هي لَمْ تَكُنْ بحاجةٍ إلى أنْ ترى انعكاسَها في عينيهِ لتعلمَ ذلك.
كان وجهُها مُتوَهِّجًا بحُمرةٍ مُحرِقة.
وكانت تعلم أنَّ هذا ليس ردَّ الفعل الجيّد.
وقد غمرها خَجَلٌ جعل جَسَدَها يرتجف.
لذا دَفَعَتْ ريينا الدّوقَ الأكبر بعيدًا عنها.
كانت تتوقّع ألّا يتحرّكَ أبدًا.
لكن، ولدهشتها، تراجعَ هو بخطوةٍ تقريبًا دون أدنى مقاومة.
رفع دانتي حاجبَه، وسألَ بنبرةٍ يَختلطُ فيها التّسليةُ بالتّعجّب:
“هل دَفعتِني للتوّ؟”
“أنتَ—أنتَ مَنْ سَحَبَني وأمسكني أوّلًا!
وقبل قليل أيضًا!”
ارتجفَ نَفَسُها وهي تردُّ عليه بحدّةٍ على سؤالِه المُخزي.
لكن دانتي، وقد شبك ذراعَيْه، مالَ برأسه قليلًا كأنَّه لا يعلمُ عَمّا تتحدّث.
“لا. كنتُ أُنقذكِ.
ماذا لو ارتطمتِ بالنافذة وحطّمتِها؟ هل كنتِ تنوين دفع ثمن الزجاج؟”
“أنتَ حقًّا…!”
كانت على وشك الصّراخ، لكنّها تجمّدت.
لقد نادَتْه بلقبٍ مُقرَّبٍ أكثر مِن اللازم عن طريق الخطأ.
تقلّبت عيناها بتوتّر، ثمّ رَفَعَتْ نَظَرَها لتلتقي بعيني دانتي.
“جيّد.
ناديْني هكذا فقط.”
بالطّبع، التقط دانتي ذلك فورًا.
ارتسمت ابتسامةٌ بطيئة على شَفَتَيْه وهو يتحدّث بصوتٍ منخفض.
“يبدو الأمر أسهل عليكِ.
أظنُّ هذا ما تُنادينني به دائمًا في داخلكِ؟”
“لا، لا! لقد… لقد خرجَتْ من لساني دون قصد!”
أنكرَتْ ريينا بيأس، لكن الخجل اجتاحها كطفلةٍ كُشِفَ سِرُّها.
ضحكَ دانتي بخفوتٍ على ارتباكِها الواضح.
“لمجرّد لقبٍ واحد، تتصرفين كما لو أنّكِ همستِ بحبِّكِ لي.”
قطّبت ريينا حاجبَيْها بعدم رضا.
“لا تَقُلْ أشياءً كهذه.”
“كنتُ أمازحُكِ يا آنسة برونتي.”
“…المزحةُ لا تكونُ مزحةً إنْ لَمْ يُعجَب بها الطرفُ الآخر. وأنا لا يعجبني ذلك.”
“حقًّا؟ هذا رائع إذن.”
التوى طرفُ شفَتَيْه باحتواءٍ ساخِر.
“لا يجدرُ بكِ أن تجدي كلامي مُسلّيًا.
لم آتِ إليكِ لأجل ذلك، بل لأجل إضاعة وقتي في معاقبتكِ.”
“…إذًا هذا أيضًا عِقاب؟”
“وماذا عَساهُ يكون؟”
حين عادَت قسوةُ عينيه الباردة المعتادة، بدأ الاضطرابُ الذي كان يلتفُّ بقلبها في الهدوء.
حينها فقط شعَرَتْ ريينا بأنَّ تمالُكَ نفسِها يعود إليها.
تراجعت خطوةً نحو المساحة الفارغة، وضَمَّتْ شَفَتَيْها.
…لقد تَعِبَت.
إنَّها تُريد فقط أن تعود.
فَتَحَتْ فَمَها لتودِّعه—
—لكن فجأةً الدوق الأكبر دَارَ ليبدأ بالسّير بعيدًا.
لَمْ يَبدُ أنّه يُطلِقُ سراحها لتعود إلى المنزل.
وبعد خطواتٍ قليلةٍ، التفت بنظرةٍ تأمرُها أنْ تتبَعه.
تردّدت ريينا، ثمّ مشت خلفه ببطء.
لقد قالت إنَّها ستقبلُ عقابها، في النّهاية.
لكن إلى أين يأخذها؟
ضَمَّتْ صدرَها الذي يخفق بسرعة، وتقدّمَتْ.
وتوقّفَت خطواته فجأةً.
ششش—
الصوتُ المألوف للأمواج.
أدارت ريينا رأسَها، فإذا بالبحر الليلي الفسيح يملأ رؤيتَها.
على بُعد خطوات، وقف الدوق الأكبر بصمت، مُحدِّقًا في الأمواج وهي تتكسّر بيضاء على الرّمال.
…أحضرها هنا فقط لتُشاهِد البحر؟ نظرت إليه بريبة.
كانت خُصلاتُه الذهبيّة الفاخرة تتطاير مع نَسيم البحر.
وحتى في ليلةٍ دافئة، عادَتْ عادته في ارتداء كلّ شيءٍ بإتقان؛ بذلته المُحكمةُ بلا تجعيدةٍ واحدة.
توقّف بَصرُها على وجهه.
تحت ضوء القمر، بدا أكثر حِدّةً من قبل—أفقدَ وزنَه؟
ذلك الحاجبُ المستقيم.
تلك الملامحُ المُحدَّدة.
نعم، كان دانتي دائمًا وسيماً بطريقةٍ راقيةٍ رقيقة.
وقد وقعت الكثير من النبيلات في حبّ ذلك الوجه بالذات.
نَظَرَتْ إليه ريينا بعينٍ هادئة.
مؤكّدٌ أنّه عاش جيدًا.
ومع ذلك، لَمْ تستطع إلّا أن تتساءل: كيف عاش حقًّا طيلة ذلك الوقت؟
متى سَمِع عن حادثة العربة؟
ماذا كان شعوره حينها؟
عندما فَشِلَت فِرَقُ البحث في العثور عليها.
وحين أقام جنازةً لتلك المرأة التي وقفت مكانها كزوجته.
في كلّ تلك اللحظات—ما الذي كان يجولُ في عقلِه؟
كلّما تعمّقت في التفكّر، زادت ضغطةُ أسنانها على شَفَتَيْها، لتمنعَ نفسها مِن طرح أسئلةٍ لا ينبغي لها أن تسألها.
“أنتِ تَرتدين ذلك التّعبير مُجدّدًا.”
تجمدتْ لوهلةٍ على صوته.
التفتت، فوجدت نظرة دانتي تخترقها.
رَمَشَتْ بعينَيْها، وسألتْ بحذر:
“…أيُّ تعبير ترَاه؟”
“أنتِ أدرى بما تشعرين به.”
ضاقَت عيناه قليلًا بمكر.
“لكن إنْ أردتِ أن أقول… فهو تعبيرُ شخصٍ لديه الكثير مِن الأفكار، الكثير مِن الكلمات غير المنطوقة، والكثير مِن القلق.”
“…”
“بماذا تُفكّرين بكلّ هذا العناء؟”
“…هل يرى جلالتُك كلّ شيءٍ بوضوحٍ هكذا؟”
جاء ردّها مِن مُجرد عناد.
بأيِّ حقٍّ يتحدّث عن مشاعرها بهذه الثقة؟
“أنا أكبر منكِ بخمس سنوات.
أتعنين أنّي لا أستطيع أن أميّز؟”
ضحكَ دانتي على عنادها.
“بالطّبع أستطيع.
الأمر مكتوبٌ على وجهكِ.”
“…إذًا جلالتُكَ تعلم أيضًا أنَّ وجودي هنا يُضايقُني.”
“لا مِناص.
هذا عقابٌ يا ريينا.”
زَفَرَتْ بهدوء.
وتقدّمت خطوةً وهي تسأل:
“هل جئتَ إلى هنا لرؤية البحر؟”
إنْ كانت هذه رغبته، فالأفضل أن تُنهي الأمر سريعًا بدل أنْ يتركها معلّقة.
لكن مع ذلك، ظلَّ دانتي صامتًا، لا ينظر إلّا إليها.
وعندما أمالَت رأسها استفسارًا، كرّر نفس الإيماءة:
“اتّبعيني.”
هذه المرّة، هي مَنْ تقدّمت، وهو تبعها بصمت.
وبعد مسافةٍ قصيرة، توقّفت والتفتت إليه.
“هنا يكون البحر في أجمل منظر.”
تطايرَ شعرُها البُنيّ المتموّج مع نَسيم الملح بينما دانتي يتبع نظرتها.
هنا، يمتدُّ المحيطُ الواسع بلا حاجز، وموجُ القمر يُضيء السّواد ببريقٍ فضّي.
كان المشهد حقًّا أوضح بكثير.
تفحّص دانتي المكان.
نعم—هذا هو الشاطئ نفسه الذي جلست فيه قبل أيّام.
“ما رأيك؟”
عند سؤالها الخافت، خفَض دانتي عينَيْه نحوها.
تقلّبت ابتسامةٌ خفيفة عند شفَتيه.
كانت ريينا تُحدّق به بعيونٍ يلمعُ فيها أملٌ صامت يفوق جمالَ البحر نفسِه.
“…مُشابِه.”
“إن أردتَ رؤية البحر ثانيةً، يمكنك المجيء إلى هنا. فقط اتبِع الشاطئ وسوف—”
“أنا لا أحبّ البحر.”
قَطَعَ حديثَها فجأة.
رمشت ريينا بدهشة.
“…إذًا لماذا جئتَ إلى هنا؟”
“ليس لأراه بنفسي.
لأُريَه لكِ.”
وهو يضعُ يدَيْه خلف ظهره، أمالَ رأسه قليلًا.
ثمّ التقت عيناه بعينيها، وأطلق ضحكةً صغيرة.
“أنتِ تأتين إلى هنا كثيرًا، أليس كذلكِ؟”
ارتطمت الأمواج بقوة على الشاطئ.
تَفَتّحت شَفَتَاها قليلًا ثم أطبقتا من جديد.
لقد فهمت أخيرًا سببَ اضطرابِ قلبها.
لم يكن فقط قلقًا أو مشاعر متبقية.
بل شيئًا دَفَنتْه عميقًا، شيئًا ظنّت أنّها تخلّصت منه منذ زمنٍ بعيد.
والآن، بات ينمو من جديد.
“…لا أعلم لماذا تُضيعين وقتكِ بمشاهدة هذا.”
“إنّه ليس إضاعةً للوقت.
مُشاهدة البحر… تُساعدني على ترتيب أفكاري.
تُهَدّئ قلبي.”
“لابدّ أنّكِ لا تملكين ما تفعليه كثيرًا.”
ضيّقت ريينا عينيها بغيظ.
بينما ظلّ هو يحدّق بالبحر، بلا تعبيرٍ يُقرأ.
ثم عَضَّتْ شَفَتَها، قبل أن تهبطَ لتجلس على الرّمال.
قطّب دانتي وقال إنّها ستتّسخ—لكنها تجاهلتْه.
رتّبت تنّورتها، وضمّت ركبتيها إلى صدرها.
تمامًا كما تفعل دائمًا حين تُشاهد البحر.
وكأنّ الوضعَ جزءٌ مِن طبيعتِها.
أطلق دانتي ضحكةً خافتة، ثم جلس ببطءٍ إلى جانبها.
“…أأنتَ جالسٌ أيضًا؟”
“وماذا؟ هل عليّ الوقوف إذن؟”
كان صوته مُتضايقًا، لكن ما إنْ جلس حتّى لم يُبدِ رغبةً في النهوض.
وبصمت، وجّه نظره إلى البحر.
ششش—
امتلأت أنفُها برائحة الملح، ممزوجةً برائحةِ أعشابٍ وزهورِ اللافندر.
…أعشابٌ ولافندر؟
استنشقت ريينا قليلًا.
من أين يأتي هذا؟
وبعد لحظة، أدركت.
فالتفتت ببطء.
“ماذا تفعل؟”
“…”
التقت نظراتهما—وتجهمَ وجهُه قليلًا، وكأنّه أدرك أنّها اقتربت منه دون وعي.
احمرّ وجهُها، فأغمضتْ عينيها بإحراج.
استقامت بسرعة وهي تتمتم:
“…كنتُ فقط أتساءل إنْ كنتَ تضعُ عطرًا.”
“انظري إلى البحر.”
ارتعشت شَفَتُها وهي تستدير، مُحاولةً كتمَ خجلها الشديد.
عاد الصّمت يُخيّم.
إلى أنْ لفَحها البردُ فجأة.
“…!”
وُضِعَ معطفٌ على كتفيها بخفّة.
نظرت للأسفل.
لونٌ بيج.
أنه معطفه.
“…أنا بخير.”
رفعتِ المعطف وقدّمته له من جديد.
“أبقيهِ.
هذا جزءٌ مِن عقابكِ.”
لكن دانتي منع يدها، ووضعه عليها مجددًا.
إنّه يفعلها مرّة أخرى.
يفرضُ عليها الأشياء.
حدّقت به ريينا بضيقٍ خافت.
“تُسمّي كلّ شيءٍ عقابًا يا جلالتُك.”
“اختياري.”
شبك ذراعَيْه ورفع حاجبَه.
“الجوُّ باردٌ الآن.
قولي إنَّ علينا الدّاخل.”
“ما الذي تقوله فجأة؟”
“ما الذي يُقلقكِ إلى هذا الحد؟”
التعليقات لهذا الفصل " 35"