كان صوته منخفضًا لكنّه يفيض قوةً وإصرارًا جعل ملامح لويسا تتبدّل على الفور بعدما كانت تقولها بخفة أمام ديميان فقط.
‘إلى القبر؟ يا للمبالغة….’
وأدارت عينيها في خجل، غير أنها أبصرت الدوق يفتح العلبة بحذر وكأنما يبرّ بقسمه، ثم يضع حجر الحماية في جيب معطفه الداخلي.
ظل يتحسّس الموضع مراتٍ عدة كأنه يريد أن يطمئن إلى وجوده، ثم رفع بصره ببطء.
قال بهدوء عميق:
“شكرًا لك.”
وأضاف ديميان مبتسمًا بعطف:
“شكرًا يا لويسا. سأحتفظ به طَوال حياتي.”
فأجابت مرتبكة:
“لا داعي للمبالغة… إنه حقًا شيء بسيط.”
لكن ما داما مسرورين، فلا بأس.
قال الدوق:
“لا بد أن أكافئكِ.”
“ها؟”
“أليس هناك شيء ترغبين فيه؟”
“قلتُ لكما إنه أمر تافه. أيّ مكافأة تُذكر من أجل حجر حماية بسيط؟”
“لكنه ليس تافهًا عندي. لذا سأكافئك حتمًا.”
كان كلامه جافًا بظاهره، لكن الجو من حوله اكتسى دفئًا غريبًا جعل قلبها يلين رغمًا عنها.
شعرت لويسا بالارتباك وسط هذا الموقف الذي لم تعتد عليه، وظلت تتنقل بنظرها بين ديميان المبتسم بسعادة عارمة، والدوق الذي يحدّق فيها منتظرًا جوابها.
قالت بعد تردد:
“…فلتشتري لي شيئًا لذيذًا يومًا ما. هذا يكفيني.”
في الحقيقة لم يخطر ببالها شيء تطلبه، ثم ما الجدوى؟ أيمكن أن تتوقع شيئًا عظيمًا مقابل حجر صغير؟
التفتت عائدة، كأنها تُنهي الموضوع:
“على أي حال، علينا أن نسرع في الانطلاق وإلا تأخرنا.”
ضحك ديميان وقال بمرح:
“حسنًا، لنذهب إذن. شكرًا يا لويسا. سأحرص على أن أشتري لك أطيب الطعام طَوال حياتي!”
‘وها هو يعيد نفس المبالغة….’
فحدجته بنظرة جانبية بينما يتبعها بخفة كطفل، ثم غادرت الغرفة.
كان الخدم قد اصطفوا منذ وقت طويل في الممر، وقد أنهوا جميع الاستعدادات.
حين خرجت لويسا وتبِعها الدوق، شعرت بأنهم انتظروا أكثر مما ينبغي في غرفة الاستقبال.
‘لكن… ما هذه النظرات؟ أشعر بالثقل.’
طوال الطريق إلى العربة كانت عيون الخدم مشبعة بالرهبة.
فقد لمسوا بأنفسهم عودة الدوق من حافة الموت إلى العافية الكاملة، واستوعبوا قوّته الفائقة.
صحيح أنهم لم يعرفوا تفاصيل علّته، وظنوا أن الكاهن يوران قد عالجه، لكن أن ينهض بهذه السرعة ويتهيأ لسفر طويل، فهذا ما بدا لهم إعجازًا.
ومع ذلك، أظهر الطبيب الخاص علامات شكّ بيّنة.
فهو يعلم أن أصل الداء لم يكن جرحًا جسديًا بل تسمّمًا بالسحر الاسود، وأن من يملك القدرة على تطهيره في الإمبراطورية ليس سوى القديسة، أي أن الشفاء مستحيل.
غير أنه، وقد اعتاد خدمة بيت الدوق طويلًا، آثر الصمت ودفن تساؤلاته، مكتفيًا بالفرح لنجاة سيده.
قال وهو ينحني للويسا بكل اهتمام:
“آنستي، إن شعرتِ في الطريق بأبسط تعب أو أي إزعاج، فالرجاء أن تستدعيني على الفور!”
وكعادته، صبّ كل تركيزه عليها.
‘أليس الأجدر أن أخبر الطبيب أيضًا؟’
تساءلت لويسا في سرها، ثم رمقته بنظرة غامضة.
