سار دانتي في ممرِّ القصر الشامخ، بخطواته الهادئة والثابتة، كما عوّد الجميع.
كان الممر مزينًا بزخارف باهظة؛ ذهب وتماثيل، ومظاهر ترفٍ فاق كل تصوّر.
توقّف أخيرًا أمام بابٍ ضخم مطعّم بالزخارف والنقوش الذهبية.
أحدث صوته الخافت قطعًا لسكينة المكان.
“أعلنوا عن قدومي.”
أومأ الحارس الواقِف عند الباب باحترام، ثم طرق الباب الداخلي برفق.
بعد لحظات، فُتِح الباب.
دخل دانتي المكتب، وأومأ بإيماءة بسيطة للرجل المتمدد على الأريكة — وليّ العهد، رايشرت.
“كما ذكرت، جئتُ بنفسي يا صاحب السمو.”
“لقد وصلت يا أخي. تفضل، اجلس. أحضروا الشاي.”
أشار رايشرت بكسل وهو يتحدث.
وبمجرد جلوس دانتي، تقدمت الخادمات ووضعت كوبين من الشاي الطازج أمام وليّ العهد والدوق.
راقب دانتي المشهد بصمت.
ثم، فجأة، أطلق ضحكة خفيفة.
قطّب رايشرت حاجبيه في حيرة من هذا التصرف الغريب.
سأل عبوسًا:
“لماذا تضحك؟”
“وعلام؟”
أجاب دانتي بنظرة خالية من التعبير، كما لو لم يحدث شيء.
أمال رايشرت رأسه قليلًا، مستغربًا… هل أوهَم نفسه؟ لقد بدا له أن دانتي ضحك بالفعل.
تجاهل دانتي حيرته، ولم ينتظر طويلًا بعد مغادرة الخادمات.
“لماذا زرت قصر بيهيرن؟”
“…غالب الناس يبدأون بتحية لائقة يا أخي.”
“حسنًا. لا أعلم إن كنت أنت آخر من يحق له الحديث عن الذوق… خصوصًا حين تقتحم قصر شخص دون إخطار، بينما صاحبه غائب.”
كَتم رايشرت شتيمة كانت على وشك الخروج مع حدة كلامه، ومع ذلك حافظ على هدوء ملامحه وهز رأسه ببطء.
“كنت مارًا في الطريق، فقررت المرور لأقدّم الاحترام. لم يسعفني الوقت لإرسال خبر مسبق، ولم أكن أعلم بغيابك.”
يا لها من هراء…
رفع دانتي حاجبه ساخرًا من تلك الكذبة الواضحة.
لم يكن ساذجًا ليغفل عن دلالة جلوس رايشرت ساعات طوال في القصر منتظرًا.
ابتسم دانتي ابتسامة خفيفة وهو يرفع كأس الشاي.
“آمل أن يكون قدومك كل هذا الطريق مجديًا.”
“سيكون، أنا متأكد من ذلك.”
اشتدّ وجه رايشرت، ومال صوته نحو الصرامة.
“لا يزال المجلس الملكي وبيوت النبلاء في ضجّة. أكبر الشكاوى هي لقبك والطريقة التي مُنحت بها.
يا أخي، لقد مر عام على جنازة الدوقة الكبرى.
لم أعد قادرًا على تهدئة الأمور لك بعد الآن… حان وقت القرار.”
طرق دانتي بأصابعه على ركبتيه مستمعًا بصمت.
لم يشكّ لحظة في صحة كلامه — المشكلات لم تتوقف منذ فقدان الشروط المرتبطة بلقبه.
وكانت الغربان تحوم فوق رأسه فورًا.
عام كامل اشترَاه بصعوبة بفضل حماية الملك ومشهد جنازة الدوقة الكبرى.
وحدها تلك اللحظة منحت القصر مهلة مؤقتة.
بالطبع، كان دعم القصر لأنفسهم قبل أن يكون له.
أمّا الجنازة… فكانت درعه — صورة صاغها بعناية مع دعاة بيهيرن.
رغم فضيحة إلغاء الزواج، أقام دانتي جنازة ضخمة في قصره لامرأة أحبها يومًا.
حادث مأساوي… دوق حزين… ورواية شعبية عن إخلاص لا يموت.
جعلت الصحافة منها قصة للعامة.
بكى الشعب.
وهذا ما اشترى له الوقت.
رفع دانتي حاجبه مجددًا.
والآن… هذا الوقت ينفد.
لقد مدّه أطول مما توقع الآخرون… لكنه سينتهي أسرع مما أراد.
“إذن عليّ أن أتعامل بنفسي مع كل أحمق ظل يثرثر عني طوال العام؟”
“…من الحكمة ألا تطلق مثل هذه الإهانات.
آمل أن لا تنسى أنني لست ممن يحبونك كثيرًا يا أخي.”
“أوه؟ إن كان ولي عهدنا ينوي الجري باكيًا ليشتكي… أظن أنني أستطيع ضبط نفسي. الأطفال يصعب عليهم التحكم بانفعالاتهم. أتفهم ذلك.”
احتسى دانتي الشاي كأن شيئًا لم يحدث.
ومن خلف البخار المتصاعد، أبصر ولي العهد يرتجف بغضب مكظوم.
مسلٍ… لكنه غير مهم.
وضع الكأس بهدوء، واتسعت حدقته قليلًا وهو يتابع:
“إذن… إما قبول الشروط المعدلة، أو التخلّي عن اللقب.
أهذا ما تريد قوله؟”
“هذا أفضل خيار متبقٍّ.
وبصراحة، قبولها سينفعك أنت قبل أي شخص.”
“ينفعني؟ أم ينفعك؟ إن شاع أن العائلة الملكية سلّمت عملاً كبيرًا لرجل بلا لقب… فلن يبدو ذلك جميلًا، أليس كذلك؟”
اشتدّ فكّ رايشرت وجزّ بأسنانه.
“ليس لأجلي — بل لأجل العائلة الملكية!
وجلالة الملك هو من سلّمَك هذا العمل.
إنما أنا أحترم قراره.”
“كم هو مؤثر… تلفّ عجزك بشريط جميل.”
“أخي!!!”
لم يعد رايشرت قادرًا على كبح نفسه.
ارتفع صوته، واشتعل الغضب في عينيه الزرقاوين.
لولا محبة الملك لهذا النبيل الدنيء، لما اضطر إلى الانحناء له… ولا إلى مناداته: يا أخي.
أي وقاحة!
يتحدث هكذا مع ولي عهد البلاد!
لكن دانتي لم يطرف له جفنًا.
الصراخ… التهديد… الضغط… لا يعني له شيئًا.
خصوصًا حين يكون الخصم… هذا الرجل.
“انتظر.”
“…ماذا تقصد بالانتظار؟”
“حياتك على المحك أيضًا. فتشبث قدر ما تستطيع.”
دفع دانتي بكأسه نصف الممتلئ باتجاهه.
ثم وقف ببطء من مكانه، وقال بنبرة هادئة مقصودة:
“هذا الخريف. إلى ذلك الحين.”
—
في العصر البطيء، كانت بائعة الزهور تزور أحيانًا المقهى.
وحين تفعل، تجتمع ريينا وشارون معها على الشاي والحديث — طقس صغير يجمعهن.
“ريينا، القهوة التي تصنعينها دائمًا الأفضل.
رائحتها مميزة حقًا!”
“شكرًا لك.”
ابتسمت ريينا بلطف وهي تتلقّى المديح.
“هاه، أليس كذلك؟ لكن اسمعي… قبل يومين فقط، جعل أحد الزبائن يعيد قهوته ثلاث مرات!”
“هاه؟ من؟”
نادتها ريينا بنظرة جانبية وابتسامة خفيفة.
لكن بعدما خرج الكلام… لم يعد مجال لاسترجاعه.
كانت بائعة الزهور تتقلّب بنظراتها بينهما، فضولها يلمع.
أدركت شارون خطأها بعد فوات الأوان، فانكمشت قليلًا تحت أنظارهما.
تنهدت ريينا.
“لم يكن شيئًا مهمًا.
الزبون فقط… لم يُعجبه ما صنعته، على ما أظن.”
“ماذااا؟ ثلاث مرات؟ هذا مجرد سخافة! أكان رجلاً؟”
“نعم.”
“هممم… إذًا ربما لم يكن سيئًا.
ربما يُعجب بك يا ريينا؟”
“ماذا؟”
رمشت ريينا متفاجئة، بينما اقتربت بائعة الزهور منها بنبرة مزاح.
“لا تستهيني بكلامي! لقد عشت أربعين عامًا، وأعرف الفرق! الرجال والنساء مختلفون!
ومهما كبروا… يُغازلون بإزعاج!”
“هذا جنون.”
“لم يكن الأمر هكذا.”
أجابت ريينا بحزم، قاطعة الطريق على الحديث.
“لا ترفضي الفكرة بهذه السرعة! ثلاث مرات؟ لو كانت سيئة، لتركها ورحل! لكنه لم يفعل! أظن أنه حاول التقرب منك! أنتِ جميلة… راقية… ولست متزوجة… بالتأكيد كان يحاول لفت نظرك!”
“مقرف. هذا أسوأ.”
لوّحت شارون بيديها باشمئزاز.
“ريينا تستحق شخصًا لطيفًا وحنونًا، لا مزعجًا كهذا!”
“أعني… لم يكن سيئًا تمامًا…”
“لا يهم! وأنتِ يا سيدتي، تحوّلين كل شيء إلى رومانسيّة! …مع أنّه، لو جاء فقط لأنه لا رجال آخرون…”
التفتت شارون إلى ريينا بحماس مفاجئ.
“ريينا! أتريدين حبيبًا؟ إن وافقتِ، سأجد لك واحدًا لطيفًا وودودًا!”
“هاه؟ أُه… لكن ألا يوجد أحد لديها بالفعل؟”
“من؟”
“تعلمين… صحيح يا ريينا؟”
التحدث عن الحب — حين لا تفكر به صاحبتُه — مرهق فعلًا.
التعليقات لهذا الفصل " 33"