“هلْ كنتَ ستُهاجميني؟”
“……لا!”
“آنِيتْ، يبدو أنّ إجابتكِ اليوم كانت أبطأ قليلًا من الأمس.”
“أوه، ذلك لأنّـ…”
لقدْ أربكني وجهُك من هذه المسافة القريبة، لا أكثر. كدتُ أنْ أنطقَ بالحقيقة لكنّي ابتلعتُ كلماتي.
“يا صاحبَ السموّ.”
“نعم، آنِيتْ.”
إجابته الهادئة على ندائي كانت خاليةً من أيِّ حذرٍ أو توتّر، كما لو أنّ نظراته الحادّة والشرسة التي بدتْ كعينيْ وحشٍ بريّ لم تكنْ سوى حلمٍ بعيد.
حدّقتُ في عينيْه الحمراوين مليًّا. كانت نظراته إليّ باهتةً، خاليةً من أيِّ انفعال.
‘أتُرى، كيف سيكون شعوري لو امتلأتْ هذه العيونُ الساكنة بالعاطفة يومًا ما؟’
توقّفتُ عن التخمين. الأهمّ الآن أنْ أتأكّد أنّه لن يُهاجِم أحدًا، ولا أنْ يُهاجَم في أيّ مكانٍ آخر.
“إنْ حاول أحدٌ الاعتداءَ عليك، افعلْ هكذا. هيا، رَدِّدْ بعدي: لا، لا يجوز.”
“لا، لا يجوز؟”
“لا أُريد.”
“لا أُريد.”
حدّقتُ فيه بصرامةٍ بينما كان يُردّد كلامي بوجهٍ جامد. وبرغم جهدي في التجهّم، ظلّ وجهه ساكنًا وهادئًا كعادته.
“ثمّ قلْ: لا تفعلْ، وابتعِدْ فورًا.”
“لا تفعلْ، وابتعِدْ فورًا.”
“لا يا صاحبَ السموّ، عليك أنْ تُظهرَ وجهًا غاضبًا مثلي، هكذا.”
ظهرتْ على وجهه ملامحُ استغراب. على ما يبدو لم يفهم تصرّفي هذا.
كان يُجيد إظهارَ نظراتِ الهيبة دون تدريب، لكنّي خشيتُ أنْ تكون له جانبٌ ليّن لا أعرفه.
“أتعلمُ ذلك الوجهَ الذي تُظهِره عادةً؟ حين تُطبِقُ شفتيكَ وترفع حاجبَيْكَ قليلًا وتنظر باستهزاء؟”
“متى نظرتُ إليكِ باستهزاء يا آنِيتْ؟”
“هذا مجرّدُ تعبيرٍ مجازي!”
‘ارْكعْ أمامَ جمالي!’
هكذا بدا الأمر. ورغم أنّه نظر إليّ بنظرةٍ غريبة، تجاهلتُ ذلك تمامًا.
“حسنًا، إنْ حاول أحدٌ مهاجمتك، فماذا تفعل؟”
وضعتُ يدي على كتفيه ودَفعتُه قليلًا نحو ظهر الأريكة، فارتدَّ جسده إلى الخلف دون مقاومة. رفع نظره إليّ بهدوء.
كانتْ ملامحه ساكنةً، لكنْ حاجباهُ تحرّكا بخفةٍ كما لو شعرَ بانزعاجٍ خفيف.
لكنّه لم يدفعني، ولم يأمرني بالابتعاد. وهذا يعني أنّه لم يفهمْ الدرسَ بعد.
‘هلْ لأنّه لا يشعر بالخطر؟’
خطرَ لي هذا فجأةً، فقرّرتُ أنْ أُريَهُ ملامحَ الشرّ الحقيقية. إنْ لمْ يَدفعني، سأُوهمُهُ بأنّي سآكله حيًّا.
رفعتُ يدي من على كتفيه إلى ذقنه وأمسكتُ بها برفق. مرّرتُ أصابعي على خطّ فكه بخفّةٍ فقبضَ وجههُ تلقائيًّا.
