كلما انقضى يومٌ صاخب، هاجت فوقه أمواجٌ أخرى من الصخب، تمامًا كما تندفع موجة جديدة فوق الموجة المتلاشية.
كان كارسيون مستلقيًا على سريره، يصغي إلى جدول أعمال اليوم المتدفق إلى أذنه دون روح.
كان تحت عينيه ظلان قاتمان للغاية.
“…بعد تحية جلالة الإمبراطور، هناك استعدادات لحفل الشكر. ثم تنتقلون إلى الساحة، وبعد انتهاء الحفل، من المقرر القيام بدورية على الأسوار برفقة الدوق ألفيرسو. وقد سأل سيادته إن كان دوق هيلغريت يود الانضمام أيضًا، فبماذا نجيبه؟”
“قل إنه مشغول ولا يمكنه.”
“حسنًا. سنواصل اعتبار مهمة حراسة الآنسة لينا أولوية قصوى. تاليًا، ينبغي عليكم مراجعة تقرير حراسة العاصمة كما اعتدتم. نظرًا لكون مهرجان التأسيس قائمًا، هناك الكثير من الزوار القادمين من خارج المدينة…”
استمر صوت دويمن بلا نهاية..
شعر كارسيون وكأن الدم سينزف من أذنيه.
أغمض عينيه ببطء ثم فتحهما، ونهض من على السرير.
كان دويمن يتبعه وهو يواصل سرد الجدول الزمني.
كارسيون أبدى صبرًا مذهلًا فلم يسكت خادمه، انتهز فرصة بقائه وحيدًا للحظة وأطلق تنهيدة طويلة.
انجذب نظره تلقائيًا إلى كتب السحر.
كان يتمسك بها كما لو كانت حبيبته، لا يتركها حتى قبل النوم، ويضعها بجانبه وهو نائم.
لو رآه أحد، لقال له لماذا هذا التعلق المفرط؟ توقف عن القراءة واذهب لتنام بدلًا من هذا.
لكن كارسيون كان يحاول بكل إصرار اكتشاف أي شيء.
في الواقع، حاول كل من دويمن وإيفان وسائر المقربين منه أن يثنوه عن الإفراط.
حتى الذين لا يعرفون التفاصيل أبدوا قلقهم على حالته.
“اللعنة.”
وهكذا أنهى قراءة الكتاب التاسع والأربعين.
كان يبحث عن خيطٍ يمكن أن يعيد ذاكرة رينيه المفقودة…
“هناك، لكن من أين أبدأ؟”
فتح درج الطاولة الجانبية بخفة.
كان في داخله قائمة بالطرق التي كتبتها له إيديرا، بالإضافة إلى طرق أخرى أضيفت لاحقًا.
كان من بينها أشياء خطيرة قد تودي بها ليس لفقدان الذاكرة للأبد فحسب، بل الحياة أيضًا إن جربها.
ولذا استبعدها بالطبع.
نقر بلسانه بضيق، ثم مرر أصابعه بخشونة عبر خصلات شعره الأشقر الناعمة.
رينيه إيفلين.
أحقًا…
حتى بعد عودتكِ، تجعلينني أُعاني بهذا الشكل؟ بعد أن عشتِ مع ذلك الوغد، مزّقتِ أعماقي تمامًا.
بصراحة، كان يتمنى أن يذهب يوميًا إلى بيت رينيه ليراقب إن كان ليونيل يقوم بأي حماقات.
بل حتى كان يرغب في إثارة فوضى تطرده خارجًا.
ولو كان يملك جسدًا ثانيًا، لكان تركه بجوارها طوال الوقت.
“هل كان القصر الإمبراطوري دائمًا مزدحمًا هكذا؟”
شعر فجأة بمدى الراحة التي عاشها أثناء فترته السوداوية.
وفي الوقت نفسه، لم يفهم لماذا يلهث الجميع خلف هذا النوع من السلطة الذي لا يأتي إلا بانشغال خانق.
على أي حال، كان عليه أن ينجز جدول اليوم.
الإذن بالزواج.
ذلك وحده هو ما كان يمنحه الصبر للاستمرار.
تحرك كارسيون بنشاط.
ذهب إلى قصر كارباس متذرعًا بتحية الإمبراطور هاينريش الثالث، الذي لم يفعلها طيلة حياته، فقط ليراه في صورةٍ حسنة.
“الابن الأصغر العبقري قد استعاد رشده، فأرجو أن تنظروا إليه بعين العطف.”
كان هذا من باب كسب المودة لاحقًا عندما يحين وقت طلب الموافقة على الزواج.
صحيح أنه عرض على إليزابيث أن تسهّل زواجه مقابل دعمه لسيدريك، لكن لا أحد يعلم ما قد يحدث.
قد لا يكفي إقناع الإمبراطورة وحده، لذا فإن كسب رضا الإمبراطور مسبقًا ليس بالأمر السيئ.
على أي حال، لم يكن هذا اليوم كأي يومٍ آخر.
كان يوم إقامة أكبر فعالية في السنة.
احتفال الشكر بمناسبة ذكرى التأسيس.
آخر مرة صعد فيها كارسيون إلى المنصة للمشاركة في هذا الحفل كانت عندما كان في السابعة من عمره، قبل ذهابه إلى فترة النقاهة في إقليم إيفلين.
وصل كارسيون إلى موقع الاحتفال مرتديًا زيه الرسمي، وبدأ يردد في ذهنه خطوات الطقوس التي أخبره بها الكاهن.
نظر إلى الساحة الممتلئة بالحشود من أعلى.
كانت مزدحمة جدًا.
حتى لو كانت شوتزن مدينة كبرى، فهل يعقل وجود هذا العدد من الناس؟
لكن لا عجب، فعدد الغرباء ارتفع أيضًا، لذا فالأمر ليس مفاجئًا.
حين جاء دوره لرفع الشعلة، تأمل كارسيون الساحة بعين يغمرها التأثر.
كم هو مدهش أن يفرح هذا العدد الكبير من الناس بيوم تأسيس الإمبراطورية.
لو لم يُهزم التنين الأسود، ماذا كان سيحدث لشوتزن؟ ربما خرج ذاك الوحش العملاق من جبال دنيبروك ودمّر القارة بأكملها.
ولو حدث ذلك، فماذا كان سيحدث لكل هؤلاء الناس…؟
ارتجّ حلق كارسيون بموجةٍ كبيرة.
حينها، بل حتى وقت قريب، لم يكن في ذهنه شيء سوى رينيه.
كان يتألم لفقدانها، حتى إنه لم يفكر قط في مهرجان التأسيس.
وعندها، وقع بصره على التمثال الذي يُزين جانبًا من الساحة.
شعر وكأن قشرة كانت تحجب بصره قد زالت.
هو يمتطي جواده بشجاعة، رافعًا سيفه.
في نظر الناس، يبدو كبطل أنقذهم.
كان يعلم أنه يُلقب بالبطل، لكن لم يشعر بذلك بهذه القوة من قبل.
قاتل من أجل رينيه، لكنه فقدها.
في وسط اليأس، شعر بموجة حارة تضرب قلبه عندما فكر في أنه ربما أنقذ “رينيه إيفلين” لشخص ما.
(م.ت: قصده لما فكر انه انقذ شخص ثمين بالنسبة لشخص اخر تماما مثلما كانت رينيه ثمينة على قلبه)
فاشتعلت حرارةٌ عارمة في صدره.
منذ عامين، عاد إلى ذهني الحماس الذي استقبلتُ به في مراسم التحسين، والذي قابلته بفراغ..
في ذاكرة كارسيون، كانت تلك الذكرى خالية من الألوان، لكن الآن أضيفت لها ألوان جديدة.
كنت قد شعرت باليأس حينها، متسائلًا عن جدوى كل ذلك في غياب رينيه، ولكن الآن، لم يكن الأمر كما توقعت.
كان لهذا كله معنى.
لقد حافظت على شخص ثمين لأحدهم.
لقد فعلت شيئًا ذا معنى.
لم أعرف لماذا شعرت بهذا الإدراك الآن، ربما كان مجرد نوع من الهدوء الغريب الذي يكتنفني بعد اكتشافي أن رينيه على قيد الحياة.
ابتسمت فجأة دون قصد. وفي نفس اللحظة تقريبًا، دخل شخص ما في مجال رؤيتي.
“…….”
اختفت موجة التأثر تمامًا.
وجه جميل مع شعر أسود. عندما اكتشف كارسيون رينيه، لم يستطع أن يترك نظره من على ليونيل الذي كان يلتصق بها كالطفيليات. كانت رؤيته حادة بما فيه الكفاية ليكتشف هذا.
