"لعنة الدم" - 2
“في قبضة الظلال”
منذ اللحظة التي تم فيها سحبه من العربة حتى الآن، كان كل شيء يمر بسرعة لا تُصدق. لا يستطيع الطفل أن يلتقط أنفاسه، والألم يعتصر جسده من كل جانب. كان في البداية يظن أن كل هذا مجرد حلم، لكن الألم كان قاسيًا للغاية ليجعله يوقن أن الواقع أقسى من أن يكون مجرد خيال. كانت أطرافه تنزف، وعيناه تكاد تذرفان الدموع، لكن خوفه كان أكبر من أي ألم.
كان الحراس يجرونه بالقوة من داخل العربة، ولا يكترثون لشيء سوى تنفيذ أوامرهم. كانت يداه مقيدتين بحبال خشنة، وضغطت الأسلاك على معصميه حتى شعر وكأنها قد تقطع دمه. سحبوه بلا رحمة إلى داخل القصر، ومروا به عبر بوابات ضخمة لا نهاية لها. القصر كان أشبه بمكان يختبئ فيه الظلام، ولا يظهر فيه سوى الأضواء الخافتة من الشموع التي تضيء الممرات الطويلة. كانت الجدران محاطة بنقوش غريبة كانت تتراقص في الظلام وكأنها تنبض بالحياة.
في تلك اللحظات، شعر وكأن كل خطوة يخطوها تجذب المزيد من ظلال الماضي، حيث كان يسمع أصوات الحراس تتداخل مع همسات خفية. كان كل شيء غريبًا، حيث لم يعرف إذا كانت هذه بداية جديدة أو نهاية لحياة أخرى. حتى زوايا الممرات كانت مليئة بالظلام الكثيف، والشعور بأن هناك من يراقب كل تحركاته كان يعصر قلبه بشدة.
أخيرًا، وصلوا إلى غرفة ضخمة تتناثر فيها قطع من الأثاث الثمين والستائر المخملية. كانت الجدران محاطة بألواح خشبية داكنة، وجو الغرفة كان كئيبًا، مشبعًا برائحة العطور الثقيلة التي لم يستطع فهمها. كان الضوء منخفضًا، يغطي كل شيء في الظلال، ما عدا ضوءًا ضئيلاً ينبعث من مصباح فضي. كانت الغرفة تبدو وكأنها تبتلع كل شيء في محيطها، وتُحيط الطفل بأجواء من التوتر والقلق.
دفعه الحارس إلى الداخل، ثم تركه واقفًا في المنتصف بينما همّ بالخروج. كان قلبه ينبض بسرعة وهو يقف هناك، غير قادر على فهم ما يحدث. نظر إلى الجوانب، ولاحظ أن المكان يزدحم بأشياء ثمينة، لكنها لم تعطه أي نوع من الراحة. كانت كل الأشياء من حوله تزداد غرابة وعمقًا، وكأنها تلعب في مخيلته لتجعل كل لحظة أكثر وحشية.
ثم، في اللحظة التي كان يظن فيها أنه لن يتحمل أكثر، دخل رجل طويل القامة. كان يرتدي عباءة ثقيلة من المخمل الأسود، وقناع داكن يغطي وجهه بالكامل. كان يمشي بثقة، وكأن الأرض تنحني له. الاقتراب منه كان يبعث في النفس الرهبة. كانت خطواته تتناغم مع الهواء الذي كان يحمله، وكان يضيف إلى الغرفة مزيدًا من الغموض والتهديد.
“أنت هنا، إذن.” قال الرجل بصوت منخفض، لكن الجدران ارتجت بكلماته. كان الصوت مليئًا بالسلطة والقوة، كما لو أن هذا الصوت يمكن أن يلتهم العالم بأسره. كان يعكف على دراسة الطفل عن كثب، وعيناه تلمعان وراء قناعه الداكن.
كان الطفل يقف هناك، شاحبًا، يحاول أن يظهر ما يكفي من الشجاعة ليرد عليه. لكن قلبه كان يغلي بالخوف والرهبة. “لا…” همس الطفل، قبل أن يلتقط أنفاسه بصعوبة.
ابتسم الرجل ابتسامة لا تصل إلى عينيه، وكأن لديه أسرارًا لا يريد أن يكشفها. “أنت تشبهه. تشبه ابني المتوفى.” توقف للحظة، ثم تابع بنبرة باردة: “لقد اخترتك لتكون بديلاً له.”
الطفل، الذي كان يقف أمام هذا الرجل الضخم، شعر وكأن الأرض قد اهتزت تحت قدميه. لم يفهم تمامًا، لم يكن يعرف من هو هذا الابن الذي تحدث عنه، ولكن في تلك اللحظة شعر بشيء غريب داخل نفسه، كأن قلبه قد تمزق إلى نصفين. لماذا هو؟ لماذا تم اختياره من بين الجميع؟
“ما هو… مصيري؟” همس الطفل بصوت خافت، وكأنه يخشى أن يسمع هذا الرجل الجواب. قلبه ينبض بشدة، وعينيه مليئة بالدموع التي رفضت أن تخرج.