“يا له من أمرٍ خطير، يا صاحبَ السموّ. هكذا ستُؤكَلُ في أيّ مكان!”
فجأةً، وضعَ يده على خصري.
‘يا إلهي، إنْ أردتَ دَفعي فليسَ هذا المكان المناسب للإمساك!’
تنفّستُ بضيق. ما زال أمامه الكثير ليتعلّمه. كنتُ على وشك الابتعاد حين انقلبَ المشهدُ في لحظة.
“آه!”
ارتطم ظهري بالأريكة الناعمة.
‘متى؟ وكيف؟’
وجدتُ نفسي مُلقاةً على الأريكة، وهو فوقي يُسنِدُ يده إلى جانبي رأسي ويقتربُ ببطء. ومع اقتراب وجهه الوسيم أطبقتُ عينيَّ لا إراديًّا.
‘مهلًا… لمْ أُدرّسْ هذا الجزء بعد! كيفَ سبقني إلى الدرس التالي؟!’
“حين تُهاجمُ أحدًا، عليكِ أنْ تفكّري أيضًا في احتمالِ أنْ يُهاجمكِ الطرفُ الآخر، آنِيتْ.”
صوتهُ المنخفض دوّى عند أذني، فارتعشتُ قليلاً. ثمّ ابتعدَ شيئًا فشيئًا.
“هذا من أساسياتِ التدريبِ الثنائي.”
فتحتُ عينيَّ ببطءٍ والتقتْ نظراتُنا. كانتْ عيناه الحمراءُ الحادّةُ خاليةً من أيِّ لعبٍ أو عبث.
لو رآنا أحدٌ الآن لظنَّ أنّه يُقاتلني لا يُدرّبني.
“احرصي على ألّا يُقلبَ الموقفُ ضدّكِ حتى لو كنتِ أنتِ في موقعِ القوّة.”
“آه… فهمتُ الآن.”
سييون هذا، حقًّا من المستحيلِ أنْ أفهمه. يقولُ كلماتٍ مُحرجة دونَ تردّد، وحين أُحاولُ تعليمهُ الحذرَ، ينتهي الأمرُ بدرسٍ مقلوب.
وبعدَ أيّامٍ، ما زلتُ لا أعرفُ كيف أتعاملُ معه. زفرتُ بهدوءٍ وحاولتُ إبعادَ يده الموضوعة على خصري.
أو على الأقلّ، حاولتُ ذلك.
“لا يجوز.”
“ها؟ لا، أنا فقط…”
“لا أُريد. لا تُمسيكني.”
أبعدَ يدي عن معصمه بلمحِ البصر، كما لو كان يبعدُ حشرة.
“لا تفعلْ وابتعِدْ فورًا.”
‘لكنّكَ أنتَ من يمنعني من الذهاب، أيّها الدوقُ الغريب!’
كانتْ ملامحه ساكنةً كعادته، بلا أثرٍ للعب أو المزاح.
“لقدْ فعلتُ كما تعلّمتُ.”
‘لا يا رجل، هذه الجملةُ لا تُقال في مثلِ هذا الموقف!’
شعرتُ بالدمِ يغلي في رأسي.
* * *
كان الجوّ مشرقًا، والهواءُ دافئًا باعتدال، والغيومُ البيضاءُ كخيوطِ القطن تتهادى في السماء.
من نافذةِ مكتبِه كنتُ أُحدّقُ في الخارج قبل أنْ أقرّرَ فجأةً سحبَهُ معي.
“أليسَ الجوُّ رائعًا يا صاحبَ السموّ؟ النسيمُ عليل، والطقسُ جميلٌ جدًّا، أليسَ كذلك؟”
خلال الأسبوعِ الماضي، بدا كأنّ سييون يعيشُ في المكتب. أجل، هو حاكمُ الدوقيّة ولديه الكثيرُ من الأعمال، لكنّ القليلَ من الهواءِ المنعش يجعلُ العقلَ أنقى.
