1
الفصل 1
المقدّمة
انتحر وليّ العهد.
كان ذلك قبل ثلاثة أيام.
ألقى بنفسه في بحيرةٍ بلا أن يترك حتى وصيّة.
ومع ذلك، فمع أنّ النبلاء تظاهروا بالصمت، لم يكن هناك أحد لا يعرف الحقيقة.
وليّ العهد أنهى حياته بعدما انجرف إلى مأساة عشقٍ آسر.
وبسبب غوصه في بحيرة لا يُعرَف عمقها، تعذّر انتشال جثمانه.
واكتفى القصر الإمبراطوري بأن أحرق على المذبح أثمنَ ثياب الاحتفالات التي كان يرتديها في حياته.
طقس نزع ولاية العرش.
كان النبلاء المجتمعون في القصر يحدّقون في الرداء الفاخر وهو يتحوّل إلى حفنة رماد، ثم يتبادلون الهمسات.
“من سيكون وليّ العهد القادم؟”
“على الأغلب أحد أبناء جلالة الإمبراطورة… وإن لم يكن، فقد يقع الاختيار على أبناء سموّ الإمبراطورة الثانية…”
“لكن يُرجّح أن جلالة الإمبراطور يفكّر في صاحب السموّ الأمير الثامن.”
الأمير الثامن.
لم يخلُ مجلسٌ من نبلاء يرمقون ذلك الفتى بنظراتٍ طامعة أو حذرة.
وكان الفتى—الذي جلس في الصفوف الأمامية بوصفه من أصحاب الدم الإمبراطوري الرفيع—غايةً في الجمال.
غير أنّ هالته كانت أبرد من مظهره.
نظرات باردة مصقول الحواف، يكفي أن تمتد يدٌ نحوه بلا حساب حتى تُبتَر، وأطراف مستقيمة كالنصل.
ومن خلفه مباشرة، همس الفارس الضخم الذي يحرسه بملامح شرسة.
“تلك المرأة تحدّق بسموّك.”
كانت إشارته بكلمة ‘تلك المرأة’ دلالة على استحقاره، كيف تجرؤ حمقاء كهذه على إلقاء نظرها على سيّده؟
لكن الأمير الثامن لم يُبدِ أيّ رد فعل، حرّك فقط عينيه الذهبيتين الباردتين.
بدا النبلاء الواقفون في الجهة المقابلة، ولما تلاقت عيونهم بعينيه انتفضوا متجنبين أي تواصل بصري.
ثم ما لبثوا أن رسموا ابتساماتٍ ذليلة ووديعة لا تليق حتى بالعبيد.
فالأمير الثامن، الذي عاد إلى العاصمة وقد حقّق عملاً جللًا لم يسبقه إليه أحد، كان يحظى اليوم بثقة الإمبراطور المطلقة، ويُنظر إليه بوصفه بطلاً لا نظير له.
ومن بين ذلك الحشد كلّه، برزت امرأةٌ واحدة كانت واقفة على الهامش.
‘تلك المرأة’.
ولم يكن من الممكن أن لا يتعرّف إليها إيجيت. كان يبحث عن ذلك الوجه طوال الوقت.
ابنةٌ بالتبنّي لدوق كونيكل، يتيمةٌ متواضعة الأصل فقدت والديها منذ طفولتها.
وأيضًا… خطيبته السابقة، التي كانت يومًا مقرَّرةً للاقتران بالأمير الثامن إيجيت أسبيرك كيرهن.
ديارين كونيكل.
لم يتغيّر فيها الكثير منذ أن رآها قبل عامين.
عيناها البنفسجيتان اللتان تُذكّرانه بضوء الشفق، وشَعرها المتموّج المنسدل برفق، وبشرتها البيضاء اللينة، والنظرة التي تبعث على اللطف والوداعة.
قبل كل شيء، لم يبدُ أنّها تعرّضت لأذى ولو طفيفًا.
كان إيجيت يحدّق بها بصمت.
“ما أوقح دوق كونيكل… لا، ما أوقح تلك الفتاة. المرء يجب أن يعرف حدوده. لننظر إليها كيف تُسرع للظهور ما إن عاد سموّ الأمير بطلًا. حتى زينتها اليوم صاخبة حدّ الابتذال.”