بينما كان صوت كبير الكهنة يتردد كخلفية موسيقية، فكر كارسيون قائلاً:
آه، أريد التخلص من هذا الشخص بسرعة.
بينما كان لا يستطيع أن يبتعد عن النظر إليهما، لاحظ شخصًا يقترب من وراءهما. تجمدت عيناه قليلًا..
“……المعلم أولاند؟”
همس بها في فمه، وفي نفس اللحظة بدأ الوقت الذي كان عليه أن يضع فيه الشعلة في يده.
أسرع وأخذ الشعلة، وتجاهل الدور التالي ليختفي خلف المنصة بحركة سريعة. كان ذلك طبيعيًا لدرجة أن الجميع لم يستطيعوا التحدث.
“صاحب السمو، إلى أين تذهب؟”
سأل دويمن وهو يرافقه بصوت مضطرب. أخذ كارسيون بذراع دويمن وسحب رداءه بسرعة. كان ذلك شيئًا أساسيًا لا يعرف متى يجب عليه أن يخرج في نوبة حراسة المدينة.
“صاحب السمو؟ صاحب السمو!”
ركض كارسيون معلقًا الرداء على رأسه بينما كان دويمن يصرخ من خلفه. زاد كارسيون من سرعته.
بينما كان يركض عبر الزحام ويبتعد عن الناس، عبر ذهنه الارتباك لحظة.
“……معلمي!”
لم يكن قد رآه منذ عدة سنوات. كان هذا الشخص، مثل الفارس المتجول، يظهر ويختفي كرياح. كان عليه أن يرى هذا المرة قبل أن يرحل مجددًا. قد تفوته الفرصة لفترة طويلة دون أن يعرف إذا كان هذا الشخص حيًا أم ميتًا.
نظر أولاند إليه وابتسم مبتسمًا وهو يلوح بيده.
“أهلاً، أيها الصغير! كيف حالك؟”
***
هززت عيني في ارتباك.
من هو هذا الشخص بالضبط؟ كيف يكون شخصية كبيرة بما يكفي ليكون معلما لابن الإمبراطور الثالث ويستطيع أن يلقب قاتل التنانين بالصغير؟
“يبدو أنه شخص مهم رغم مظهره كفارس المتجول.”
همست بهذا الكلام بصوت منخفض لكي يسمعه ليونيل فقط، لكنه أجاب بغضب دون أن يبدي اهتمامًا.
“نعم، يبدو كذلك.”
كان لا يهتم أبدًا بالآخرين.
حتى لو كان هذا يخص علاقة مثيرة للاهتمام، فإنه كان لا يظهر أي اهتمام. درجة عدم اهتمامه بالآخرين كانت مذهلة.
“آه، لينا.”
بعد أن تبادل بعض الكلام مع أولاند، عاد كارسيون ليولي اهتمامه لي. نظر أولاند إلى جانبه وهو يرفع حاجبه.
“ماذا؟ أنتَ أيضًا تدعوها هكذا. هل غيرت رينيه اسمها إلى لينا؟”
“آه، الأمور معقدة، معلم. فقط نادها كما تريد.”
…ماذا تقصد بهذا، يا الرجل؟
لا تنادي اسم شخص آخر كيفما تشاء!
أعطيته نظرة حادة، لكن كان هو في راحة تامة، مبتسمًا لي بابتسامة عريضة.
“أريد أن أبقى أكثر، لكنني مشغول جدًا.”
“يبدو عليك ذلك.”
إذا نظر أحدهم عن كثب، لكان قد لاحظ أن بشرته كانت جافة. لولا جماله الطبيعي، لكان قد بدا فقيرًا جدًا.
“إذا كنت مشغولًا، اذهب بسرعة.”
قال ليونيل بصوت صريح.
خوفًا من أن يبدأ في الشجار مرة أخرى، أعطيت كارسيون إشارات بألا يفعل ذلك. لكن كارسيون ابتسم بلطف لليونيل ثم نظر إلي مجددًا.
“أراكِ في الـ26.”
“……!”
آه!
هذا سر عن ليونيل!
شعرت بالارتباك، نظرت إلى ليونيل بعيني فقط. بالطبع، كانت تعبيرات وجهه متجعدة جدًا.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 48"