“أنت هنا لتكون في مكانه. لتعيش كما عاش. تتصرف كما تصرف. وتتحمل ما تحمله.” قال دوق القصر بنبرة باردة، ثم أضاف: “لكن لا تعتقد أنك ستكون مثله. لا أحد يمكن أن يكون مثله.”
ثم أشار إلى أحد الحراس الذي كان يقف بالقرب منه، وأومأ له بأن يذهب لإحضار شيء ما. الحارس انحنى سريعًا وخرج من الغرفة. الطفل كان لا يزال في مكانه، عينيه منخفضتين إلى الأرض، يحاول استيعاب ما يحدث حوله. كان الجهد الذي يبذله عقله في فهم الكلمات يزداد تعقيدًا، لكن الهمسات التي تتدفق في رأسه كانت أكثر إلحاحًا.
“لكن لماذا؟” تساءل الطفل بصوت ضعيف، يائِس. “لماذا أنا؟”
الدوق نظر إليه ببرود، ثم أجاب: “أنت مجرد أداة. مجرد شخص تم اختياره ليحمل شيئًا ليس له. لن يكون لديك خيار.”
كانت كلمات الدوق كالسكاكين تقطع في أعماقه، لكن هناك جزءًا بداخله كان يرفض الاستسلام. “أنا… لا أريد أن أكون أداة.” همس الطفل، لكن لم يكن أحد يسمعه.
على الرغم من الكلمات القاسية التي كان يسمعها، فإن الطفل بدأ يشعر بشيء آخر يتسلل إليه. كان هناك نوع من الإحساس بالخوف يزداد في قلبه، ولكن داخله كان هناك شيء آخر يعكر صفو أفكاره. كان ذلك الصوت الذي يهمس في عقله، الصوت الذي كان يسمعه دائمًا… “لا تستسلم.”
“أين أذهب الآن؟” سأل الطفل بصوت خافت، وعينيه لا تزال محطمة.
“ستذهب إلى غرفتك.” قال الدوق، قبل أن يتحرك بعيدًا. “لن تكون هنا لفترة طويلة. سيكون لك مكانك.”
بعد قليل، عاد الحارس حاملاً طعامًا، لكنه لم يكن طعامًا حقيقيًا. كان شيئًا غير مألوف، قطعة صغيرة من الخبز المبلل وماءً ملوثًا. لا شيء يمكن أن يشبع بطنًا فارغًا، لا شيء يمكن أن يريح جسدًا ضعيفًا، لكن ذلك كان كل ما كان لديهم ليقدموه له. عينيه المرهقتين تجنبته وهما تشخصان في الطعام، لكن لم يكن أمامه سوى أن يقبله بصمت.
“تناول هذا.” قال الحارس بفظاظة، ودفع الطبق نحو الطفل، الذي كان ينظر إليه بتردد، ثم أخذ اللقمة الأولى بحذر. كانت قاسية جدًا، لكنها كانت الخيار الوحيد. تناولها وهو يحاول ألا يظهر ضعفًا أكثر مما هو عليه.
في اليوم التالي، أخذوه من الغرفة حيث كانت حركته محدودة إلى حد كبير. كانت قدماه مغلولة بالأصفاد الثقيلة، وكان حارس آخر يرافقه في كل خطوة يخطوها. “تعال، لا وقت لديك للتمرد.” قال الحارس، وكان صوته خاليًا من التعاطف. بينما كان الطفل يحاول التحكم في خطواته، كان شعور العجز يملأ قلبه، وكان يعرف أن هذا ليس سوى البداية.
في النهاية، وصلوا إلى غرفة كبيرة، حيث كان دوق القصر في انتظارهم. “نعم، هذا هو المكان الذي ستكون فيه.” قال الرجل، ثم أشار إلى كرسي خشبي في الزاوية. “اجلس هناك. هناك أمور يجب أن نتأكد منها.”
جلس الطفل ببطء، شعر أن جسده منهك تمامًا. كان يشد على يديه ليبقى هادئًا، ولكن عقله كان يعمل بسرعة، يفكر في كل كلمة قالها دوق القصر. لا يزال لا يفهم سبب اختياره، ولكن كان يعلم أنه عُيّن للعب دور آخر، دور لا يمكنه الهروب منه. كان يشعر وكأن أغلاله قد زادت، وأن أمل الهروب أصبح مستحيلاً.
“لا تستسلم.” همس في نفسه.
…..
يتبع…
اتمنى يكون الفصل عجبكوا ☺️✨