“النسيمُ لا يهبُّ من تلقاء نفسه، بل لأنّكِ تركضين في كلّ مكان، آنِيتْ.”
تجاهلتُ صراحتهُ المفرطة وتابعتُ السيرَ بخفّة، فخيّلَ إليّ أنّ الريحَ تلعبُ بثيابي.
“ربّما علينا أنْ نُجرّبَ دروسًا في الهواءِ الطلق أحيانًا.”
التففتُ نحوهُ وأنا أمشي للخلف، فبطّأ خُطاهُ ليلائمَ سرعتي.
“أنتِ أوّلُ من يقترحُ الدراسةَ في الحديقة، آنِيتْ.”
“حقًّا؟ يبدو أنّ أساتذتكَ السابقين كانوا جامدين جدًا.”
‘في أمورِ الحُبّ لا مكانَ للعقولِ الجامدة!’
فكّرتُ وأنا أبتسمُ بهدوءٍ تحتَ أشعّةِ الشمس.
توقّفتُ وسطَ الحديقة وجلستُ أمامَ صفوفِ الأزهارِ المرتّبةِ بعناية، ثمّ نظرتُ إليه.
“يا صاحبَ السموّ، هناك مسألةٌ لمْ نكتبْها بعدُ في دفترِ الأخطاء. فلنناقشها اليوم.”
جلسَ بقربي على ركبتيه بهدوء، كما فعلَ حينَ أحرقْتُ قصّتَه القديمة.
تذكّرتُ عنوانَ تلك الروايةِ التعيسة وهززتُ رأسي. ‘سييون فيرناندي، لن يكونَ لكَ مستقبلٌ في القصصِ الكئيبة بعدَ الآن!’
“الزهورُ جميلةٌ جدًّا، أليسَ كذلك؟”
كانتْ تلكَ مسألةَ الاختبارِ رقم (3): إذا قالَ أحدهم إنّ الزهورَ جميلة، فكيفَ تُجيب؟ وقدْ كانَ قدْ أخطأَ فيها سابقًا جزئيًّا.
ظننتُ أنّه سيتعلّمُ هذه المرّة، لكنْ ما إنْ قلتُ ذلك حتّى مدَّ يده…
فـ “كرااك!”
اقتلعَ الزهرةَ من جذورها.
“يا صاحبَ السموّ، هلْ لي أنْ أعرفَ ما الذي تفعله؟”
“اقتلعْتُ الزهرة.”
‘حقًّا؟ ما كنتُ لألاحظَ لولا أنّك خرّبتَ الحديقة!’
“ولماذا اقتلعتَها؟”
“لأنّكِ قلتِ إنّها جميلة. فظننتُ أنّكِ تُريدينها.”
ناولني الزهرةَ المقلوعة بلطفٍ غريبٍ لا يليقُ بقاتلِ الزهور.
نظرتُ إلى وجهه، ثمّ إلى الزهرة، فشعرتُ بالأسفِ على جذورها المرتجفةِ في الريح.
“ألستِ تريدينها؟”
أمسكَ بمعصمي بلُطفٍ هذه المرّة، وكأنّ تمرينَ الكتابةِ الذي جعلتُهُ يكرّره قدْ أثمر. كانتْ قبضتهُ أضعفَ من قبل.
لامستْ جذورُ الزهرةِ راحةَ يدي فشعرتُ بوخزٍ خفيف. سحبتُ يدي غريزيًّا، فتنفّسَ بدهشةٍ خفيفة.
“هلْ يُمكنني أنْ أمسكَ يدكِ؟”
“لقدْ فعلتَ بالفعل.”
“لكنّي هذه المرّةُ خفّفتُ قبضتي.”
لم أجدْ ما أقولُهُ أمامَ هدوئه. ‘حسنًا، هذا يُعَدُّ تقدّمًا على الأقل.’
