كم كان ذلك الشعورُ مُلحًّا في قلبي، لدرجة أنّه لم يبدُ علي أيُّ اندهاش حين أخبرتنيَ بأنّني أملك قوىً مقدّسة.
بل على العكس، بدا وكأنّ ذلك منحني سببًا جديدًا للفرح.
لأنّني، بامتلاكي لهذه القوة، قد أكون قادرة على مساعدتهم.
فمن يملك قوًى مقدّسة لا يضطرّ للعيش حياةً بائسة بعد الآن.
حتى لو طُردتُ من قِبل الدوق، فلن أُعاد إلى الميتم، وسأتلقى معاملة مميزة داخل المعبد.
لكن، رغم ذلك، لم أفكر بتاتًا بهذه الأمور.
“هل هي صديقة عزيزة عليكِ؟”
“نعم. صديقةٌ عزيزة جدًّا. لكن كي أتمكن من شفائها… لا يوجد حل. إن تركناها على حالها، أظنّها ستظلّ نائمة إلى الأبد.”
حتى إن لم تنم إلى الأبد، فربما لن تتمكن من الاحتفاظ بأيّ ذكرى جميلة من طفولتها.
وقد تُستغلّ من قبل الآخرين.
وأنا لا أريد أن يُستغلّ مرضها لتُستخدم وسيلة لتحقيق أهداف أحدهم.
“يبدو أنّكِ تحبينها حقًّا. هذا واضح من كل ما تفعلينه.”
“نعم. أحبها كثيرًا.”
“هل تتحدثين عن الآنسة الدوقية؟”
“كيف…؟”
“يمكن رؤية كل شيء.”
هل يمكنها حقًّا رؤية شيءٍ ما؟
أشعر أنني مكشوفة تمامًا أمام الكاهنة الكبرى، وكأنّها تخترق روحي.
‘لكن لا بد من فعل شيء.’
سأجد الدليل، مهما تطلّب الأمر. سواءٌ عبر الكاهنة أو بأيّ وسيلة أخرى.
سأكشف أنّ ما تُعانيه لاري ليس بسبب علّة عادية، بل نتيجة تدخّل جهة لا يمكن حتى للدوقة الكبرى الاقتراب منها.
ولأجل ذلك، يجب أولًا أن تستعيد لاري عافيتها.
فحالما تستعيد صحّتها، سيقوم أولئك بصنع شيءٍ جديد لهزّها مجدّدًا، وإن كان ذلك بشكلٍ خفيف.
وحينها، سيظهر الدليل لا محالة.
‘سأستغلّ ذلك لأهزّها تمامًا.’
مسألة شفاء لاري تختلف عن هذه الخطة.
ففي الرواية، كانت لاري تمرض بشدّة.
لكن هذه المرّة… لا أعلم ما الذي سيحدث.
ربما، بينما كنّا غائبين، كانت تثق بالدوقة الكبرى كثيرًا، وربّما تناولت كميّة من السم أكبر من تلك التي وردت في الرواية.
‘قد ينتهي الأمر بكارثة.’
في الرواية، نجَت لاري رغم كل شيء، لكن هذه المرّة لا ضمان لذلك.
ففي الرواية، ورغم أنّها من نسل الوحوش، ومن دم الدوق، لم تكن بصحة جيّدة.
حتى بعدما كبرت، كانت كثيرًا ما تسعل دمًا أو يُغمى عليها.
وكان وجهها الشاحب لدرجةٍ جعلت الناس يلقّبونها بمصاص الدماء القادم من الجحيم.
‘لكن، في النهاية، ماذا حدث لها؟’
أمرٌ غريب… لم أعد أذكر نهاية الرواية بوضوح.
‘هل السبب أنّني أصبحت جزءًا من هذه الرواية؟ لكنني متأكدة أنّ لاري كان لها نهاية… هل ماتت؟’
قبل أن تموت على يد ولي العهد… قبل أن يلقى الاثنان تلك النهاية المروّعة، لا أتذكر كيف سارت الأمور بالضبط.
هززتُ رأسي نفيًا.