كان الغضب ظاهرًا في صوت الفارس.
فالكل يعرف أنّ النبلاء يلتهمون كل حلوٍ ويرفضون كل مُرّ، لكن جرأة تلك الفتاة تجاوزت كل الحدود.
بعد كل هذا الوقت…
إيجيت أسبيرك كيرهن.
أمّه أميرةٌ إمبراطورية، وأبوه فارسٌ متواضع الأصل، مولود من العامة.
بفضل ذلك، كان إيجيت أسبيرك واحدًا من بين أمراء القصر الإمبراطوري الذين لم يحظوا بأي التفات.
غير أنّ حادثة ‘إبادة بوابة الشمال الغربي’، حين ابتُلِعت مجموعة من الفرسان مع إيجيت في ما يُعرف اصطلاحًا بـ’سراديب سومنستك’، جحيم المخلوقات الشيطانية، غيّرت كل شيء قبل عامين.
وحين كان الجميع يتحدّث عن موته، عاد وهو يجرّ جثة المخلوق السامي الذي أسقطه بيده.
ومنذ تلك اللحظة تبدّل موقعه، وارتفع فجأة كنجمةٍ تقفز إلى القمّة في دفعة واحدة.
“رامد.”
تحرّكت شفتا إيجيت اللتان ظلّتا منقبضتين في خط مستقيم.
“هل الأمر بسبب الخطبة؟”
أجاب الفارس المُسمّى رامد بوقار.
“نعم، سموّك. مع أنّه يصعب الآن حتى أن نسمّيها خطبة…”
“وإن لم تكن خطبة؟”
“فهي فسخ. ويجب أن نسمّيها فسخًا.”
كان قلب رامد يغلي رغم هدوئه الظاهر.
ولم يكن هو وحده؛ فجميع فرسان إقليم بوابة الشمال لا بدّ أنهم يشعرون بالشعور ذاته.
كان يكفيه أن يحصل على إذن من إيجيت ليجرّ دوق كونيكل من تلابيبه فورًا.
فسبب إحضار الدوق تلك الفتاة إلى هنا واضح للغاية. ليعرضها مجددًا على إيجيت.
كما لو كانو دمى في مسرحه.
“أليس في الأمر وقاحة بلا حد؟ تظاهروا بأن سموّكم سقط ومات في سراديب سومنستك، ثم هرعوا إلى دوقية كونيكل معلنين فسخ الخطبة… ثم قيل إن تلك الفتاة نفسها صرّحت بأنها ستتزوّج مركيز بيميسن كزوجة ثانية. ذلك البدين المُسنّ ذو المال الكثير.”
صوّب رامد إلى ديارين نظرةً لا تخفي امتلاءها بالاحتقار.
“يا لها من امرأة تتصرّف بهواها.”
صحيح.
لقد كانت دائمًا امرأة تتصرّف وفق رغبتها.
منذ لحظة تقرير الخطبة نفسها.
أميرٌ منقوص النسب لأبٍ وضيع الأصل… وابنةُ دوقٍ بالتبنّي.
كانا طرفَي زواجٍ سياسي لا علاقة له بمشاعرهما.
لو لم يحقق إيجيت أي إنجاز، لكانا قد تزوّجا زواجا باهتًا، يُنسى شيئًا فشيئًا في القصر وفي المجتمع.
وربما صار حالهما كحال الأزواج العاديين، يرزقان بطفل أو اثنين، ويعيشان حياة هادئة بسيطة حتى الشيخوخة…
لكن الظروف تغيّرت جذريًا الآن.
فالأمير الثامن إيجيت أسبيرك أصبح اليوم عريسًا تُقبل عليه أميرات الممالك.
أما ديارين—الابنة المتبنّاة ذات الأصل المتواضع—فلا مجال للمقارنة بينها وبينه.
ومع ذلك، فقد عاد الدوق كونيكل، أحد أقوى رجال الإمبراطورية، ليقدّمها مجددًا أمام إيجيت بكل جرأة.
تجهّم رامد وهو يُضطر لإحضار ديارين إلى إيجيت.
“سموّ الأمير. لقد جئتُ بالآنسة كونيكل.”
وقف إيجيت من مقعده عند سماع ذلك.
مقاعد أبناء السلالة الإمبراطورية كانت منفصلة عن سائر النبلاء، متباعدة بما يكفي لمنح مساحة شخصية لا تمنع النظر، لكنها تمنع تسرب الصوت.
تحدّث إيجيت أولًا.
“الآنسة ديارين.”
لم يكن هناك أي صيغة تحيّة. مجرد نداءٍ بارد متصلّب. ورمقته ديارين بملامح مشابهة.
“لقد كبرتَ كثيرًا، يا صاحب السموّ إيجيت.”
وقد يُسمع كلامها كالتفاته ساخرة، لكنه كان صادقًا.
لسببٍ ما، لم تكن ترى ملامحه، لكنّ طول قامته الجديدة كان واضحًا لها.
كان في السابق أطول منها قليلًا، أمّا الآن فقد اضطرت لرفع رأسها نحوه. وكان ذلك غريبًا؛ فالفتية ينمون سريعًا.
بينما لم يتغيّر فيها شيء يُذكر خلال العامين اللذين غاب فيهما، سوى أنها بلغت الثانية والعشرين.
“جئتُ لأن لديّ ما أبلغه لسموّ الأمير. هل يمكنك منحِي لحظة؟”
وافق إيجيت وهو يحدّق بها بصمت.
اقتربت منه قليلًا ثم بدأت الكلام.
“كنتُ حمقاء في الماضي. ساءت صحّتي فغادرت إلى دوقية كونيكل للنقاهة، ولم أتعافَ إلا الآن. عندما حدّثني الدوق، تذكّرت أنّني طوال تلك المدة لم أُرسل أي رسالة إلى الشمال بسبب وضعي الصحي.”
أهذا تبرير في هذه اللحظة؟
ازرقّ وجه رامد الضخم وهو يسمع ذلك.
قالت ديارين.
“سموّ الأمير.”
وكان كثير من النبلاء يتربّصون لسماع أي كلمة، فمالت بجسدها نحو إيجيت كي تبدو طبيعية وهي تُخفض صوتها.
“سأتولى أنا فسخ الخطبة لكم.”
كاد رامد أن يندفع ويسأل.
“ماذا؟”
أما إيجيت فقد اكتفى بنظرة يصعب تفسيرها.
وبفضل توتّر ديارين الشديد، استطاعت أن تلتقط تلميحًا من تلك النظرة.
لم يحرّك إيجيت عينيه عنها. وسأل بصوت منخفض مثلها.
“هل هذه رغبة دوق كونيكل؟”
“أيعقل؟ أتظنّ أنّ الدوق سيفرّط بسموّك؟ لو أمكنه لربطكَ بالحبال حتى لا تهربوا من قبضته.”
“إذن رغبة مَن؟”
وبصوت دقيق يكاد ينكسر كوَشْي بلّورة، قالت.
“رغبتي أنا.”
تغيّرت ملامح إيجيت على نحو غريب، وقد لاحظ رامد ذلك.
ثم رفعت ديارين صوتها كالمعتاد، وكأنّ الهمس انتهى.
“يُقال إنكم تطلبون مفتاح المستودع الإضافي في حصن بوابة الشمال؟”
عبارة بلا مقدّمة.
وكان واضحًا لإيجيت أنّها فخّ مقصود لدوق كونيكل الذي قد يكون يتنصّت.
أو هكذا أرادت ديارين أن يظن. أن يصدق. كانت تحتاج أن يصدق.
ابتسمت بعينيها الصافيتين.
“على حدّ علمي، يحتفظ الدوق بذلك المفتاح. سأطلب منه عند عودتي أن يعيده إلى سموّك.”
ثم رفعت طرف فستانها قليلًا، وانحنت انحناءة قصيرة.
“إذن… نلتقي بعد أسبوع يا سموّ الأمير. أتمنى لكم السكينة حتى ذلك الحين.”
تلاشت خطوات كعبيها شيئًا فشيئًا.
وكان ذلك بداية صورة الظهر الذي لن ينساه إيجيت حتى لحظة موته.
التعليقات لهذا الفصل " 1"