ومع ضحكتها البريئة التي بدأت تطرق مسامعه، عادت الحياة إلى عينيه الزرقاوين الذابلتين، وسرت حمرةٌ في وجهه الشاحب.
‘لا أحب الناس.’
‘ولِمَ؟ إذًا فأنا أيضًا لا أُعجِبَك؟’
‘…لا أدري.’
‘لا تدري…؟ هل أسأت إليك؟’
‘…أنت لم تخطئي. فقط لا يوجد أحد يمكنني أن أثق به، ولهذا أبغضهم.’
كانت لويسا تحدّق في جانب وجه رافاييل الواقف واجمًا ويطأطئ رأسه بملامح خالية من المشاعر، ثم فُتِح فمها الصغير فجأة:
‘هل من الضروري أن نثق بأحد؟’
‘ماذا؟’
‘انظر، أنا مثلًا لا أصدق كلام مرضعتي حين تقول إن أمي أنجبتني ثم رحلت إلى السماء سعيدة. فلو أنها ماتت من العناء، كيف تكون سعيدة؟ أبي وحده كافٍ ليُظهر أنها لم تكن سعيدة. لكنني رغم ذلك أفهم مشاعر المرضعة.’
‘…تقولين إنك تفهمين؟’
‘نعم، لست أؤمن بالكلام في حدّ ذاته، بل أستوعب معناه، ثم أضع ثقتي في نفسي التي تفهمه.’
‘……..’
‘ما رأيك؟ أليست فكرة ذكية؟ أخي يندهش مني كل يوم، ويقول: يا لها من عبقرية!’
ارتسمت ابتسامة خفيفة عند طرف شفتي رافاييل وهو يصغي إليها باهتمام.
كانت ابتسامة واهنة، لكنها في عيني لويسا بدت كأعظم تعبير تراه لأول مرة.
فتحت عينيها الصغيرتين دهشةً، لكنها ما لبثت أن عبست حين عادت ملامحه إلى الكآبة، فقالت بإصرار:
‘ولِمَ نحتاج إلى أحد؟ في النهاية من سيبقى معك طويلًا… هو أنت نفسك!’
‘…حقًّا. لويسا، أنتِ ذكية فعلًا.’
‘هاه؟ لقد ناديتني باسمي! هذه أول مرة! قُلها مجددًا، أرجوك!’
كان شتاءً قارسًا قاسيًا، لكنه لم يكن باردًا في قلبه.
فإن كان غيره يراه موضع شقاء، فقد وجده رافاييل مكانًا مريحًا على نحو غريب.
لم يطل الشتاء كثيرًا، أو ربما مرّ سريعًا في نظره.
وبعد أن أتمّ مهمة القضاء على الوحوش بنجاح وعاد إلى العاصمة، بدا على وجهه شيء من الراحة وهو يتجه نحو والدته.
غير أنّ يوم عودته إلى القصر حمل إليه خبر رحيلها، وكان ذلك الخبر بحد ذاته ظلمةً اجتاحت أعماقه من جديد.
وحين التقى بلويسا بعد أعوام، وجدها قد نسيت كل شيء ومحَت من ذاكرتها كل صورة كان يحفظها عنها.
عندها شعر قلبه كأنه وقع في هاوية لا قرار لها.
ربما كان ما فعله لاحقًا محض نزق.
فخيبة الأمل من أن الشخص الوحيد الذي فهمه لم يعُد يتذكره، واندفاعه في الحكم على تغيّرها، جعلاه يتصرّف معها بفظاظة غير لازمة.
غير أن الذكريات الطفولية التي حاول طويلًا طمسها عادت تقوده بقوة أكبر.
‘هل سأتمكّن من تحقيق ما كان أمنية قديمة؟ أم عليّ أن أبحث عن غاية جديدة؟’
خطر ببال رافاييل وجه لويسا وابتسامتها الرقيقة، فتوقف قليلًا شاخصًا إلى الأفق غارقًا في التفكير، فيما كانت ريح هوجاء مضطربة تجتاح المكان.
***
نادراً ما كان ضيوف يطرقون أبواب قصر الدوق بليك في الإقطاعية، أما في مقرّ العائلة بالعاصمة فالأمر كان أشد ندرة.
فالدوق يقيم أغلب الوقت في الشمال بعيدًا عن دهاليز السياسة، وديميان من بين أفراد بليك، لم يكن يظهر للناس إلا في مناسبات مهمة على مضض، ولم يحدث قط أن استقبل ضيفًا في قصره.
أما لويسا، فكانت بعيدة تمامًا عن عالم الدعوات والزيارات.
ومع ذلك، تغيّر الحال فجأة.
وبدأ الناس يتردّدون على هذا البيت الكئيب، أناسٌ ما كان يُتوقّع أن يكونوا ضيوف لويسا بالذات.
‘إذن فقد طُرح في الأسواق أخيرًا…’
‘يا له من وقح! كيف يتجرأ على سرقة جهد غيره وإخراجه كأنه ملكه!’
لم يكن الزائر هذه المرة رافاييل الضيف الوحيد المعتاد، بل ألبيرت روزيه الذي لم يأتِ إلا مرة أو مرتين من قبل، ومعه أوّل زيارة للكونتيسة داليو.
وكان كلاهما يحمل نسخة من الصحيفة التي صدرت صباح ذلك اليوم.
الكونتيسة تحدّق في الجريدة بوجه متجمّد، وروزيه يدفن رأسه بين كفيه وقد تفجّرت مشاعره.
اختلفت طريقة التعبير، لكن الغضب كان السمة المشتركة على وجهيهما.
وعلى النقيض من ذلك، جلست لويسا بهدوء ناظرة بثبات إلى الصفحة الأولى.
“نبيذ زهري؟ يا لضعف ذوقه في اختيار الأسماء!”
وضعت الصحيفة بتروٍّ، فيما كانت الكونتيسة تشد قبضتها على ركبتيها وتقول بنبرة غاضبة:
“صحيح أن قوانين الملكية رخوة في قضايا التقليد، وأن إثبات التهمة شبه مستحيل، لكن نبيذ روزيه فريد لا نظير له. المعتاد أن المنتِج الثاني يتريث سنوات قبل أن يطرح منتجًا مشابهًا. أما أن يطرح في نفس العام… فهذا وقاحه مفرطة!”
“صحيح. خصوصًا بمستوى نبيذ روزيه، فمن الطبيعي أن يُجرى تحقيق حول المستثمرين، فإما أنهم يعلمون ومع ذلك تجرؤوا على هذا الفعل، أو أنهم بوقاحة لم يكلفوا أنفسهم حتى عناء التحقيق، وهذا ما يثير الاستغراب.”
كانت المعلومات التي جمعها براون عن السارق المقلِّد منقوشة في ذهن لويسا بلا استثناء.
كان اسمه باردا جورج، رجلًا يُعامل كنبيل على وشك الانهيار بعد أن تهاوى شأن أسرته.
كانت عائلته تدير مصنعًا صغيرًا للنبيذ، لكن بوفاة والديه آل المشروع تلقائيًا إلى الابن الوحيد باردا جورج.
ولأنّه انغمس في القمار، انهارت الأسرة في لحظة.
ومع ذلك، ظل يتنقل بين دور القمار، يقضي حياة بائسة لعقدٍ كامل، حتى شاع أخيرًا أنّه قد يُساق قريبًا إلى الدائنين.
لكن فجأة هذا العام شاع أنّه حصل على ثروة ضخمة وغادر إلى العاصمة.
ثروة مجهولة المصدر، وحجم يفوق قدرات رجل عاجز مثله، من الواضح أنّه لم يفعلها وحده.
“يبدو أن وراءه داعمًا ما، لكن الأمر كان نظيفًا أكثر من اللازم. لا أقارب ولا معارف مقربين، لذا من الصعب الحصول على تفاصيل.”
“سنحقق في من يقف وراءه على مهل. أما الآن، فالأولوية هي الإمساك بهذا اللص.”
“نعم. لكن المشكلة أن المعركة القضائية بلا أمل، ولذا علينا أن نلجأ إلى جلالة الإمبراطور للفصل. وهذا يعني أنّكِ يا آنستي ستتصدّرين المشهد، وقد يكون الأمر خطِرًا لو…….”
فلو كان المرء من النبلاء ذوي النفوذ لكان الأمر أهون، لكن بالنسبة لامرأة مثلها بلا أصدقاء وصورة سيئة بين الناس فإن خوض نزاع علني قد يثير شائعات بأن الأرستقراطيين الكبار يتعمدون اضطهاد نبلاء الأقاليم، فيتضرر اسم المنتج أكثر.
أو ربما يستغل بعض الطامعين الكبار الأمر بحجة عجزه عن الوساطة لينقضّ ويستولي على كل شيء.
( الوساطة : التدخل للفصل بين الأطراف وحفظ التوازن يعني قصدهم بما أنه لا يستطيع أن يحلّ الخلافات أو يمنعنا، فلنأخذ نحن كل شيء. )
والحقيقة أنّ كلمة الوساطة مجرد اسم؛ فالذهاب إلى الإمبراطور الحالي بمثل هذه القضية لا يعني إلا أن يسلم المرء الأمر برمته خاضعًا.
عندها خفت صوت الكونتيسة داليو وكأنها لم تستطع إتمام الحديث.
فأومأت لويسا برأسها كمن يفهم.
وساد الصمت للحظة.
وبينما كانت الكونتيسة تتنفس تنهيدة استسلامية بعد أن حركت شفتيها عاجزة عن كسر الصمت الخانق، قالت بصوت خافت:
“أعتذر…… لو أنني كنت أكثر حذرًا لما وقع هذا.”
خفض ألبيرت روزيه رأسه وهو يتهدج بالبكاء، يهتز كتفاه ندماً، وقد امتلأت نبرته بالمرارة.
“لم أكتفِ بعدم ردّ الجميل لمُنقذتي، بل سببت لكِ هذه المتاعب…….انستي، سأقاتل بنفسي كي لا يلحق بك أي ضرر…… حتى لو اضطررت للتضحية بحياتي…….”
“……وإن ضحيتَ بحياتك، فماذا عن النبيذ؟ من سيصنعه حينها؟”
“آ-آنستي…….”
“هل هناك تقدم في نبيذ الفواو؟”
“……أعتذر.”
“لا تقصدين أنكِ تنوين إطلاق منتج جديد الآن؟”
غطّت كلماته المليئة بالأسى عليها نبرة الكونتيسة داليو الممزوجة بالدهشة.
كان جهدها في الحفاظ على هدوئها ينهار فجأة.
قالت لويسا بهدوء:
“نعم. عندما يكتمل، سنتذوقه معًا. أظن أنه سينال إعجابكم.”
ردّت الكونتيسة:
“بلا شك سيكون رائعًا، لكن في ظل هذه الظروف أخشى أن يكون إطلاق منتج جديد مجازفةً كبيرة.”
راح الاثنان ينظران إلى لويسا بوجوه يملؤها القلق.
لم يصرّحا، لكن بدا جليًا أنهما يتمنيان لو أجّلت الأمر عامًا على الأقل.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 59"