كانَ إعدادُ إجابةٍ مؤقّتةٍ لسييونْ ليسَ خيارًا سيئًا.
“لِنَتَخيّلْ أنَّ حبيبةَ سموِّكَ قالتْ وهيَ تتجوّلُ في الحديقة إنَّ عِطرَ الزهورِ رائعٌ جدًا.”
“…….”
“ثمّ قالت مبتسمةً: (لو وضعتُ زهرةً جميلةً كهذه في غرفتي، فسوفَ تُذكّرني بسموِّكَ كلّما نظرتُ إليها).”
قدّمتُ لهُ موقفًا مُفعمًا بالمشاعر، لكنْ ملامحُ سييونْ ظلّت جامدةً كما هي.
كانَ يَتخيّلُ الموقفَ بصعوبةٍ، ووجهُه الخالي من التعابير جعلَ الجوَّ ثقيلًا.
“إذن، كيفَ تظنُّ أنَّكَ ستتصرّفُ يا سموّك؟”
عَقَدَ حاجبيهِ بشدّةٍ، وكأنَّهُ يجدُ صعوبةً في رسمِ صورةٍ تجمعُهُ بحبيبةٍ ما.
بعدَ تفكيرٍ قصيرٍ أجابَ بصوتٍ جادٍّ كما لو أنَّهُ توصّلَ لحلٍّ عميقٍ.
“سأقتلعُ جميعَ الزهورِ من الحديقة.”
“……ماذا؟”
“ألم تقلْ إنَّها تتذكّرُني كلّما رأتْ تلك الزهرة؟ هذا يعني أنّها ستُضيّعُ وقتها بأفكارٍ عشوائيةٍ لا طائلَ منها.”
طَقّ.
انقسمتْ قطعةُ الطباشيرِ التي في يدي إلى نصفين.
لم أتمكّنْ من التحكّمِ في قوّتي بسببِ جوابِ سييونْ المدهشِ بطريقةٍ لم تخطرْ ببالي.
رغمَ أنّي أعدُّ في كلِّ حصةٍ إجاباتٍ مؤقّتةٍ لمواقفَ مختلفة، إلا أنّي لم أستطعْ مجاراةَ إبداعِ سييونْ بعد.
“يا سموّ الأمير، إنَّ التفكيرَ بشخصٍ طوالَ اليوم، وتذكُّرهِ لمجرّدِ رؤيةِ شيءٍ، هذا يعني عادةً أنّكَ تحبُّه.”
“آه.”
أطلقَ تنهيدةً بلا أيِّ انفعالٍ، ثمّ أومأَ برأسهِ بخفّة.
لم أستطعْ معرفةَ متى بالتحديد فقدَ اهتمامهُ بالحديث.
“الاعترافُ بالحبِّ يكونُ بالكلمات، لكنَّ التعبيرَ عنهُ لا يقتصرُ على القولِ فقط.”
أنهينا الدرسَ وأنا أواجهُ سييونْ الذي بدأتْ قدرتهُ على التركيزِ تتضاءل.
التوقيتُ كانَ مثاليًّا، فقدْ حانَ وقتُ الانصراف.
وضعتُ قطعةَ الطباشيرِ المكسورةِ جانبًا وربّتُ على يديّ، فتَركَ الغبارُ الأبيضُ أثرَهُ على أصابعي.
على العكسِ، كانتْ يدُ سييونْ التي تُمسكُ بالقلمِ نظيفةً تمامًا.
لم يعلَقْ عليها أثرُ الحبرِ أبدًا، وكأنّ ذلك يعكسُ طبعَهُ المنضبطَ الدقيق.
“آنيت.”
رفعتُ بصري عن أصابعِه التي كانتْ تمسحُ شيئًا، فالتقتْ عيناي بعينيه الحمراوينِ مباشرةً.
تلكَ العينانِ لهما سحرٌ غريب. فمن الصعبِ أنْ تُشيحَ نظركَ عنهما متى التقتْ بهما.
وحين ظللتُ أحدّقُ فيه دونَ كلامٍ، نهضَ سييونْ واقتربَ ببطءٍ، حتى بدا لي وكأنّ الوقتَ نفسهُ تباطأ.
