تحركت شفتاه وكأنّه يوشك أن يتكلم، وعلى وجهه بدا أثر تردّدٍ عابر.
غير أنّه لم يطل، فما لبث أن أومأ برأسه بوجه متصلّب ثم حاد بنظره جانبًا، وكأنّه يجاهد ألّا يعترض رغم أنّه لم يفهم تمامًا.
“إذن سأنتظر عند الباب. إن حدث شيء فاصرخي.”
‘…هل نسي أنّها ذاهبة لمقابلة المطران؟’
كان كلامًا لا يُصدّق، حتى إنّ لويسا التفتت آليًّا تتحسّس ردّة فعل الكاهن. ولحسن الحظ أنّ رافاييل خفض صوته إلى الحدّ الذي جعله لا يسمع، وإلّا لكان قد ورّط نفسه.
‘ أيّ جرأة هذه!’
أطبقت لويسا شفتيها وهي تدير عينيها.
كلّما تأمّلت في أمره ازداد يقينها أنّه رجل يقول كلّ ما يدور في ذهنه بلا حساب. وأخذت تشكّ: كيف رضي الإمبراطور أصلًا بأن يُرغِمه على خطوبة كهذه؟ لا بدّ أنّ هناك خطأ ما.
“ها قد وصلنا.”
“آه، شكرًا.”
“لا شكر على واجب. صاحب القداسة، الآنسة بليك حضرت.”
دقّ الخادم باب الماهوغني، فاستدار المقبض الذهبي ببطء وانفتح الباب.
“مرحبًا بقدومك.”
ظهر شيخ ذو شعر أشيب وملامح وادعة، صوته جهوري لكن جسده النحيل أوحى بضعفٍ وعجز، فيما عيناه العقيقـيّتان المتّقدتان أظهرتا قوّةً وهيبة.
“تعبتِ من السفر الطويل، تفضّلي بالجلوس.”
“…ليتبارك عليك نور السماء. إذن أستأذن.”
“ليتبارك نور السماء. سأنتظر بالخارج.”
“السير رافاييل، إن شئت فادخل.”
“لا بأس، سأنتظر في الخارج.”
ألقى بنظرة خاطفة إلى لويسا ثم صرف عينيه.
“إذن… حسنًا. تفضّلي.”
تنحّى المطران مشيرًا إلى الأرائك.
تلاقت عينا رافاييل ولويسا لبرهة قبل أن يُغلق الباب خلفها.
“أعتذر لأنّي استدعيتك مباشرة، وأنتِ متعبة.”
“لا بأس، كنت أنوي زيارتك على أي حال.”
“هاها، أهذا صحيح؟ شكرًا لتفهّمك.”
“تكلّم براحة يا صاحب القداسة.”
كان أدبه الجمّ يثقلها، فرأى رئيس الأساقفة ذلك وتبسّم بهدوء.
“وكيف لي أن أتكلم هكذا في حضرة من أوتيت قوّة مقدّسة؟”
قالها وهو يسكب الشاي الموضوع على الطاولة، بنبرة عادية لا تخلو من الاحترام.
مدت لويسا يدها لتأخذ الفنجان برصانة.
“إنها قوّة لم تُختبر بعد. حتى أنا لا أفهمها تمامًا، ولهذا رغبت في لقائك.”
“هاها، إذن فليجبك هذا العجوز بما يعرفه بكل إخلاص.”
‘إلى أي حدّ يمكن أن أبوح؟’
تساءلت في نفسها.
لم يكن عليها أن تروي كل شيء، يكفي أن تقول إن قوّة مقدّسة ظهرت فجأة.
أخذت ترشف الشاي الدافئ قليلًا لتكسب وقتًا.
“أظن أنّي لن أصمد طويلًا.”
“ماذا؟”
قالها فجأة، فاتّسعت عينا لويسا دهشة.
“نعم… إنّه زمن خطر، وما زلت أتشبّث بخيط حياةٍ واهٍ، لكن قد أرحل إلى حضن الإله غدًا أو بعد غدٍ، فهذه حال هذا الجسد العجوز.”
“آه…”
هل يقصد أنّه لا داعي لتخشاه؟ بانكشاف عجزه دون مواربة، فكّرت لويسا قليلًا في ما تقول.
‘همم، لم أكن أنوي أن أتحسّب له إلى هذا الحدّ أصلًا…’
هي لم تتوقّع من لقائه معجزات، إنّما رغبت فقط أن يساعدها على تجاوز الوضع بهدوء، وأن يطمئنها إلى أنّ تدفّق قوّتها المفاجئ لا خطر فيه.
أمّا أن تسأله عن مدى قوّة بيلا أو عن حدودها، فهذا أمر لم تتوقع أن يُباح لها أصلًا.
“ولِمَ تقول ذلك؟ ما زلت تبدو معافى.”
“هاهاها… أحقًّا تظنّين ذلك؟”
“هاها… هكذا تظنين إذن.”
“نعم. تأخرت في الرد فقط لأن السؤال بدا لي غير ذي أهمية، فاحتجت إلى لحظة تفكير لا أكثر.”
“وأيّ شيء يمكن أن يكون غير مهم؟ تفضّلي وتكلّمي بما شئتِ.”
“همم، حسنًا إذن… بعد أن تفتّح القوّة المقدّسة، إلى متى يستمر ازديادها؟ هل لذلك مدّة محدّدة عادةً؟”
“حالات ازدياد القوّة نادرة. في الغالب يظلّ مقدارها على ما كان عليه منذ لحظة التفتّح الأولى.”
“آه… إذن بقولك الغالب تقصد أنّ هناك استثناءات؟”
“بالطبع. الاستثناءات تكون لمن يرثون مشيئة السماء ويُعيّنون رؤساء أساقفة أو يُمنحون منصب القديسة.”
“القديسة…”
‘هل من الحكمة أن أواصل الحديث؟’
شعرت بقطرات عرق بارد تسيل على ظهري.
قد يكون الأمر مبالغة، لكن إعلان قدرتها على التطهير شيء، وأن تُعيَّن قديسة شيء آخر تمامًا.
ذلك يعني صدامًا دائمًا مع بيلا، وتشديدًا من الإمبراطورة في كل أمر.
والأدهى أنّ الكنيسة ستتدخل في كل صغيرة وكبيرة “افعلي هذا، واتركي ذاك.” ولا رغبة لها البتة في أن تخضع لهم.
“هل قوّتك في ازدياد فعلًا يا آنسة؟”
“…إن قلت لا، فلن تصدّقني، أليس كذلك؟”
ضحك المطران عاليًا أمام حيرتها.
‘ما أشدّ انشراحه! يقول إنّه ضعيف، لكن ضحكته تدوي كأجراس.’
مدّت يدها إلى فنجانها بوجه نصف يائس، لكنها توقفت عند قوله المفاجئ:
“ما رأيك أن أجعل ذلك سرًّا بيننا؟”
“سرًّا؟”
“نعم. صحيح أنّها قدرة متواضعة، لكنني أستطيع تمييز القوّة المقدّسة القريبة منّي حتى دون لمس.”
“…من دون أيّ تلامس؟”
“هاها، لهذا لم أعد أستطيع أن أتجاهل سعة قوّتك، يا آنسة.”
‘حقًّا ليس مطران عبثًا، يملك قدرات لا تخطر على بال.’
تراجعت لويسا قليلًا بغير وعي، رغم أنّ ذلك لا فائدة منه.
“بلغني أمر عملية التطهير، لكن لم أتوقّع أن تكوني بهذه البراعة. ومع ذلك، لا أنوي إرغامك على أمر لا تريدينه. غير أنّ لديّ سؤالًا واحدًا فقط.”
“……”
“هل يمكن أنّكِ لا ترغبين بمنصب القديسة؟”
“…..!”
حدّقت لويسا مذهولة في وجهه المشرق بالرحمة وهو يلقي سؤالًا بهذا الثقل وكأنّه أمر عادي.
“هاها، من تعابيرك أرى أنّ حدسي أصاب. إذن فماذا لو قلت لكِ إنني، ما دمتُ على هذا الكرسي، سأؤجّل أيّ نقاش حول تنصيبك قديسة بقدر ما أستطيع؟”
“أيمكنك فعل ذلك؟”
“في الوقت الراهن لدينا قديسة بالفعل، فلا بأس. ومن رآكِ وقدمتِ له يد العون أستطيع أن أقول له إنكِ مؤمنة عادية تكره المظاهر الفارغة.”
“…ولِمَ تذهب إلى هذا الحد من أجلي؟”
“أليس من الطبيعي أن يردّ المرء الجميل؟ نحن في الكنيسة أسرة واحدة، وفضلك في إنقاذ حياة أحد أفراد أسرتي لا يُنسى. ثم إنني صدّقت عزيمتك حين غيّرتِ وجهتك إلى الشرق. أؤمن أنّك لن تتهرّبي من الخطر.”
‘إذن هو يثق بأنني لن أفرّ.’
ارتسمت على وجه لويسا ملامح حائرة.
أما المطران فابتسم ابتسامة عريضة عمّقت تجاعيد عينيه وهو يقول:
“ومتى ما احتجتِ إلى عون هذا الشيخ، فاعلمي أنّي رهن إشارتك.”
***
صفا الجوّ كأن المطر لم يهطل قط، وخلت السماء من السحاب.
أغمضت الامبراطورة هالين عينيها قليلًا متبرّمة من وهج الشمس المتدفّق عبر النوافذ المقوّسة المزخرفة.
“مولاتي، أأُسدِل الستائر؟”
“افعلِي.”
وضعت فنجان الشاي برفق، ثم وجّهت بصرها إلى الجالس أمامها.
تجمّدت ملامح الماركيز ديميتري أكثر فأكثر.
“يا لها من ورطة. استثمرت فيه جهدًا، فإذا به ينتهي على هذا النحو التافه.”
“…أعتذر. لقد تخلّصنا منه قبل أن يُزجّ به في السجن.”
كان جورج باردا، الذي أُدين بتقليد النبيذ، في طريقه إلى السجن حين انتهى به الأمر إلى القبر.
لم يتوقّع أحد أن يقف قانون براءات الاختراع عقبة في طريقهم.
ولولا افتضاح تجارة العبيد، لما اضطرّوا إلى هذا.
لكن المصائب توالت تكبّلهم تباعًا.
رمق الماركيز الإمبراطورة بنظرات متوجّسة. فرغم رابطة الدم، لم يكن بينه وبينها ذرّة مهادنة.
هي التي أطاحت بوالدها وأجلست أخاها الأصغر على مقعد الماركيز بنفسها، فكيف يُرتجى منها رحمة؟
تذكّر وجهها يوم حدّقت ببرود في جثة الملركيز السابق الملقاة وسط بركة دم حمراء كالقرمزي، وذاك المشهد المرعب حين لوّثت يديها بالدماء ومسحته على الأرض.
منذ تلك اللحظة لم يعد لها قيد ولا كابح.
“أتدري لِمَ أريك هذه المأساة؟”
“م… ما الذي تفعلينه بحق السماء؟! لم تكوني هكذا! أأصابك مسّ من جنون أو شيطان؟ كيف تجرئين على قتل أبيك؟!”
“صحيح… لم أكن كذلك. لم أُحبّ قط كما حظيت تلك الامبراطورة بالحب. لذا تظاهرت بالخضوع والطاعة، لعلّي أبدو جديرة بالمحبّة.”
“التظاهر بالمحبّة؟! لقد ضمّك البيت وأطعمك وربّاك، ونجّاك من أن تصبحي مشرّدة. أيّ فضل أعظم من ذلك تطلبين؟!”
“كفى. حتى في هذا الموقف، لا تزال أفكارك غارقة في الأوهام.”
“ماذا؟!”
“طبعًا… كيف لك أن تفهم؟ أنا ابنة غير شرعية دنيئة، وأنت وريث أصيل لبيت ماركيز نبيل. مجرّد أداة رُبيت للحاجة، فكيف ستدرك شعور الأداة؟”
“…م… ما الذي تفعلينه؟! لماذا… لماذا تلطّخين يديك بالدماء؟!”
*****
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول. وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 73"