ لماذا أرقص مع ولي العهد؟
عقلي توقف عن التفكير، لكن جسدي واصل الرقص على إيقاع الموسيقى.
قادني أوستين إلى ساحة الرقص، وخطونا بانسجام مع أنغام القطعة الجديدة.
لكن كان واضحاً أن هذا مختلف تماماً عن الرقص مع كارسيون.
خطوة خاطئة واحدة قد تكون كارثة، كنت مشدودة كوتر، بينما هو كان يبتسم وكأنه يقضي أمتع أوقاته.
أما الحاضرون من النبلاء… فقد تخلّوا عن المجاملة تماماً وراحوا يحدقون بي كما لو كنت سمكة عارية على لوح تقطيع.
أردت أن أهرب.
اهتمام طبقة النبلاء هذا كان خانقاً.
وفي تلك اللحظة، همس أوستين في أذني:
“تعالي إلى غرفتي الليلة.”
“..…!”
توسّعت عيناي من الصدمة، ونسيت الخطوة التالية تماماً.
اصطدمت بأحد الراقصين القريبين لكن لم أملك الوقت حتى للاعتذار.
رأسي يدوي. هل قال للتو…؟
“…رينيه!”
وسط الضجيج، دوّى صوت كارسيون في أذني.
رغم أن عشرات النبلاء أحاطوا به، كان واضحاً أنه لم يتوقف عن مراقبتي.
في لحظة، شق طريقه بعنف بين الناس وتقدّم نحونا.
نظراته كانت كالبركان وهو يحدق بأوستين.
“ماذا قلتَ قبل قليل؟”
“قلت ماذا؟”
“ما الذي قلته لرينيه حتى تتجمّد في مكانها؟!”
“كارسيون، هل فقدتَ عقلك؟”
“..…!”
“هذه الفتاة ليست الآنسة إيفلين، إنها مجرد فتاة عادية تُدعى لينا.”
اقترب أوستين منا أكثر، وخفض صوته حتى لا يسمعه سوانا:
“يجب أن تشعر بالفخر لخدمة ولي العهد الليلة، أليس كذلك؟”
“أيها اللعين…!”
بووم!
لم أرَ إلا ومضات.
قبضة كارسيون ضربت وجه أوستين مباشرة، فأسقطته أرضاً.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد.
ركب فوقه وانهال عليه باللكمات.
مشهدٌ لا يُرى إلا في الأزقة الخلفية… كان يحدث الآن في قلب قاعة الرقص.
توقّف الرقص. تعالت الصرخات من كل الجهات.
القاعة تحوّلت إلى فوضى.
تجمدت في مكاني من الذهول، ثم تمالكت نفسي وصرخت:
“كارسيون!”
كيف يفعل هذا أمام كل هذه العيون؟ إنه يضرب ولي العهد نفسه!
حتى لو كان أميراً، فأوستين هو ولي العهد!
“توقف! أرجوك!”
أغلقت عينيّ وتشجعت، وتعلّقت بذراعه التي كانت تلوح بالضرب.
وتوقف… وكأنني ضغطت زر الإيقاف.
لكنه لم يكن شيئاً يمكن حله بالتوقف فقط.
أكان سينجو من هذا دون عقوبة؟ مستحيل.
حلّ صمت ثقيل أشبه بدلو ماء بارد سُكب على رؤوس الجميع.
الجميع بدأوا بالنظر إلى جهة واحدة.
تبعتُ تلك النظرات أنا وكارسيون معاً ببطء.
وهناك… على المنصة، كان الإمبراطور هاينريش الثالث يحدّق بنا بعينين جليديتين.
لا، بل كان يحدّق بي تحديداً.
التعليقات لهذا الفصل " 51"