“آنيت، هلْ أنتِ أيضًا كذلك؟”
اقتربَ منّي ومدَّ نحوي منديلاً.
لم أعلمْ من أينَ أخرجَه، لكن يبدو أنَّ الغبارَ الأبيضَ على أصابعي أزعجهُ، تماشيًا مع طبيعتهِ الدقيقةِ في النظافة.
“ماذا تعني؟”
سألتُهُ وأنا أتسلّمُ المنديلَ، وقدْ اتّسخَ فورًا بغبارِ الطباشيرِ الأبيضِ على خلفيّتهِ السوداء.
“هلْ كنتِ تتذكّرينَني كلّما نظرتِ إلى الزهورِ التي أهديتُكِ إياها؟”
قلتُ في نفسي: قلتُ لكَ إنّ هذا يعني الحبّ يا غبي.
لكنْ صوتهُ كانَ خاليًا من أيِّ نغمةٍ عاطفية.
كانَ يُلقي السؤالَ ببرودٍ محضٍ، كما لو أنّهُ مجرّدُ فضولٍ عابر.
“ألمْ تفعلي؟”
هلْ أنتَ الآن تحاولُ إغرائي؟
لو كانَ غيرُهُ، لضحكتُ ساخرَةً، لكنَّ سييونْ مختلف.
ربّما لوسامتهِ المفرطة، أو بسببِ هالةِ الغموضِ التي تحيطُ به دائمًا.
وجدتُ نفسي منجذبةً إليهِ بلا وعيٍ، كما لو أنّهُ يُمسكُ بخيوطِ الجوّ من حولي.
تجنّبتُ نظرتهُ وأطلقتُ ضحكةً متكلّفةً لتغييرِ الموضوع.
“آه، صحيح! كنتُ أنوي الذهابَ إلى السوقِ بعدَ الدرس.”
“…….”
“هلْ ترغبُ في مرافقتي؟ لا، لا، لا بدّ أنَّكَ مشغولٌ كعادتك.”
كنتُ أعرفُ أنَّهُ دائمُ الانشغال، فسألتُهُ على سبيلِ المجاملةِ فحسب.
لكنّهُ فاجأني بابتسامةٍ خفيفةٍ وهو يقولُ بثقةٍ:
“لديّ ما يكفي من الوقتِ لذلك.”
لم أكنْ قد أخبرتُهُ بعدُ بما سأفعلُ هناك.
ومع ذلك أجابَ بجدّيةٍ أربكتني.
فاكتفيتُ بهزّ رأسي بتردّدٍ.
* * *
كانتْ عربةُ دوقيةِ فيرناندي فخمةً إلى حدٍّ يُشعركَ بالفرقِ من اللحظةِ الأولى.
فالعرباتُ التي ركبتُها من قبلُ كانتْ تهتزُّ بعنفٍ حتى يُؤلمُ الجلوس، بينما هذه تكادُ لا تهتزُّ إطلاقًا.
كانَ صوتُ سنابكِ الخيلِ وعجلاتِ العربةِ واضحًا في الأذن، فقط لأنَّ الداخلَ كانَ هادئًا تمامًا.
كادَ الصمتُ يملأُ المكانَ حتى قطعَهُ صوتُ سييونْ.
“آنيت، لديّ سؤال.”
“ما هو؟”
“في جميعِ الإجاباتِ المؤقّتةِ التي وضعناها سابقًا، الطرفُ الآخرُ دائمًا ما كانَ يحبّني، أليسَ كذلك؟”
“نعم؟ آه، صحيح.”
أجبتُهُ بارتباكٍ، فلم أتوقّعْ هذا السؤالَ البسيط.
التفتَ إليّ بعدَ أنْ كانَ ينظرُ إلى النافذة، وانعكستْ نظراتُهُ الحمراءُ القويةُ على وجهي.
“لماذا؟ فكما رأيتِ، أنا لستُ من النوعِ الذي يُثيرُ اهتمامَ النساء.”
في الحقيقة، هو محقّ.
فشخصيّتُهُ باردةٌ حدّ التجاهل، وملامحهُ الجادّةُ تجعلُهُ يبدو غيرَ مبالٍ بالعلاقاتِ الرومانسية.
لكنّهُ يمتلكُ ميزةً واحدةً، ضخمةً كفايةً لتُغطي كلّ عيوبهِ.
“سموّ الأمير، لطالما قلتُ لكَ هذا. وجهُكَ سلاحٌ فتاك.”
“…….”
“بلْ ليسَ مجرّد سلاحٍ، إنّهُ السيفُ نفسه! الجميعُ يقاتلونَ بعصيٍّ خشبيّة، وأنتَ وحدكَ تملكُ سيفًا حقيقيًّا!”
رمشَ ببطءٍ دونَ أنْ يُظهرَ أيَّ اقتناعٍ بكلامي.
هو لا يُقدّرُ وسامتَهُ إطلاقًا.
“لو قرّرْتَ أنْ تُغري أحدًا عمدًا، فلنْ يستطيعَ أحدٌ مقاومتك. إنّ دروسي مبنيّةٌ على وقائعَ واقعيةٍ، سموّ الأمير.”
“لا أظنُّ أنّ المظهرَ وحدهُ كافٍ لذلك.”
“أوه، سموّ الأمير! كيفَ تقولُ (المظهر فقط)!؟ ألمْ تنظرْ في المرآةِ يومًا؟ لو كنتُ مكانكَ…”
توقّفتُ فجأةً، لكنْ فاتَ الأوان.
“لكنتُ قبّلتُ المرآةَ كلَّ صباحٍ فورَ أنْ أستيقظ!”
كنتُ أتحدّثُ بحماسٍ زائدٍ كعادتي أمامَ الوجوهِ الجميلة.
لكنّ ردَّهُ جعلَ وجهي يحترقُ خجلًا.
“هلْ تعنينَ أنّكِ ترغبينَ بتقبيلِ شفتيّ؟”
سألَ بهدوءٍ تام، وبنغمةٍ واقعيةٍ بريئةٍ جعلتني أتلعثمُ فورًا.
“أعني! سموّ الأمير، ما الذي كنتَ تريدُ سؤالي عنهُ مجدّدًا؟!”
حاولتُ تغييرَ الحديثِ بسرعةٍ، لكنهُ لمْ يسمحْ لي بالهروب.
مرّرَ أصابعَهُ على ذقنهِ وقالَ كمنْ يُحدّثُ نفسه:
“يبدو أنّ ملامحي على الأقلّ تُوافقُ ذوقَكِ يا آنيت.”
نبرتهُ كانتْ باردةً، لكنهاْ حملتْ شيئًا غامضًا جعلَ قلبي يخفقُ بسرعةٍ.
“أها! إذنْ كانَ يزعجُكَ أنّ كلّ الأمثلةِ عن الحبّ المتبادل؟ حسنًا، سنتدرّبُ على مواقفَ لا يكونُ فيها الطرفُ الآخرُ مُعجبًا بكَ، أليسَ هذا أفضل؟!”
تكلمتُ بسرعةٍ وأنا ألوّحُ بيدي حتى لا يتوغّلَ أكثر.
لمْ يُجبْ، لكنْ وجهَهُ هدأ، كأنهُ رضخَ للتغييرِ الذي أردتُهُ.
“تنوّعُ المواقفِ جيّد، فكما قلتَ، لا يمكنُ أنْ تُبنى العلاقاتُ على المظهرِ فقط.”
‘مع أني أعتقدُ أنّهُ ممكنٌ تمامًا في حالتك.’
ابتلعتُ الجملةَ الأخيرةَ في داخلي بصمتٍ.
“من الآن فصاعدًا، سأُدرجُ في الدروسِ سيناريوهاتٍ يكونُ فيها سموّكَ في موقعِ المعجبِ لا المعشوق.”
‘مع أنّي أشكُّ أنّ مثلَ هذا اليومِ سيأتي.’
اختفى الغموضُ عن وجههِ أخيرًا، وسمحَ للجوِّ بأنْ يعودَ هادئًا.
لمْ يسبقْ أنْ قضيتُ معهُ وقتًا خارجَ الدروسِ الرسمية.
ولمْ أكنْ أظنُّ أنّني سأفعلُ.
“أنيت، هلْ تعتبرينَ الحبَّ من طرفٍ واحدٍ حبًّا حقيقيًّا أيضًا؟”
تحوّلَتْ رحلتُنا إلى السوقِ تدريجيًا إلى حصةٍ ثانيةٍ غيرِ معلنة.
“بالطبع، فالحبُّ لهُ أنواعٌ وأشكالٌ كثيرة. تختلفُ طبيعتهُ من قلبٍ لآخر.”
“لكنّكِ قلتِ إنَّ التعلّقَ والاحتجازَ ليسا حبًّا.”
كانَ صوتهُ يحملُ حدّةً طفيفةً، كأنَّهُ لا يفهمُ التناقض.
فتذكّرتُ ما كنتُ أكرّرهُ عليه في الدروس:
الاحتجازُ جريمة، والتعلّقُ طريقٌ سريعٌ نحوَ الدمار. لا تبحثْ عن سببٍ، فقط احفظْ ذلك.
وأتذكّرُ كيفَ كانَ جبينهُ يعقَدُ طيّاتٍ طويلةً في كلِّ مرةٍ أقولُها.
“الحبُّ واسعٌ جدًا وغامض. لا يقتصرُ على العلاقاتِ الرومانسيةِ فقط، بلْ يظهرُ في أشكالٍ كثيرةٍ من الروابط.”
نظرتُ إليه بثبات، بينما تذكّرتُ ما سمعتُهُ من ديلْ عن طفولتِه.
“العلاقاتُ كثيرة: العائلة، الأصدقاء، الأحبّة، وحتى العلاقاتُ بينَ السيّدِ والخادم.”
انتقيتُ كلماتي بحذرٍ، خوفًا من أنْ ألمسَ جرحًا قديمًا في داخله.
“وفي كلّ تلكَ العلاقاتِ، يوجدُ نوعٌ من الحبّ، كبيرٌ كانَ أو صغيرًا.”
“بصراحة، لا أفهمُ تمامًا.”
أولُ حبٍّ يعرفُهُ الإنسانُ عادةً هو حبُّ العائلة، الدفءُ الأوّلُ في الحياة.
لكنّ سييونْ لمْ يحظَ بذلك، لذا كانتْ كلماتي تبدو لهُ بعيدةً.
“مثلًا، انظرْ إلى دايلْ. إنّهُ يفكّرُ في سموّكَ دومًا، ويقلقُ لأجلك.”
“هلْ تقولينَ إنَّ دايلْ يحبُّني؟”
انعقدتْ ملامحُهُ بحدةٍ، وكانَ ذلكَ أكثرَ تعبيرٍ أراهُ على وجههِ منذُ عرفته.
ضحكتُ بلا إرادةٍ، فكانتْ ضحكتي تنفلتُ منّي رغْمًا.
“هاهاها! لا، يا سموّ الأمير، أقصدُ أنَّهُ يحبُّك حبًّا مختلفًا. ليسَ حبًّا يجعلهُ يرغبُ بالزواجِ بك!”
كتمتُ ضحكتي بصعوبةٍ حتى لا أزيدَ الطينَ بلّة.
فلو سمعَ دايلْ هذا الحوار، ربما لمْ يكن ليخرجْ حيًّا من القصر!
“أنا أرى أنَّ الحبَّ يبدأُ من الرغبةِ في الخيرِ للطرفِ الآخر. من التفكيرِ فيهِ، ومن مراعاتهِ. حينَ يُصبحُ ذلك طبيعيًّا، فاعلمْ أنَّك تُحبُّه.”
ابتسمتُ وأنا أقولُ ذلك، لكنَّ سييونْ لمْ يُجب.
بلْ اكتفى بالنظرِ إليّ بصمتٍ، بتلكَ الملامحِ الهادئةِ التي تُخفي تحتها بحرًا لا يُقاس.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات