وكان أكثر ما يضايقها شعورها وكأن ستاراً خفياً يحجب بيلا والإمبراطورة عنها، حتى كادت تختنق من الضيق.
فكرت أن تشرب ولو كوب ماء بارد، فدفعت الفراش ونهضت. لكن في تلك اللحظة، سُمِع طرق على الباب.
“لويسا. هل لي بالدخول؟”
“نعم!”
وما إن رأت ديميان يدخل حتى تهللت أساريرها.
“أخي، هل جسدك بخير؟”
“هذا ما كان عليّ أن أسألكِ أنا. أنا تأكدت البارحة أنّني لم أُصب بأذى.”
“صحيح، لكن…….”
“ثم لماذا تنهضين من السرير؟ قلتُ لكِ أن تطلبي ما تحتاجينه. ألم تعلمي أنّكِ أصبتِ بالتواء في كاحلكِ؟ لا ينبغي لكِ مغادرة السرير فترة من الوقت.”
‘ها هو يبدأ من جديد بحمايته المفرطة.’
لقد كان مجرد ألم عابر بالأمس، وحتى الطبيب قال إنّها مجرد صدمة وستزول مع كمادات بسيطة، لكن ديميان كان يحدّق بكاحلها بوجه متجهم وكأنه مصاب بخطب عظيم.
“……لكن، ما الذي جاء بك؟”
آثرت لويسا أن تغيّر الموضوع كلياً. ولمّا وقع نظرها على الممر عبر الباب المفتوح، رأت كبير الخدم واقفاً بوجه جادّ، فأشارت إليه بعينيها.
إلا أنّ ديميان لم يلتفت إليه، واكتفى بابتسامة باهتة كالمحرج.
“نعم، جئتُ لأبلغكِ أمراً.”
“أنت بنفسك؟ ما الأمر؟”
قصف رعد مدوٍّ في السماء حتى خُيّل أنّ الصاعقة ستسقط في الحال. وصار المطر، الذي كان رقيقاً، يجلد النوافذ بقسوة كالسياط.
“جلالة الإمبراطور قد توفي.”
دوّى صوت الرعد القاصف، ومعه أضاء البرق الغرفة للحظة.
***
كان رافاييل واقفاً أمام النافذة يرقب المطر المنهمر.
كانت القطرات المتسارعة تشوّه المشهد خلف الزجاج كما لو كان لوحة مائية مطموسة.
“آه، كيف رحل وهو على هذه الحال مريضاً؟ كان ينبغي لي أن أسهر إلى جانبه طوال الليل.”
“لقد كان تدهوره سريعاً منذ البداية. الآن وقد عاد إلى جوار الإله، فهو بخير.”
“ربما…… لكن أن أبدو بهذا الانكسار أمر لا يليق، ومع ذلك يصعب عليّ كتمانه. رافاييل وأنت؟ هل أنت بخير؟”
استدار رافاييل ببطء نحو مصدر الصوت.
كانت الإمبراطورة بصوتها المتهدج تستند على ذراع ساينف الذي كان يضم كتفيها مواسياً.
“أنا بخير.”
“رغم كل ما بينكما، فهو في النهاية والدك. فلنُودّعه بسلام.”
مسحت الإمبراطورة دموعها بمنديلها، وحاولت جاهدة أن تبتسم. ثم ربتت على يد ساينف الممسكة بها، ومدّت يدها الأخرى نحو رافاييل.
“بعد الجنازة، سيطرح موضوع الخلافة. آه، لكن قيل لي إن حادثاً خطيراً وقع البارحة، صحيح؟”
“نعم.”
“حتى العاصمة لم تسلم من هجمات الوحوش، فماذا نفعل؟ لكن على الأقل سيؤجل الوزراء إثارة قضية الخلافة ما دام عليهم أولاً معالجة هذه الأزمة. أما بخصوص الخلافة، فأنت لا تخفي عنادك، ولن يفرضوا عليك بالقوة. سنفكّر معاً لاحقاً…….”
ارتجف صوتها بنبرة أسف، وكأنها لم تزل غارقة في حزنها على المصاب الجلل. أمّا رافاييل فقد ظلّ يرمقها بوجه جامد لا يتبدّل.
“لا حاجة لإقامة حفل تتويج فخم.”
“……ماذا؟”
“أعتقد أنه كلما كان الحدث أعظم، وجب أن يُسدّ الفراغ سريعًا. لذلك، ما إن تنتهي الجنازة، سأتنحّى عن منصبي كقائد الفرسان.”
ساد صمت وجيز.
خفضت الإمبراطورة عينيها ومسّت بمنديلها جفنيها.
“إذن عزمتَ على قبول العرش؟”
“نعم.”
وبدا بريق بارد يلمع في عينيها المخفضتين.
“كنت أخشى أن ترفض، لكن الآن يطمئن قلبي. هذا يبعث على الراحة.”
“صحيح. أما أنا فلا أعترض، لكن ما الذي جعلك تغيّر رأيك فجأة؟ كنتَ تصرّ على أنك لن تخلفه.”
قال ساينف ذلك بعينين فضوليتين تنظران نحوه باهتمام. فالتقت عيناه بعينيه الزرقاوين البراقتين، وأجاب بصوت خفيض:
“لقد كثرَت الأسباب التي توجب عليّ أن أقبل.”
“أسباب كثيرة؟ جواب مثير. ولن تخبرنا بها؟”
انعكس وجه رافاييل في تلك العينين اللامعتين، ساكناً غامضاً.
لحظة صمت مضت.
“……لاحقاً.”
ثم استدار بجزم وقال:
“سأنصرف الآن. نلتقي يوم الجنازة.”
“أترحل بهذه السرعة؟”
“عليّ أن أفرغ من مهامي قبل التتويج.”
“أجل، معك حق. ستنهمك كثيراً.”
سار رافاييل بخطى ثابتة نحو الباب.
“وفقك الإله، أيها الأخ.”
لكن رافاييل لم يلتفت إلى التحية المتأنية خلفه، وخرج عبر الباب الذي فتحه له أحد الخدم. وظلّ يمشي في الممر حتى غادر القصر، دون أن يصدر عن الإمبراطورة أي ردّ فعل.
كان المطر قد خفّ، غير أنّه لم يُبدِ أي نية للتوقف بعدما ظلّ يهطل طوال الليل. واقتربت خطوات تَخُوض في البرك التي كوّنها المطر حول كنيسة الامبراطورية الكئيبة الموشّحة كلّها بظلال رمادية قاتمة.
قال أحدهم وهو يقترب:
“حضرة القائد، لقد وصلت.”
“هممم.”
دخل رافاييل المبنى وهو يمرر أصابعه بعشوائية في شعره، ثم ألقى نظرة على أندي الذي كان يسير بجانبه.
انحنى أندي بإيجاز وخفّض صوته إلى أقصى حد.
“لقد خرج سيادة الكاردينال من قاعة الصلاة. غير أنّه يتعيّن عليه أن يكرّس نفسه للصلاة طوال أيام الحداد الأربعة، وقال إنه سيحيّيك يوم الجنازة.”
“حسناً. وماذا عن الأمر الذي طلبتُ التحقق منه؟”
“قيل إنه ظلّ مفقوداً حتى صباح اليوم حيث ظهر في العاصمة. وآخر أثر له كان قد انقطع في اتجاه الشمال، لذلك لم يكن تتبّعه ممكناً بعد ذلك.”
“أي أنّ عودته لم تُرصد كذلك؟”
“أعتذر.”
توقّفت خطواتهما السريعة بعد أن دخلا إلى مكتب قائد الفرسان.
“استمرّ في وضع الرقابة المشدّدة عليه.”
“هذه المرة لن أقترف أي خطأ، أعدك!”
كان رافاييل يخلع رداؤه حينما التفت بنظرة صارمة إلى وجه أندي المتوتر الذي وقف باستقامة.
هل يمكن حقاً ألّا تقع أخطاء ثانية؟ كلا، ساينف أريليوس كان أكثر مكرًا مما يُظن. بل ربما تنبّه بالفعل إلى أنّه مراقَب.
منذ انتهاء مهرجان الصيد اختفى ساينف فجأة. ولولا رجال الظلّ الذين أمر رافاييل بمراقبة الإمبراطورة وساينف بعد أن حسم أمر ولاية العرش، لما انتبه أحد إلى ذلك الفراغ.
ماذا كان يفعل إذن؟ رافاييل لم يستطع أن يتخيّل قيد أنملة، فظلّ بصره معلّقاً في الفراغ لحظة.
“…… ليكن تصرفكم بحيث لا يُكتشف وجودكم، هذه أولويتكم.”
“نعم؟ ن-نعم!”
“وماذا عن القديسة؟”
“ما زالت على حالها. لم تبرح قاعة الصلاة في السرداب، ويبدو أنها حتى امتنعت عن الطعام.”
انطفأت عيناه الزرقاوان في عمق بارد كالجليد، ثم سرعان ما تفجّر من حوله جوّ خانق كالزوابع في الغابة الهادئة.
لقد كانت بيلا هي من استدرجت لويسا إلى المبنى الذي خُبئت فيه القبور، بل حاولت قتلها أيضاً.
كان من حقه أن يُنزِل بها أشدّ العقوبات فوراً، لكن لويسا آثرت المراقبة على الانتقام العاجل. فقد رأت أنّ تتبّع السحر الاسود الغامض الذي يفوح من بيلا وفضح حقيقتها باعتبارها قديسة تحت حماية الكنيسة، أهمّ من قتلها.
‘…… ألم تقل لويسا إنّ لها صلة بالإمبراطورة أيضاً؟’
شعور مشؤوم شرس اجتاح ظهره فارتجف.
لم يكن يعلم إلى أي حدّ تمتدّ علاقة الإمبراطورة بالقديسة، غير أنّ تلازمهما المستمر في تعريض لويسا للخطر جعله يتوتّر أكثر فأكثر. وكأنّ ضغطاً ثقيلاً أخذ يسحق الهواء.
ابتلع أندي ريقه بصعوبة وارتجف حنجرته بشدة.
“ق، قائدنا.”
ازداد وجه آندي شحوباً، وبدا كمن لا يطيق المزيد، فاستجمع أنفاسه ليقول متقطّعاً:
“لديّ ما أقوله!”
“…….”
“إنه أمر في غاية الأهمية!”
“…… أمر مهم؟”
ارتجفت عضلة أسفل عين رافاييل الصلبة، وكأنّ موجة الغضب التي بلغت حنجرته انسحبت فجأة مثل ماء الجزر.
زفر أندي بسرعة وقد شعر وكأنه نجا من الاختناق.
حينها فقط تنبّه رافاييل إلى حالة أندي، فارتسم على وجهه خط عابر من الدهشة.
“هاه…… أ- أجل، أجل!”
“هل أنت بخير؟”
“أجل، بخير تماماً!”
أخرج أندي على عجل شيئاً كان يخفيه في صدره، بعد أن ألقى نظرات حذرة.
“هذا أُرسل من فلوريا.”
لقد بدا أنّ الجاسوس المزروع في جناح الإمبراطورة قد عثر على شيء.
أمسك رافاييل بزجاجة صغيرة كانت بالكاد تحتوي على بقايا سائل أسود يترقرق في قاعها، وأخذ يتأمّلها مليّاً.
قال أندي وهو يراقب:
“في اليوم الذي اكتُشفت فيه القبور، ذهبت جلالتها فجأة في وقت متأخر من الليل بحجّة الاطمئنان على صحة الإمبراطور.”
“…… أليست رعايته كانت تقتصر عادةً على فترة وجيزة نهاراً؟”
“أجل، هكذا جرت العادة. لكنّها قالت إنها تشعر بالقلق بسبب الاضطرابات التي تعصف بالخارج. والمشكلة أنّ حالة الإمبراطور تدهورت مع بزوغ الفجر في تلك الليلة بالذات.”
“إذن فالأمر يثير الريبة.”
هل كان ذلك لصرف الأنظار عن بيلا؟ أم عن القبور؟
تساؤلات أثقلت عقل رافاييل، فيما أندي يومئ برأسه بحذر.
“ظلّ الجاسوس ملازماً لها عن قرب. في ظرف كهذا لم يكن من الممكن تركها وحيدة، لكنها بدت وكأنها تتحيّن الفرصة لتختلي بنفسها. وحين فشلت في ذلك، قامت بإخفاء هذه الزجاجة في غرفتها قبل أن تغادر. وكان ذلك تحديداً لحظة وصولك إلى القصر.”
“…… كان من حسن الحظ أني جئت مبكراً. هل اختبرت محتواها؟”
“على عجل جرّبناه على فأر، فما إن لعق الفأر قليلاً من هذا السائل حتى اسودّ جسده كله ومات فوراً. لو صحّ أنّ هذا ما استُعمل، فلابد أنه سمّ جديد فائق السميّة.”
لكن، كيف سيكون تأثير هذا السم على دم العائلة الإمبراطورية، مع أنهم عادةً لا يتأثرون بالسموم أصلًا؟
تذكّر رافاييل حال الإمبراطور الذي تدهورت صحته فجأة، فأمسك بالزجاجة بحذر وفتح غطاءها.
ضاقت عيناه وهو يحدّق في السائل القاتم داخلها، ثم أخذ يحرّكها قليلاً ويقرّبها من أنفه بحذر. وما إن فعل ذلك حتى تجمّدت ملامحه بصرامة غريبة.
*****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 97"