لا، لاري ماتت بسبب ولي العهد.
“آه…”
“ما بكِ، آيشا؟”
شعرتُ وكأنّ طاقةً غريبة تنبعث من يد الكاهنة التي مسحت خدي.
وربّما لهذا السبب، شعرتُ فجأة بدوارٍ شديد، واسودّت رؤيتي.
“أنا… أشعر بدوار…”
“لا بأس. اتكئي عليّ قليلًا.”
سحبتني الكاهنة نحوها برفق، دون أن تظهر عليها أيّ ملامح صدمة.
“يمكنكِ أن تغفي قليلًا.”
“يا كاهنة… لماذا… لماذا يحدث هذا لي فجأة؟”
“تلقي بعض المساعدة لا بأس به. لتتذكّري الأمور التي ربطتِها في أعماقكِ بنفسكِ. وبعدها، سيبدُ لكِ العالم مختلف قليلًا.”
ما الذي تعنيه؟
هل تُلمّح إلى أنّني أخفي شيئًا؟
لكني لم أستطع سؤالها المزيد.
إذ بدا لي صوت لوهين بعيدًا، وكأنّه يتردد في أذني.
ثم، وجدتُ نفسي أنجرف إلى عالمٍ يبدو كالحلم، لكنه ليس حلمًا.
أظلم العالم من حولي، وحين فتحتُ عينَيّ مجددًا، وجدتُ نفسي أمام مشهدٍ لم أكن أتوقعه.
قاعةٌ ضخمة، تتردّد فيها الأصوات كلما تحدّث أحدهم.
وفيها ثلاثة أشخاص.
كنت أعرفهم، لكنني في الوقت نفسه لم أكن أعرفهم.
رأيت وجوههم في الرسومات، لكنني لم أرَهم يتحرّكون من قبل.
كانوا هم: ولي العهد، ولاريز التي تُلقّب بـ”الخلفيّة السوداء”، ولوهين.
لكنّهم لم يكونوا في طفولتهم، بل كانوا بالغين.
كانت ملامحهم كالرسم الذي ظهر في غلاف الرواية والرسوم التوضيحية.
لم أُرِد الاعتراف بذلك، لكنني عرفتهم من اللحظة الأولى.
‘آه… لا… هذا سيّئ…’
وما رأيته أمامي كاد يُفقدني صوابي.
شعرٌ أسود مبعثر كزهورٍ تفتحت بعشوائية، وجهٌ شاحب إلى أقصى حد، دمٌ يسيل من وجنتها، وسيفٌ مغروز في صدرها.
وقد اختفى نور الحياة من عينيها.
كانت تلك هي لاري، بعدما كبرت، المرأة التي لقّبها الناس بالشريرة.
وكان لوهين يحتضنها، ينظر بمرارة إلى الرجل الواقف أمامه.
الرجل الذي سلب منهما البطلة.
”لقد تركتُ كل شيء. فقط لحماية عائلتي.
أنهيتُ كل شيء. فلماذا لم تتوقف؟
لماذا كان لا بدّ أن تطعن قلب شقيقتي التي لم تعد قادرة على النهوض؟”
”لأنّكما وحوش، قد تنقلبان في أيّ لحظة.
قتل الوحش قبل أن ينهش رقابنا ليس أمرًا خاطئًا، أليس كذلك؟”
كان ولي العهد يتكلّم ببرود.
ومن خلال تصرّفاته، بات واضحًا أنّه هو من طعن لاري، وأنّ لوهين كان قد تخلّى عن كل شيء قبل ذلك الحادث.
لهذا، كان لوهين ينظر إليه بحزنٍ ومرارة.
”قلتُ إنني لن أفعل. لكن… لكنك طعنت أختي… طعنتَ قلبها! أنا… أكرهك.سـ ألعنك.”
”ولهذا قتلتكما. أنتما خطر كبير.”
صرخ لوهين، وذرف الدموع وهو يحدّق بأخته.
عيونه احمرّت، ودموعه نزلت وكأنّها دمٌ ملئتهُ أثام الحقدِ الغليظ، حزنه كان قاتمًا إلى حدٍّ لا يُوصف.
وبات كما لو أنّه تحوّل إلى شيطان، إذ خرجت من جسده هالة قاتمة مخيفة.
”كيف… كيف يمكنك قتلنا ونحن لم نفعل شيئًا؟ فقط لأننا قد نكون خطرً؟”
”سأفعلها مرارًا وتكرارًا. بل إنّني أندم أنّني غرستُ سيفًا واحدًا فقط في صدر تلك الشيطانة. أنا أخشى حقًا أن تعود للحياة.”
قال ولي العهد كلماته القاسية، ونظر إلى جسد لاري البارد.
“ها… ها…”
“أخي…”
صوتُ لاري وصل إلى مسامعنا في تلك اللحظة.
ربّما كان أنفاسها الأخيرة.
مدّت يدها تبحث عن لوهين.
“أنا… هنا… هنا…”
أمسك لوهين يد شقيقته المرتجفة.
“أنا هنا… لا تخافي…”
“لا تذهب… أنا خائفة…”
“لن أذهب لأيّ مكان. لاري… ليتني أستطيع إعادتك للحياة…
سأفعل أيّ شيء.
لم أتمكن من منحكِ حياةً كاملة…
لكنني سأرافقك حتى آخر الطريق.
وأتمنى، في حياتك القادمة، ألا تتألمي، ولا تتعبي… أنتِ كلُّ ما لديّ.”
وسقطت دموع لوهين، ذاك الرجل الذي لُقّب بالشيطان وفقد كل مشاعره منذ أن أصبح دوقًا.
ثم، سحب السيف من صدر شقيقته، وغرزه في قلبه.
طلبًا من الله، أو من الشيطان، أن يُنهي حياة مَن لم يعرفوا سوى الحب، لكنّهم في النهاية لم يُجيدوه، وماتوا بسببه.
كان ولي العهد قد أدار ظهره حينها.
”أخيرًا، عادت الأمور إلى مجراها الطبيعي. شكرًا لأنّك متّ بيدك، فلا حاجة لأن ألطّخ يدي بدمائكَ”
ثم غادر القاعة.
وانهار جسد لوهين إلى جانب شقيقته، دون أن يُفلت يدها.
لقد وُلدا معًا،
وكانت أول شخص رآه حين فتح عينيه.
كانت الوحيدة التي ساندته في كل لحظات الضعف، والألم، والجوع.
”آسف… لاري… أنتِ فقط…”
وفي تلك اللحظة، دخل شخصٌ إلى القاعة،
صرخ قائلًا:
“لا… آنستي… سيدي…!”
دهشتُ حين رأيت ذلك الشخص، فهو لم يُذكر في الرواية إطلاقًا.
وهذا المشهد أيضًا لم يكن مذكورًا.
بل إنّ الشخص الذي دخل لم يظهر في الرواية أبدًا.
ولو كان ظهر، لكنتُ عرفته.
لو كنتُ أعلم…
“آيشا.”
شعرٌ أسود، وعينان ورديتان.
كانت هي، تلك التي ظهرت مرارًا في أحلامي…
لقد كنتُ هناك.
بجوارهم.
وكان لوهين، الذي بالكاد رفع رأسه، يعرفني.
“اهربي. إن بقيتِ هنا، ستموتين معهم. الكلّ سيُقتل. يجب أن تنجو.”
لكنني، البالغة الآن، نظرت إلى لاري ولوهين بالتبادل.
“أنا السبب… أنا من أفشى كل شيء… لذلك حدث هذا…”
“كنتِ الوحيدة التي بقيت معنا حتى النهاية…
وكنتُ أعلم.
أعلم أنّكِ خُدعتِ، وأُجبرتِ، لكن لاري أحبّتك، فلم نستطع التخلي عنكِ…”
ابتسم لوهين بمرارة وهو ينظر إلى شقيقته.
“أنتِ الوحيدة… التي بكت لأجلنا.”
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون الروابط، لحسابي واتباد، وقناة الملفات في أول تعليق~ ❀
التعليقات لهذا الفصل " 51"