لست مصابة بمرض عضال! [ 68 ]

 

“……ما زالوا لا يبحثون عني إلا حين يحتاجون إلي.”

 

لم أشعر بارتياح ولا بانزعاج، كان الأمر أشبه بابتلاع ثمرة قابضة من غير قصد ثم لفظها بعد حين.

 

ومع ذلك، بدا وكأن الخيط الذي كنت أتشبث به بغباء لمجرد أنهم عائلتي، قد انقطع فجأة.

 

 شعور غريب اجتاحني حين حاولت أن أنظر ثانية إلى الأسفل.

 

هبت ريح قوية أخرى.

 

 أغمضت عيني بقوة، وما إن فتحتهما حتى ظهر أمامي مكان آخر.

 

زقاق مظلم، بلا مصابيح إنارة، يسوده السواد، وهناك دوّت أصوات مريبة. 

 

اتبعت الصوت، فرأيت شخصًا منكمشًا على الأرض يتعرض للضرب.

 

رجال بملامح شرسة، لا يخفى أنهم أشبه بعصابة، كانوا يحيطون به ويبرحونه ضربًا كما لو كانوا يسحقون نفاية تحت أقدامهم.

 

“نحن نعمل بطريقة قانونية. فمن أين جئت لتجرؤ على النباح بكلام فارغ وتتهمنا بالاحتيال؟ أضاع عقلك؟”

 

“كَهكك─، أ-أرجوكم… دعوني أعيش.”

 

“إن أردت المقامرة، فهات المال. لا تعبث.”

 

“أي مال؟ هذا الوغد غارق أصلًا في الديون. سيُدفن في الإسمنت قريبًا ويلقى حتفه في قاع البحر.”

 

“آه… تبًا.”

 

“ماذا؟”

 

“يبدو أن رأسه انفجر. لا يتنفس.”

 

“يا للصداع.”

 

قلبوا جسده، فانكشف وجه أخي، ولصق أحدهم عليه بصاقًا ثقيلاً.

 

كان وجهه متورمًا متخضبًا بالدماء، والدم يسيل بغزارة تحت جسده حتى ابتلّت الأرض.

 

نهاية تليق به تمامًا.

 

 لم أعرف إن كان هذا المشهد قد ظهر فقط لأنني تمنيت ذلك، لكنني زفرت وأدرت وجهي بعيدًا، غير راغبة في أن أرى المزيد.

 

‘ما هذا الوضع؟ أهو حلم؟’

 

أغمضت عيني بإحكام وهممت بفتحهما، لكنني شعرت بيد تغطي بصري.

 

 يد كبيرة لا تبعث حرارة، لكنها تشع بهالة مقدسة مألوفة.

 

[لقد انفتح قدرك أكثر مما ينبغي. أن تري صدعًا في عالم آخر…!]

 

كان صوتًا يرن في رأسي.

 

 بتوجس رفعت يدي وأمسكت بالمعصم. فإذا بالظلام يتبدد ليحل مكانه فضاء أبيض فارغ.

 

رفعت نظري محاوِلةً رؤية صاحب اليد، غير أن ما بدا وكأنه يد لم يكن سوى كتلة من نور ساطع أمامي.

 

“……عالم آخر؟ لا تقل لي إنني رأيت حقًّا العالم الذي كنت أعيش فيه؟”

 

[نعم. لم يحن الوقت بعد، لكن قوتك انفتحت مبكرًا فامتد بك الأمر إلى هناك.]

 

“إذن عائلتي، لا… أولئك الناس. حقًّا انتهوا إلى ذلك المصير؟ ماتوا هكذا بالفعل؟”

 

[من الأساس ما كان ينبغي أن تكون بينهم صلة بك. أردتُ فقط أن ينالوا فرصة راحة قصيرة في هذا الجانب، لكن يبدو أن السحر الاسود التصق بهم بعناد حتى النهاية. ولأجل ذلك عانيتِ كثيرًا.]

 

“السحر الاسود التصق بهم؟ أرجوك، فسّر لي أكثر!”

 

[لا أستطيع أن أخبرك بكل شيء. سيأتي اليوم الذي تدركين فيه بنفسك.]

 

كان صوته حانيًا للغاية، كمن يواسي طفلاً.

 

 ومع همساته المطمئنة والأنوار البراقة التي تحيط بي وتربّت عليّ، شعرت بالسكينة تتسلل إلى قلبي.

 

[طفلتي، أأمحُو لكِ ذاكرتك عنهم؟]

 

ترددت لوهلة.

 

 لم تكن هناك ذكرى واحدة جميلة معهم، وكل ما تبقى لم يكن سوى قطيعة مشينة، لكنني مع ذلك لم أستطع أن أجيب بالإيجاب فورًا.

 

“……لا حاجة لذلك. أظن أنني بخير هكذا.”

 

لعل السبب أنني لم أعد أضطرب عند تذكّرهم. 

 

بدا لي أن المضي قدمًا مع الاحتفاظ بتلك الذكريات أفضل من أن أترك فجوة مشوّشة في داخلي.

 

خطرت ببالي صورة الدوق بليك وديميان، فأومأت ببطء.

 

“ربما لأن تلك الذكريات موجودة، أستطيع أن أقدّر عائلتي الحالية أكثر. حتى إن لم يكونوا أسرتي الحقيقية، أريد أن أعيش معهم بهدوء.”

 

لم أر وجهًا، لكنني أحسست أن النور الأبيض يبتسم.

 

“……لكن من أنت حقًا؟”

 

[أنا البداية والنهاية، ذاك الذي تسمّونه أنتم البشر بالحاكم.]

 

أهم سؤال تأخر كثيرًا حتى نطقت به، لكن الجواب لم يفاجئني. 

 

توقعت الأمر، وتقبلته ببرود.

 

‘إن كان الحاكم، فهل هو يا ترى السيد إيانّا؟’

 

هذه الظاهرة الغريبة، وتلك الطاقة المقدسة المألوفة… وإذا كانت هذه الهالة الطاهرة التي تعانقني هي أصل قوتي، فما أعجب ذلك.

 

هممت أن أسأله إن كان هذا العالم حقًّا مجرد كتاب، لكن صوته سبقني بلطف:

 

[لكن، لماذا تصرّين على أنه ليس حقيقيًّا؟]

 

وما إن قال ذلك حتى فاحت رائحة أزهار غامرة، واسودّت الرؤية.

 

تحررت فجأة.

 

“هيهك…….”

 

فتحت عيني دفعة واحدة، فوقع بصري على سقف غريب.

 

 شهقت نفسًا عميقًا وأخذت أرمش سريعًا لأعيد تركيز نظري.

 

“لويسا!”

 

دوّى صوت ارتطام وخطوات مسرعة، وفي لحظات التفّ الناس حولي. 

 

وجوه مألوفة: الدوق بليك، ديميان، ماري، ورافاييل. 

 

وجوههم امتزج فيها الذهول بالفرح.

 

“هل أنتِ بخير؟ هل تسمعين صوتي؟”

 

“ن، نعم…”

 

“آنستي! ها هو الماء!”

 

مع وخز حلقها الجاف، أسرعت ماري تجلب الماء.

 

 ارتشفت قليلًا بتأنٍّ، ثم قالت ببطء:

 

“……أنا بخير. لكن، أين نحن الآن؟”

 

“بخير؟! لقد نمتِ ثلاثة أيام كاملة!”

 

“أبي؟”

 

لأول مرة، ظهر على الدوق انفعال جارف جعلني أرمش بدهشة.

 

“لو كنت أعلم أنك ستتألمين هكذا، لما جئت بك أبدًا. إنها غلطتي.”

 

“……لكنني أنا من أصرّ على المجيء. لحظة، ثلاثة أيام؟”

 

كنت أظن أنني أخذت قسطًا من النوم لا أكثر، لكن يبدو أنني غبت طويلًا.

 

 الغريب أنني الآن لا أشعر بمرض، بل بطاقة فائضة تملأ جسدي.

 

أحسست بوضوح أن قواي المقدسة أصبحت أوفر وأقوى من ذي قبل على نحو لا يصدق على من كان طريح الفراش أيامًا.

 

“هل تدرين كم عانينا ونحن ننتظر أن تفتحي عينيك؟ أأنتِ بخير حقًا؟ قولي إن كان هناك أي ألم.”

 

“أخي، أعلم أنك لن تصدقني، لكنني بخير فعلًا. أشعر أنني في غاية العافية…”

 

“لن أصدق كلمة بخير منك بعد الآن.”

 

“أنا…….”

 

حدّقت بدهشة في ديميان الذي كان يطبق شفتيه بغضب وكأن قلبه يتمزق من الأسى، وإذا بصوت حذر يقطع الصمت:

 

“هل تسمحون لي أن أتأكد للحظة فقط؟”

 

كان رجل يرتدي معطفًا أبيض يطل بخجل ووجهه متوتر. 

 

فتراجع الدوق بليك وديميان سريعًا ليفسحا له المجال.

 

اقترب الطبيب، وشرع يفحصها هنا وهناك وهو يتلفت متوجسًا كحيوان أعشاب وقع في مخالب وحش ضارٍ.

 

 وبعد أن أمعن النظر طويلًا في لويسا، عضّ شفته وأخرج صوته المرتجف:

 

“إنها في صحة تامة. لا يظهر عليها أي خلل، بل على العكس… تبدو في حالة ممتازة، كأن الراحة التي نالتها في نومها أزالت كل ما بها من إرهاق.”

 

“أأنت واثق؟”

 

“ن-نعم! واثق تمامًا! الآن آنستي في غاية الصحة!”

 

“……حسنًا. أين الكاهن المعالج؟”

 

“أنا هنا!”

 

غادر الطبيب مهرولًا وقد سحقته هيبة الدوق بليك، ثم دخل الكاهن المعالج بخطى مرتجفة، ومد يده ليتفحص لويسا.

 

 وما إن أغمض عينيه قليلًا حتى انفتحت فجأة ببريق مذهل.

 

“يا إلهي! إن القوة المقدسة هائلة! كالبحر، بل كقوة لا متناهية! هذا أمر لا يصدق…….”

 

‘آه، كان ينبغي أن أُخفي بعضًا من القوة المقدسة… لقد أفلتت مني كلها بلا وعي.’

 

تجنبت لويسا نظرات الكاهن المبهورة التي أثقلت عليها، والتفتت إلى الدوق بليك قائلة:

 

“أنا بخير حقًّا. كما قال الطبيب، يبدو أن النوم الطويل أراحني كثيرًا، أشعر بخفة كبيرة في جسدي.”

 

ثم حركت ذراعيها بلا سبب وكأنها تستعرض حيويتها.

 

 لكن كل العيون المصوبة إليها بدت وكأنها لا تصدق حرفًا مما تقول.

 

استشعرت شكوكهم حتى من دون أن ينطقوا، فاختارت أن تصمت، قبل أن تلقي نظرة جانبية نحو رافاييل الذي ظل صامتًا منذ البداية.

 

كان يمسح وجهه بيده في عصبية، تعلو محياه ملامح معقدة يستحيل قراءة ما وراءها. 

 

غير أنه سرعان ما غيّر ملامحه إلى الجدية، وما إن همّ الكاهن المعالج بالمغادرة حتى قطع طريقه وقال:

 

“يا حضرة الكاهن، هل يمكنك أن تحتفظ بكل ما رأيته وشعرت به هنا؟”

 

“آه…… لكن مثل هذه القوة أمر يتجاوز حكم كاهن مثلي.”

 

“لقد قرر الدوق التوجه إلى الكنيسة الكبرى. لذا أرجوك على الأقل حتى يحين ذلك، اكتم الأمر.”

 

“ماذا! سيّدي القائد، أنت تنحني لي؟! رجاءً، لا تفعل هذا! حسنًا، حسنًا! أعدك!”

 

‘ما هذا الذي يحدث؟’

 

قطّبت لويسا جبينها وهي ترى رافاييل ينحني بتلك الرسمية. 

 

حتى من في الغرفة بدوا مرتبكين، بينما الكاهن نفسه بدا كأنه سيُغشى عليه من وقع الموقف، وظل يومئ برأسه بعنف.

 

“إذن سنعتمد على وعدك.”

 

“ن-نعم! بالطبع!”

 

غادر الكاهن الغرفة مسرعًا وكأنه يهرب، فتابعت لويسا بصرها خلفه، ثم التفتت نحو رافاييل. 

 

وصادف أنه كان ينظر إليها في اللحظة ذاتها، فالتقت عيناهما في الفراغ.

 

وعندما ثبتت عينيها في زرقة عينيه المتموجة، شعرت وكأن أمواجًا عاطفية متلاطمة كانت تضطرب فيه.

 

***

 

ومرّ أسبوع كامل منذ وصولها إلى الشرق.

 

فمنذ اليوم التالي ليقظتها حاولت أن تتحرك، لكن رغم تأكيد الأطباء على عافيتها مُنعت من مغادرة الفراش، فوجدت نفسها حبيسة الغرفة لا تفعل شيئًا سوى التفكير.

 

‘لكن، ما الذي قصده حين قال إنني أظن أن هذا المكان ليس حقيقيًّا؟’

 

*****

 

ترجمة : سنو

 

انشر الفصول في جروب التيليجرام أول. وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك 

 

بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee

او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee