الفصل 23. لا داعي لسداد الجميل
“كيف تسير عملية الجمع؟”
باغتني السؤال فجأة، فلم أتمكن من الإجابة فورًا، وتحركتُ ببطء وكأنني دمية خشبية معطوبة.
لم يكن ذلك لأنني بطيئة الفهم، بل أي شخص كان سيتصرف بالمثل.
“آه… ن-نعم! لا توجد مشكلة!”
قفزتُ واقفةً وأجبتُ بسرعة.
كان سيدريك، المسؤول الأعلى عن فريق الجمع، يحدّق بي من أعلى.
رأيتُ ابتسامته الهادئة، فابتلعتُ ريقي الجاف بينما مرت في ذهني محادثتي مع كارسيون في الليلة الماضية.
<كنتُ متعجبةً من معرفتك بمكان غرفتي في النزل. إذًا، الأمير سيدريك هو من أخبرك؟>
<لم يخبرني، بل حملكِ إلى هناك بنفسه.>
<ماذا؟ من الذي فعل؟ الأمير سيدريك؟>
صحيح…
بمعنى أنه حملني بنفسه، ووضعني في السرير بكل لطف… ثم في الصباح التالي، تصرف وكأن شيئًا لم يكن، متجاوزًا عن تأخري وكأن الأمر لا يستحق الذكر.
لم أكن أعرف حينها، ولكن الآن بعد أن عرفت، كيف يفترض بي أن أتصرف؟
في لحظة قصيرة، كان رأسي يعجّ بالفوضى.
“يبدو أن هناك مشكلة، رغم ذلك.”
قالها سيدريك بابتسامة هادئة، مغمضًا عينيه قليلًا.
توقفتُ عن الكلام على الفور.
ما الأمر؟ لماذا يبتسم لي هكذا؟ لماذا يعاملني بهذه اللطافة؟
“يبدو هذا صلبًا للغاية.”
“كنتُ على وشك طلب مساعدة أحد الفرسان.”
“لا داعي لذلك، بما أنني هنا.”
ثم أخرج سيدريك بسيف ضخم من خلف ظهره. لمع الضوء الأبيض على نصل السيف الفضي، فشعرتُ بالتوتر وسكتُّ تمامًا.
إنها الـهالة.
كان من الطبيعي أن يمتلك سيدريك، قائد فرسان فونيكس، قدرة التحكم بالهالة.
لكن السؤال الحقيقي هو: لماذا لم يكن مع الفرقة الثالثة في أعماق المنطقة، وجاء إلى هنا ليساعدني؟
أصدر السيف صوت طنين منخفض، وكأنه يهمس.
ثم—
وش!
عندما لوّح سيدريك بسيفه، تحوّل الحجر الصلب الذي جعل العرق يتصبب من جبهتي إلى قطع ناعمة بسهولة تامة.
“هل هذا الحجم مناسب؟”
“أمم… أعتقد أنه كبير جدًا.”
“هكذا إذن؟”
“يجب أن يكون أصغر. يجب أن يتّسع داخل هذه القارورة الزجاجية.”
“حسنًا.”
استجاب سيدريك لطلبي دون تردد، وكأنه تلقّى الأمر.
بعد فترة وجيزة، أضفت العينة الرابعة عشرة إلى مجموعتي، ونظرت إليها بشرود.
هل هذا عادي؟ أشعر أنني حصلت عليها بطريقة غريبة، لكن من الصعب تحديد الخطأ بالضبط.
“حتى لو حاولتِ بنفسك، لما نجحتِ. إنه معدن الميثريل.”
“أوه، فهمت.”
دونت اسم “ميثريل” على الملصق، لكن شعور الغرابة لم يفارقني.
من المنطقي أن نساعد بعضنا البعض أثناء جمع العينات، لكن… لا أدري، هناك شيء غير مريح في الأمر.
“شكرًا لك، صاحب السمو.”
عبّرت عن امتناني أولًا، فاكتفى سيدريك بإيماءة خفيفة كما لو أن الأمر لا يستحق الشكر.
نظرت إليه للحظة، ثم ترددت قليلًا قبل أن أضيف:
“سمعت أن جلالتك كنتَ من أوصلني إلى النزل يوم انطلاقنا. أشكرك حقًا على ذلك.”
ثم انحنيت بانحناءة عميقة احترامًا له.
عندما رفعت رأسي مجددًا، بدت على سيدريك ملامح دهشة طفيفة، وكأنه لم يكن يتوقع مني هذا الامتنان الرسمي.
لكنه سرعان ما ضحك بخفة، وكأن الأمر يروق له.
“آه، تقصدين ذلك اليوم.”
“سمعت من الأمير كارسيون.”
“أوه، حقًا؟”
ضيّق سيدريك عينيه قليلًا، وكأنه وجد الأمر مثيرًا للاهتمام.
“إن كنتِ ممتنة، فلتقبلي مني طلبًا واحدًا.”
“طلب؟”
تساءلت عما إذا كان هناك شيء أستطيع فعله لأجله، فأجبت بتردد:
“إذا كان في وسعي تحقيقه، فسأفعل ما أستطيع.”
“حين نعود إلى شوتزن، أود دعوتكِ إلى مأدبة عشاء.”
“أنا؟”
“هذا غير ممكن.”
هاه؟
لم أكن أنا من قال ذلك.
صدر الصوت البارد من خلفي، فاستدرت بسرعة نحو مصدره.
كان كارسيون يقترب، تحيط به هالة باردة وهو ينظر نحونا بحدة.
“أوه، كارسيون.”
“لماذا يدعو أخي لينا إلى مأدبة عشاء؟”
كنت أريد طرح السؤال نفسه، لذا قررت أن أدع كارسيون يتحدث بدلًا مني.
نقلت بصري بحذر بين الرجلين بينما كنت أشجع كارسيون سرًا.
“ظننتُ أنك ستقضي وقتك في التحديق بذكريات الماضي في القصر، فما الذي جاء بك إلى هنا؟”
حسنًا، هذا سؤال آخر كنتُ فضولية بشأنه.
نظرت إلى كارسيون سريعًا، والتقت نظراتنا للحظة، لكنه عبس قليلًا قبل أن يعيد تركيزه على سيدريك.
“يبدو أنك نسيت أن هذه المنطقة تخضع لسلطة فرسان توتين.”
“أوه؟ لكني لا أرى أي أثر لشعار توتين في أي مكان هنا.”
ثم ألقى سيدريك نظرة مبالغ فيها على المكان كما لو كان يبحث عن شيء مفقود.
أومأت موافقةً على كلامه، إذ لم ألحظ أنا أيضًا أي وجود لشعار فرسان توتين، الذي يحمل صورة الأسد الشجاع.
عضّ كارسيون على أسنانه بغضب، وتشنّجت عضلات فكّه.
كنت أشعر بتوتر الجو، فحاولت تقليص حجمي قدر الإمكان مثل سلحفاة تحاول الاختباء داخل درعها.
لكن للأسف، لم يكن لذلك أي فائدة.
“هيا بنا.”
أمسك كارسيون بمعصمي فجأة.
فاجأني تصرفه، فسألته دون أن أدرك:
“إلى أين؟ أنا لا أزال أعمل.”
“…تعملين؟”
“نعم، ألا ترى؟”
“…”
ساد صمت محرج.
وبعد خمس ثوانٍ تقريبًا—
“هاهاهاها! بوهاهاهاها!”
انفجر سيدريك ضاحكًا وأمسك ببطنه من شدة الضحك.
ضحك بصوت عالٍ حتى كاد حلقه يُرى بوضوح، بينما كان كارسيون يحدجه بنظرة قاتلة.
لكن سيدريك لم يتأثر مطلقًا، بل مسح دموعه من الضحك وقال لي:
“سأعوضكِ بعشاء فاخر، كتعويض عن هذه الضحكة.”
“…شكرًا؟”
أهذا منطقي؟
أشعر بأنني تلقيت أكثر مما قدمت.
‘لكن هل يُعتبر هذا ردًّا للجميل؟ أشعر أنني المستفيدة فقط.’
لقد حملني إلى النزل، وساعدني في قطع الميثريل، وكل ما عليّ فعله بالمقابل هو حضور مأدبة؟
“لا تذهبي إلى العشاء. إذا وعدتِ بعدم الذهاب، سأترككِ.”
بدأ كارسيون يتصرف كالأطفال المدللين، مما جعلني أحدق في معصمي الممسوك بدهشة.
ما خطبه؟
“لكنني أريد سداد الجميل لصاحب السمو سيدريك.”
“لا داعي لسداده.”
“ولماذا تقرر ذلك أنت؟”
“هل تفكرين في رد الجميل فقط لأنه حملكِ إلى النزل؟ ألم أخبركِ أنني كنت من أوصلكِ إلى منتصف الطريق؟”
“ماذا…؟”
نظرت إليه بذهول، بينما كان سيدريك يختنق من الضحك بجانبي.
“حسنا سأدعوكما معًا… هل يرضيك هذا؟”
بدت كلمات سيدريك كتنازل لطيف لشقيقه الصغير، مما جعلني أؤكد لنفسي أن الأخ الأكبر يبقى دائمًا الأخ الأكبر.
“إذن، كف عن هذا الآن. عد إلى فرسان توتين واهتم بشؤونك. آه… هذا يثير جنوني حقًا.”
“….”
بدا كارسيون وكأنه فقد كلماته للحظة، ثم أطلق معصمي ببطء.
شعرت بالإحراج نيابةً عنه.
***
في العاصمة شوتزن، داخل قصر كارفاس.
رغم أن الإمبراطور والإمبراطورة يعيشان تحت سقف واحد، إلا أنهما يسكنان في طرفين متقابلين من القصر، وكأنهما يعيشان في عالمين منفصلين.
كان هاينريش الثالث يقيم في الجناح الشرقي المسمى “الجناح الأيمن”، بينما تقيم إليزابيث في “الجناح الأيسر”.
ما لم يكن هناك موعد محدد، لم يكن أحدهما يتعدى على منطقة الآخر.
وفي هذه العزلة، كانت المؤامرات تُحاك بسهولة، كما لو كان الظلام تحت المصباح.
وضعت إليزابيث فنجان الشاي على الطاولة، ونظرت إلى المرأة الجالسة أمامها.
كانت كيت، زوجة سيدريك، امرأة ذات مظهر رزين، تعقد شعرها البني المحمر بتصفيفة أنيقة.
رفعت عينيها ببطء، فكشفت عن نظرة واثقة ذات طابع استفزازي.
“إذن؟”
عندما سألتها إليزابيث، فكرت كيت قليلًا قبل أن تجيب:
“قبل سبع سنوات، لم يحقق إعلان خطوبتنا التأثير المطلوب بسبب ظهور الآنسة إيفلين.”
زمّت الإمبراطورة شفتيها بغيظ.
“تلك المرأة عديمة الفائدة.”
حتى بعد مرور الزمن، كان الغضب لا يزال يغلي في داخلها.
على عكسها، كانت كيت هادئة… أو ربما باردة بشكل أكثر دقة.
“لا أدري كيف يمكن حدوث مصادفة كهذه، لكن يُقال إن الشبه بينهما لا يُصدق. ظهورها سيجعل الأنظار تتجه إلى الأمير كارسيون مرة أخرى.”
تنهّدت إليزابيث بملل.
“ذلك الفتى، يا له من مصدر للإزعاج. كيف يمكن لابنٍ أن يولد من صلبي ولا يبذل أي جهد لدعم شقيقه؟”
“من الصعب توقع تعاونه طوعًا، لذا… سنستغله.”
“وكيف تنوين ذلك؟”
ظهر الفضول على ملامح إليزابيث، لكن خلف هذا الفضول كانت تختبئ رغبة خطيرة تتغذى على الطموح والسلطة.
ما كانت تطمح إليه هو العرش الإمبراطوري لابنها.
أردت أن تنتزع لقب ولي العهد من أوستن، ابن الإمبراطورة الراحلة، وتضعه بين يدي سيدريك.
أما كارسيون، فلم يكن في الحسبان أبدًا—لم يكن هناك أمل فيه. سيدريك وحده كان خيارها الوحيد.
لحسن الحظ، كانت زوجة ابنها، كيت، تحمل الطموح ذاته.
لم تكن امرأة تكتفي بلقب زوجة الأمير، بل أرادت أن تصبح أعظم امرأة في الإمبراطورية.
وفي عينيها الباردتين، ارتسمت خطة خبيثة وهي تتحدث:
“علينا فقط ألّا نترك الفتاة المدعوة لينا وشأنها. وعندما يجن جنون الأمير كارسيون ويأتي إلينا، سنقترح عليه التعاون… وفق شروطنا.”
باختصار، رهينة.
ارتسمت ابتسامة راضية على وجه إليزابيث، وهي ترفع فنجان الشاي برشاقة.
كانت خطة تعجبها تمامًا.
التعليقات لهذا الفصل " 23"
الإمبراطورة و ولدها و زوجة ولدها كلهم عليهم قل صح