فهو سيرافقهم إلى العاصمة، وظلّ حتى الآن يعاملها كمريضة ميؤوس منها مضطرًا لإعطائها أدوية مجهولة لا تتناولها إلا صوريًا.
أحيانًا شعرت بالذنب لأنها تردّ جميله بالخداع.
فالتفتت إلى الدوق الجالس أمامها في العربة وقالت بهدوء:
“ألا ينبغي أن أخبر الطبيب بأنني لم أعد مريضة؟”
شعرت بنظرات ديميان عليها وهو يصغي.
فأجاب الدوق:
“إن كان الأمر لا يزعجك، فأخبريه.”
“لا يزعجني، لكنني أخشى أن يتسرّب الخبر إلى الخارج.”
“اطمئني. إنه رجل كتوم، فلن يتفوه بكلمة.”
“هذا مطمئن إذن… لم يبقَ سوى أن أختار اللحظة المناسبة لأخبره.”
أومأ الدوق بجمود وعيناه مثبتتان على لويسا دون أن ينبس ببنت شفة.
ثم لمح ديميان يربّت على كتفها، فحوّل بصره ببطء نحو النافذة وعلى ملامحه بدا تصميمٌ صارم لا يتزعزع.
قال بصوت خافت لكنه مفعم بالقوة:
“فيما يخص تلك القوة… سأحترم اختيارك. وأيًا يكن ما سيحدث، نحن إلى جانبك.”
نظرت لويسا إلى جانب وجهه بنظرة غريبة.
ما زال مهابًا وحاد الملامح تبعث على الانقباض، لكنها باتت تدرك إلى حدٍّ ما أنّ هذا المظهر القاسي ليس كل ما فيه.
“في صفي….”
لم يسبق لها أن امتلكت مثل هذا الشيء.
وبينما كانت تردد الكلمة الغريبة في فمها، ارتسمت ابتسامة باهتة عند شفتيها.
***
كانت البوّابة السحرية التي تصل الشمال بالعاصمة تقع في نقطة وسطى.
وهي في الوقت نفسه صلة وصل مع الشرق، فمسؤولة عن ثلاثة أقاليم معًا.
لكن على عكس القطار الذي يتسع للجميع، لا يحق استعمال البوّابة إلا للنبلاء من رتبة عالية وما فوق، لذا نادرًا ما كان المرء يصادف غرباء هناك.
غير أنّ الوضع اليوم بدا مغايرًا.
فقد اكتظّت مقاعد الانتظار بأناسٍ لم تعهدهم لويسا من قبل، حتى إنها استشعرت بعض الفضول وهي التي اعتادت استعمال البوابة غير مرة.
جالت بنظرها في المكان، ثم اقتربت قليلًا لتصغي إلى براون وهو يشرح الوضع للدوق وديميان.
قال:
“لقد فُتحت بوابة الشرق أولًا لإفساح الطريق للكهنة. ولمنع الضغط الزائد سيؤجَّل تشغيل بوابة العاصمة ساعة كاملة. هل هذا مقبول بالنسبة لكم؟”
سألت لويسا بعينين متسعتين، وقد غلب فضولها على صمتها:
“الكهنة؟ هل حدث أمرٌ في الشرق؟”
فأجابها ديميان:
“يبدو أنّ هناك ما يشبه ما وقع عندنا.”
“ما يشبه ما وقع عندنا… أتقصد التلوث بالسحر الاسود؟! هل أُصيب الناس؟”
“أجل. يبدو أنّ الوضع خطير حتى إنهم أرسلوا إلى العاصمة من يطلبون النجدة.”
ترددت لحظة ثم سألت:
“و… وهناك القديسة أيضًا، أليست كذلك؟”
فأجابها باستغراب:
“هم؟ كيف عرفتِ؟”
“فقط… توقعتُ ذلك. بما أنّ حال الشرق ليس جيدًا، فظننت أنها لا بد أن تكون هناك…”
ابتسم ديميان بفخر:
“يا لذكاء أختي. حتى أنا لم أكن أعلم بهذا.”
فقالت لويسا ببرود:
“وكأنك لم تعلم. لا تحاول التظاهر.”
ثم أضافت بنبرة جدّية:
“لكن لِمَ يستدعون الكهنة؟ في النهاية، ليس فيهم من يملك قوة التطهير.”
فواقع الأمر أن وريث بليك يستحيل أن يجهل موضع القديسة.
رمقته بنظرة جانبية تحمل العتاب أكثر من الغضب، فاقترب براون خفية وهو يهمس لها:
“يبدو أنهم يستدعون الكهنة على أمل أن تنكشف قدراتٌ مكنونة لدى بعضهم. والسبب كما سمعت أنّ القديسة نفسها عاجزة عن إظهار كامل قوتها في الوقت الحالي. فلعلّهم يتمسّكون بأمل ضعيف، كالغريق الذي يتشبث بالقش.”
قطّبت لويسا حاجبيها.
“لا تستطيع إظهار قوتها؟ بيلا؟”
مهما حاولت أن تتخلى عن تصوّراتها المسبقة عن القصة الأصلية، بدا لها هذا مستحيلًا.
فأقوى من نال البركة في هذا العالم هما رافاييل وبيلا.
فالأول يملك قوى مقدسة جبارة ومهارة قتال لا تضاهى، وأما الثانية فبمقدورها أن تطهّر أي سحر اسود مهما اشتدّ.
وبالذات بيلا، فقد كانت المفتاح الأعظم لهذا العالم: إن ضعفت قدرتها على التطهير، فقد يعني ذلك سقوط العالم فريسة للسحر الاسود.
“أيمكن أن يكونوا قد عثروا في الشرق على سراديب مماثلة لتلك التي وُجدت في الشمال؟ ولكن… حتى لو كان كذلك، كيف تعجز بيلا عن مواجهة السحر الاسود؟”
لويسا بنفسها طهّرت ما أصاب الدوق من سحر اسود.
ورغم أنّ قوتها هي نفسها قد ازدادت عن السابق، فهي تدرك تمامًا أنها لا تضاهي بيلا.
ومع ذلك، بدا أنّ السحر الاسود بات عنصرًا أكثر خطورة مما تخيلت.
كانت أعظم أزمة تتذكرها من القصة الأصلية هي تلك التي دبّرتها الإمبراطورة، حين أطلقت وحشًا في العاصمة لتضع رافاييل في مأزق محاولةً إضعافه ومنعه من التقدم نحو العرش بزواجٍ سياسي مع بيلا.
لكن ها قد انحرف مجرى الأحداث: سراديب مجهولة، وسحر اسود يفتك بالناس علنًا… حتى لم يعد بوسعها الوقوف موقف المتفرج.
حدّقت في الفراغ بعينين متجهمتين قبل أن تتمتم:
“إذن… من بين المصابين….”
“نعم؟”
“…لا، لا شيء.”
أدارت رأسها سريعًا مبتعدة.
قال براون وقد لمح ما في نفسها:
“سأتحقق من هوية المصابين. لكن بما أنّ الوضع مضطرب فقد يستغرق جمع الأسماء بعض الوقت.”
توقفت لويسا في مكانها متسمّرة.
لم تكن قد سألت صراحة عن رافاييل، لأنها تخشى أن تعرف جوابًا يثقل خطاها قبل الرحيل.
لكنها الآن لمجرد سماع إشارة غامضة، تداعت في رأسها عشرات الخواطر.
‘وماذا لو كان رافاييل من بين المصابين؟’
تلقائيًا، مدت يدها نحو قنينة ماء مقدس صغيرة كانت تحتفظ بها دائمًا.
لقد أقلقها أمر السحر الاسود بما فيه الكفاية، فكيف إذا كان رافاييل أيضًا جزءًا منه؟
كانت تستعيد ذكرى اليوم الذي أنقذها فيه، وتشعر وكأنها ستجحد فضله إن لم تفعل شيئًا.
لكن إن اكتفت بالانتظار حتى تصلها الأخبار، فقد يضيع وقت العلاج الثمين.
ومرت بخاطرها صورة الدوق وهو يتلوّى ألمًا قبل أيام.
‘لكنه قوي… سينجو، أليس كذلك؟’
كررت ذلك لنفسها مرارًا.
غير أنّ الكلمات لم تتجاوز ظاهر شفتيها، ولم تهدّئ قلبها الذي ظل يخفق بعصبية، بل لم تجلب سوى المزيد من التردّد والاضطراب.
*******
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام كملفات، وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 65"