تناولتُ الزهرةَ بكلتا يديَّ ثمّ أعدتُها إلى مكانها في التربة وغطّيتها بالتراب. ‘أنا آسفة يا زهرة.’
“لمْ أكنْ أُريدها. لمْ أقصدْ ذلك.”
“لكنّكِ قلتِ إنّ من يرى شيئًا جميلًا يسيلُ لعابه.”
‘يا إلهي…’
تظاهرتُ بتجاهلِ الخجلِ الذي غمرني. ذاكرتهُ الدقيقةُ دائمًا في غيرِ محلّها.
“هذه الزهرةُ جميلة، لكنْ ليسَ لدرجةِ أنْ أسيلَ لعابي عليها.”
“كما أنّني وسيمٌ، لكنّكِ لا ترغبينَ في مهاجمتي، أليسَ كذلك؟”
آه… إنّه لا ينسى شيئًا! كانَ يُصرّ على متابعةِ أيّ فكرةٍ حتّى النهاية.
‘يا رجل، هذا ليسَ وقتَ الحديث عن المهاجمة!’
“ولِمَ اقتلعتَها من الجذر أصلًا؟”
لحسنِ الحظّ، التقطَ إشارتي وغيّرَ الموضوع.
“لأنّها لنْ تنمو مجددًا إلا إذا أُعيدَ زرعُها.”
تبعَ نظري، فتوقّفَ عند الزهرةِ التي أعدتُها للتوّ إلى التربة.
“لقدْ تعلّمتُ أنّ الحياةَ ثمينة، ولا يجبُ أنْ نكسرَ ما يُزهرُ دونَ سبب.”
‘وهذا من الذي ألقى الناسَ من النوافذ؟’
أردتُ المزاح، لكنّي صمتُّ.
كان وجهُه يحملُ تعبيرًا غريبًا، كأنّ الذكرى التي استُحضِرَتْ كانت موجعة. ربما كانتْ أوّلَ من علّمه قيمةَ الحياة هي حبُّهُ الأوّل.
أومأتُ برأسي بخفّة.
“صاحبَ السموّ، ليسَ كلُّ ما نصفُهُ بالجميل نُريدُ امتلاكَه.”
نظرتُ بدوري إلى الزهرةِ الصغيرة التي غُرِسَتْ من جديد. كان التصرّفُ الطبيعيّ أنْ أتعاملَ معه كما أفعلُ دومًا، لا كأنّي أُواسيه.
“لكنّ التفكيرَ في إسعادِ أحدٍ بهديةٍ جميلةٍ أمرٌ رائع، أليسَ كذلك؟”
“لكنّكِ لمْ تفرحي.”
“لأنّك قدّمتَ لي شيئًا من البرّيّة دونَ تحضير! من الطبيعيّ أنْ أرتبكَ!”
ألقيتُ نظرةً جانبيّةً عليه. كان وجهُهُ عاديًّا تمامًا، مما يعني أنّ ذكرياتِه الكئيبةَ هدأتْ.
“في المرّةِ القادمة، ضعها في وعاءٍ قبل أنْ تُقدّمها. وإلا فما فائدةُ اقتلاعِ الجذر؟”
“سأضعُ ذلك في الحُسبان.”
“هكذا ستبقى الزهرةُ أطول، وسأتذكّركَ أنتَ وهدِيّتكَ فترةً أطول أيضًا.”
أومأ بتفهّمٍ خفيفٍ، فابتسمتُ برضا. لأوّلِ مرّةٍ، بدا أنّه استوعبَ كلامي من المرّة الأولى.
‘إنّه يتقدّم بسرعةٍ. أحسنتَ يا تلميذي الأول!’
لكنّ بعدَ يومين فقط، عندما دخلتُ غرفتي فوجدتُها مُغطّاةً بالأزهارِ من الأرضِ إلى السقف… أدركتُ أنّني كنتُ مخطئةً تمامًا.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات