أُغلق الباب بصوت مكتوم، وخيّم صمت خانق على الغرفة كأن الهواء نفسه يطبق على صدره.
جذب رافاييل ياقة بزّته العسكرية قليلًا، ثم أطلق زفرة طويلة.
“لقد جننتُ حقًا…”
تمتم وهو يغطي وجهه بكفّه.
لم يستطع أن يُبعد عن ذهنه صورة لويسا وهي تحدق به مذهولة لا تزيح بصرها عنه.
كان يظنها دائمًا امرأة حمقاء عنيدة تتجاهل آلامها وتصرّ على الإنكار.
وكان يعتبر صدودها وتقلبها المزعج شيئًا يثير غيظه فحسب. غير أنّ الوقت الذي قضاه إلى جانبها أطال الخيوط بينهما شيئًا فشيئًا حتى انهارت الجدران التي أقامها حول قلبه بلا جدوى.
تذكر يومًا في الشمال حين كثرت المعارك مع الوحوش، وكيف غادرها هو أولًا ثم أوصاها بصوت بارد أن تنال قسطًا من الراحة. وتذكر تلك الليلة التي ظلّ فيها متقلّبًا على فراشه من فرط الإرهاق، فوجد أن خادمتها تركت له شايًا مهدئًا للنوم.
كما تذكر كيف أمسكت بطفل في الكنيسة ونهرته برفق ألا يركض ثم رحلت مبتعدة بلا التفات.
هكذا كانت تظهر أحيانًا دفئًا عابرًا في قلب برودتها، دفئًا بدا متناقضًا لكنه ترك أثرًا عميقًا في قلبه.
صارت أبسط الأمور كـ لمحة عين عابرة أو مسّ أطراف الأصابع أو ابتسامة واهنة على شفتيها كفيلة بأن تسلبه توازنه.
كل تلك اللحظات الصغيرة صارت تقيّد انتباهه وتدفع الدم حارًا في أذنيه حتى بات يتضايق من نفسه.
ولم يعد قادرًا على إنكار أن تصرفاته المتهورة ما هي إلا انعكاس لازدياد اهتمامه بها.
مع ذلك… لم يكن ينوي أن يصرّح بهذا الشكل. لكن لا مبالاتها بنفسها واستصغارها لذاتها كانت تستفزه حتى دفعته إلى التفوه بما لم يخطط له.
“…كأن قلبها خلا مني تمامًا.”
قالها بمرارة.
البداية كانت خاطئة، والمنعطفات كانت أكثر خطأ.
كان عليه أن يبدأ باعتذار صادق وينتظر بصبر حتى ينفتح قلبها.
لكنه تسرع، فسبقته عجلة قلبه على عقله.
ربما لأنها قالت إن وجوده يساعدها… شعر حينها أن هذه فرصته الأخيرة فتمسك بها بدافع غريزي.
أغمض عينيه ببطء وارتعشت رموشه الطويلة ثم هدأت وسرى على ملامحه المربكة هدوء غريب.
‘هذا أمر لا يُحلّ في يوم وليلة.’
عرف أن كل تفكير منفرد لن يُغيّر ما جرى ولن يمحو ما حدث.
ولم يكن واثقًا من حقيقة مشاعره بعد.
كل ما استطاع أن يتمسك به هو أنه من الآن فصاعدًا عليه أن يتخلى عن الحسابات والمكاسب والخسائر فيما يخصها وأن يتحمل مسؤولية ما تفوه به.
فتح عينيه مجددًا وكان أزرقهما أعمق من ذي قبل.
بدا أن ما أثقل صدره حقًا كان اعتراف لويسا البارحة حين بصقت دمًا وتحدثت عن السحر الاسود.
لقد ظلّ طوال اليوم يفكر بها حتى انتهى به الأمر إلى الاندفاع خارج الكنيسة دون موعد ليذهب إليها.
كان يومه كله مزيجًا من تهور، لكن مع تكرار التفكير أحس قلبه يستقر أكثر فأكثر.
فما دام قد انكشف الأمر، فلا بأس بأن يُظهر قلقه عليها علنًا، وأن يقدم لها عونه بما يملك من قوى مقدسة.
والآن… يكفيه ذلك.
مسح أذنه المتوردة بيده، ثم وقعت عيناه على المكتب حيث تراكمت الرسائل.
لفت نظره ظرف مختوم بخاتم الإمبراطورية.
“…من جناح الإمبراطورة.”
لقد مر زمن طويل منذ تلقى منها رسالة.
كان منشغلًا لدرجة أنه لم يزر القصر منذ مدة طويلة، فهل كتبت لتذكيره بذلك؟
كان بوسعه أن يرسل أحد خدمه بدلًا منه، لكن تلك عادة الإمبراطورة: لا تفعل إلا ما يعكس شخصيتها الخاصة.
تردد قليلًا، ثم فتح الرسالة ببطء.
أخذ يقرأ، فكانت سطور السؤال عن أحواله والاطمئنان على صحته تتلاشى سريعًا من ذاكرته، ولم يعلق بذهنه إلا آخر مقطع:
[…قريبًا ستُعيَّن بيلا كقديسة رسمية. أرجو أن ترافقها في مراسم تنصيبها.]
‘لماذا إليّ أنا، لا إلى ساينف؟’
***
لم يمضِ وقت طويل منذ أن كان البنفسج يزهر في كل مكان حتى امتلأت الدنيا الآن بزهور دوّار الشمس المتفتحة.
وبينما كانت لويسا تحدّق شاردة في حديقة القصر متأملةً دوّار الشمس الذي يغمره وهج الشمس من خلف النافذة، التفتت ببطء وقد أحست بوجود شخص ما.
“آنستي، ما رأيكِ في هذا الفستان؟”
ألقت لويسا نظرة عابرة على الفستان الأزرق الفاتح الذي أحضرته ماري، ثم أومأت برأسها موافقة.
وما إن جاءتها إشارة القبول حتى أسرعت ماري التي كانت قد جهّزت ملحقاته من حليّ وزينة مع إحدى الخادمات اللواتي كنّ بانتظارها لمساعدتها على ارتدائه وتجهيزها بلا إبطاء.
“آنستي ستذهبين إلى حفل شاي! أنا متحمسة للغاية!”
“صحيح! فمجرد أن يكون في بيت الكونتيسة داليو فهذا أمر كبير حقاً!”
“هكذا إذن… أنا في حفل شاي؟…”
تمتمت لويسا ببرود وهي تسترجع في ذهنها بطاقة الدعوة التي وصلتها قبل ثلاثة أيام، حيث ذكرت أن الكونتيسة داليو ستقيم حفلاً صغيراً لشرب الشاي.
ورغم أنه يوصف بالـ”صغير”، إلا أنّه لن يحضره أناس عاديون بلا قيمة، ولولا عدم وجود ما يشغلها لكانت على الأرجح قد تجاهلته.
‘كان عليّ أن أجد فرصة لأتحدث مع الكونتيسة في إحدى الولائم السابقة وأُنهي الأمر هناك…’
فالعلاقة بينهما اقتصرت حتى الآن على أعمال تجارة النبيذ، ولم تكن صلة وثيقة، مجرد علاقة منفعة متبادلة لا أكثر.
لكن بما أنها لا تملك شبكة معارف قوية، كان من الحكمة أن تحتفظ إلى جانبها بشخصية نافذة كهذه، غير أنّ الفرصة لم تتسنَّ لها حتى الآن.
“أنا في غاية السعادة يا آنستي! لا بد أن الكونتيسة قد رأت قيمتك الحقيقية!”
قالتها ماري بعينين دامعتين وهي تمسح أنفها، فارتسمت على وجه لويسا ابتسامة محرجة.
‘هل لأنها أول مرة أذهب فيها إلى حفل شاي؟ الجميع يبالغ كثيراً…’
منذ أول عام في ظهورها الاجتماعي، وبعد أن انكشف طبعها الحادّ، لم تتلقَّ لويسا أي رسالة دعوة من سيدات العائلات الأرستقراطية. وكأنهن قلن: “أفضل طريقة للتعامل معها هي تجاهلها تماماً.”
لذا، فإن وصول أول دعوة لها الآن كان كافياً لإثارة دهشة أهل القصر، فكيف إذا كانت من بيت داليو الثري ذائع الصيت!
وما زاد في وقع الأمر أنّ الدعوة وُجهت إليها هي شخصياً لحضور حفل السيدات، لا إلى اللورد بليك، وهذا اعتُبر حدثاً استثنائياً.
فاندفع ديميان في اليوم نفسه يدعو التجار إلى القصر ويشتري مزيداً من الفساتين والمجوهرات، وكأنها ضجّة لا تهدأ.
“آنستي، هل ترغبين أن تتركي شعرك منسدلًا أم نرفعه قليلاً؟”
“ارفعوه قليلاً، الجو حار. لكن لا تكثروا من الزينة.”
“حسناً!”
واكتست وجنتاها البيضاوان بحمرة خوخية، فيما زينت شفتاها بلون برتقالي يميل للاحمرار فوق ورديّهما الطبيعي.
نظرت لويسا صامتة إلى الحليّ التي تزينها، وحين تأكدت من اكتمال الزينة، نهضت من مكانها.
هبّت ريح خفيفة عبر النافذة، لكنها لم تستطع أن تبدّد حرارة منتصف النهار الملتصقة بالأرض.
ومع ذلك، لم يكن الجو حاراً لدرجة تمنعها من ارتداء قفازات من الدانتيل، فارتدتها وأمسكت بمروحة زرقاء عند مقبضها.
“آه… آنستي.”
“ماذا هناك؟”
فتحت الباب فإذا بالبوّاب متوقف عند العتبة، يهمّ بالطرق.
“ما الأمر؟”
“صاحب السمو ولي العهد الأول قد وصل.”
“ماذا؟! لقد أخبرته أن لا يأتي اليوم…”
“يقول إنه جاء ليُرافقك كمرافق.”
مرافق؟ إلى حفل شاي؟ أي فارس هذا يأتي ليؤدّي دور مرافق في حفل شاي!؟
ارتفع حاجب لويسا في استغراب.
فمنذ أبدى رافاييل اهتماماً غير متوقَّع بها، صار يأتي إلى قصرها يومياً متذرعاً بشتى الأسباب.
ولذا كانت قد شددت عليه ألّا يزورهم اليوم، ولم يخطر ببالها أن يظهر بهذا الشكل.
‘صحيح أن وجوده يفيد جسدي بعض الشيء… لكن ألم يكن يكفي ما حصل في الشمال؟’
زفرت لويسا في سرها، وهي تفكر:
‘متى من المفترض أن يقع في حب بيلا؟ ربما أثناء مراسم تنصيبها كقديسة؟’
فهي لا ترى في تصرفاته الآن سوى محض فضول سطحي يورثها الضيق.
“نهارك سعيد يا لويسا.”
“كنتُ قد قلتُ لك إنك لستَ مضطراً للحضور اليوم…”
ألقت عليه تحية مقتضبة، ثم تركت كلامها يتلاشى عمداً، في إشارة واضحة لعدم رضاها.
وقد فهم رافاييل مغزى العتاب المبطّن، فارتسمت على فمه ابتسامة باهتة.
“سمعت أن اللورد الصغير لديه اجتماع اليوم ولن يتمكن من الذهاب معكِ. وظننت أنّ وجود مرافق في أول حفل شاي لك قد يبعث فيك بعض الاطمئنان، لذا جئت.”
‘ديميان؟’
تذكرت لويسا كيف كان في الأيام الأخيرة ينظر إليها بنظرة غامضة مبتسماً كلما رأى رافاييل يزورها باستمرار.
وكان على غير عادته يتركها وحيدة كلما حضر رافاييل، متعللاً بانشغال ما.
من الواضح أنّ الأمر متعمّد.
‘هل عليّ أن أخبر ديميان أيضاً أن لا مشاعر لي تجاه رافاييل بعد الآن؟’
فلطالما بدا وكأنه يلعب دور “كيوبيد”، لكن بالنسبة إلى لويسا الآن لم يكن سوى عبء آخر يفاقم صداعها.
( كيوبيد يعني وسيط الحب وكذا )
“تفضلي بالركوب.”
“…شكراً.”
أجابت بفتور وبدت على ملامحها كراهة لم تحاول إخفاءها.
جلست في المقعد المقابل وأسندت ذقنها إلى النافذة.
‘سأذهب ببساطة دون تكلف، لا تقاليد ولا رسميات. أما عائلة داليو… صحيح أننا نتعامل معهم تجارياً، لكنهم لا يعطونني الانطباع نفسه الذي يعطيه شريك مثل ألبيرت روزيه.’
كانت تدرك أن علاقة المصالح وحدها تكفي، لكن البرود الشديد قد يفضي إلى قطيعة يوماً ما. وبما أن عائلة داليو تحكم قبضتها على معظم التجارة، فقد يكون هذا هو الوقت الأمثل لبناء صلة أمتن.
“هل أصبحتِ قريبة من كونتيسة داليو منذ حفلة الحديقة؟”
“يمكن القول ذلك…”
“مذهل حقاً. لم أكن أتصور أنك تستطيعين التقرب من أحد. آه… أعلم الآن أن هذا كان محض تحيّز مني.”
****
فتحنا انا وصديقاتي المترجمات قناة خاصة بتسريب الروايات واعلانات الفصول وفعاليات وأيضا طلبات وحروقات … واذا اختفيت بتلاقوني هنيك
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات