تداخلت الأفكار بعضها ببعض كما لو كانت تلتهم ذيولها، فكلما خطرت فكرة أعقبتها أخرى تناقضها، وهكذا ظلت لويسا تغرق في أسئلة بلا جواب حتى ازدحم رأسها وازداد اضطرابها.
‘آه… لا أدري.’
وانتهى بها الأمر إلى الهروب.
أيًّا كان المعنى الكامن وراء كلماته، لم تعد تملك إلا أن تزفر تنهيدة ثقيلة.
لقد أرادت فقط أن ترتاح، غير أن الأجواء لم تكن تسمح له بأن يفسح لها المجال بسهولة.
إلى حدّ إعطائها ماءً مقدسًا كان تصرّفه مناسبًا، لكنها أحسّت بعد ذلك أنه يحاول اقتحام ما لا يحق له تجاوزه.
لم تجد ما يمكن أن تبرر به أكثر، وكل ما رجته أن يمرّ الأمر بهدوء، فأخذت تتهيأ للكلام فإذا برافاييل يقطع عليها فجأة:
“لم أشأ أن أستجوبك… لكن لا مفر.”
“…..؟”
“لا يمكن القول إنك تفتقرين إلى المهارة، وأرى أنك متمكّنة في استعمال القوة المقدسة.”
كانت كلماته المتتابعة أشبه بهجوم لم يترك لها مجالًا للتهرّب فارتبكت لويسا.
يبدو أنها تهاونت كثيرًا مع تعقّد الموقف.
لقد سبق أن قال إنه يستطيع الإحساس بالقوة المقدسة، ومع ذلك استخدمتها بجواره دون حذر.
ثم راحت تفكّر:
‘صحيح أنه قال إنه لا يشعر بها إلا بشكل طفيف، فكيف لي أن أتوقع أن يدرك الأمر إلى هذه الدرجة؟’
“أكنتِ تزورين كنيسة الشمال كثيرًا من أجل القوة المقدسة؟ لم يكن لديكِ هذا القدر منها في الماضي، أما اليوم فقد رأيتك تستخدمين كمية هائلة بمهارة. ليس من السهل أن يتعلم المرء هذا بمفرده.”
تتابعت كلماته كسيل، وأطبقت لويسا شفتيها دون رد.
حاولت أن تدافع عن نفسها في داخلها، لكن ملامحها خانتها، إذ ارتسم على وجهها بوضوح ارتباك لم تعهده من قبل.
“لويسا.”
ارتجفت كتفاها حين ناداها باسمها، رغم أنها لطالما أوهمت نفسها أن الأسماء لا تعني شيئًا.
ربما الموقف هو ما جعل وقع الكلمة عليها مختلفًا.
ترددت قليلًا، ثم غلبتها الرغبة في مواجهة الأمر، فرفعت بصرها تدريجيًا إلى رافاييل.
“لن أخبر أحدًا. وإن كنتُ على حق، فسأستطيع مساعدتكِ.”
لم يكن يعلم أنه بالفعل قد قدّم لها يد العون أكثر مما يتصوّر.
ولهذا لم تستطع هذه المرّة أن تراوغ كعادتها.
لقد أدركت أنها إن تمادت في التبرير فلن تجني إلا الأكاذيب، وستفقد حتى قدرتها على تذكر ما قالت من قبل، فتقع في خطأ أكبر… تمامًا كما يحدث الآن.
‘هاه… صار الأمر مزعجًا فعلًا.’
لم تكن تفهم لمَ يصرّ على مدّ يد المساعدة، لكن من الواضح أن الخداع السطحي لن ينفع معه.
فخفضت رأسها وزفرت طويلًا ثم قالت:
“نعم. ذهبت إلى الكنيسة بسبب القوة المقدسة.”
“…لأنها ازدادت لديكِ؟”
“نعم. يبدو أنني صرت أكثر حساسية من غيري تجاه السحر الاسود، فأحيانًا أبصق دمًا بسببه.”
“قلتِ السحر الاسود…؟”
“نعم. لذلك جرّبت أن أتعلم من الكهنة طريقة لصدّ السحر الاسود بالقوة المقدسة، لكنني ما زلت ضعيفة، ولهذا أقع أحيانًا في مثل هذه الأخطاء. لكن مع التدريب سأتمكّن، ولن تتسرّب القوة المقدسة مني ثانية، وعندها ستزول الأعراض تلقائيًا.”
“هاه… إذًا حتى ما حدث في العربة كان بسبب الساحر الاسود.”
فقد كان يعلم أن السحرة السود يستعملون المانا كقالب لقواهم، فربط الأمر بما حدث سابقًا.
فاكتفت لويسا بهزّ رأسها ببطء.
كانت تأمل أن انكشاف جزء من الحقيقة يكفي ليكفّ عن الإلحاح في مسألة العلاج.
لكن صرخته المدوية بدّدت أملها:
“كيف تقولين إن الأمر سيتحسّن! إن السحر الاسود في ازدياد متسارع، وبجسد حساس كهذا سيغدو الأمر خطرًا أينما كنتِ!”
“ماذا؟ لكنني حقًا أرى أثرًا إيجابيًا من التدريبات التي تعلمتها من الكهنة. صدقني.”
“……”
“لا أعلم لماذا حصل هذا فجأة اليوم فحسب.”
“آخر مرة شعرتُ بالسحر الاسود في القصر كان قبيل تطهير الساحة المقدسة. وإن كان مجرد لحظة عابرة تسببت لكِ بكل هذا العذاب… فهذا يتجاوز الحساسية البسيطة.”
“همم…”
مسحت لويسا خدّها بارتباك من ردّة فعله العنيفة.
لقد فضّلت أن تكشف بعض الحقيقة بدل أن يُشخّصها الأطباء بمرضٍ قاتل مجهول، لكنها بدأت تظن أن ذلك كان خطأ.
ربما كان عليّ أن أغضب وأغادر فحسب.
ولماذا عليّ أصلًا أن أشرح له وضعي؟
لقد كانت متوجسة من أن يأخذها إلى القصر للفحص، لكنها الآن بعد أن ألقت باللوم على القوة المقدسة، يبدو أن تلك المخاوف قد زالت… وهذا في حدّ ذاته نعمة صغيرة.
‘لكن… لعلّه يقترح أن ألتقي بالكاهن الأكبر أو حتى البطريرك؟ هل سيصل به الأمر إلى هذا؟’
لم تعد تثق في تصرّفاته غير المتوقعة.
“الكاهن يوران طلب مني أن أزوركِ باستمرار. هل هذا ما يفيدكِ؟”
“الكاهن قال ذلك…؟”
“نعم.”
مصيبة فوق مصيبة.
زفرت لويسا بوجه متعب.
“ذلك لأن قوّتك المقدسة هائلة، فحين تكون بالقرب… أجد راحة واستقرارًا.”
“آه…”
“……سيد رافاييل؟”
“آه، أكون بجوارك…… هكذا إذن.”
تصلّب رافاييل للحظة وقد بدا عليه الارتباك، ثم مدّ يده ليلمس أذنه كمن لا يدري ماذا يفعل.
كانت أذنه قد احمرّت بحرارة، ولمّا وقعت عليها نظرات لويسا صرفت بصرها سريعاً.
أما عيناها البنفسجيتان فلم يبق فيهما أثر لأي شعور، وكأنها لا تريد إلا أن تفلت من هذا المكان.
“هل يمكنني أن أنصرف الآن؟ أودّ العودة إلى المنزل.”
قالتها بلهجة باردة كأن التعب الذي كان بادياً على وجهها قد تلاشى تماماً، وبقيت كلماتها عابرة بلا أي انفعال.
***
في اليوم التالي، لم تفعل لويسا شيئاً.
كانت تأكل وتنام فحسب كما لو أنها سلّمت نفسها كلياً لشهواتها وحدها.
ولم تستعد وعيها إلا عند اقتراب غروب الشمس.
“لن أذهب إلى أي مكان. فقط حفل تنصيب القديسة، وبعدها حقاً لن أذهب إلى أي مكان آخر.”
تمتمت بذلك كأنها تبرمج نفسها، وهي تترنّح وتتكئ على حافة النافذة تحدّق بعينين شاردتين وترمش ببطء.
“لكن لماذا تقيأت دماً البارحة؟ لم أكن حتى قريبة منها، مجرد أني رأيتها عن بُعد للحظة فحسب……”
وما إن بدأ ذهنها يستعيد نشاطه حتى عادت إليها ذكرى ما جرى بالأمس.
يا له من سوء حظ أن يقع التقيؤ الدموي داخل القصر الإمبراطوري! ولولا أن الحادثة جرت قرب غرفة التزيين بعيدًا عن الأعين، لكانت قد تحولت إلى مادة دسمة للأحاديث
“انظروا! لويسا بصقت دماً!”
ارتجفت وهي تتذكر بتأخر ذلك الموقف المروع، ثم عبست في حيرة.
فمن المفترض أن القصر هو أكثر مكان تُشدّد فيه إجراءات الأمان، ومع ذلك ما حدث ما زال غير مفهوم.
تارة يخطر ببالها أن طاقة مشؤومة سكنت المكان، وتارة تنفي ذلك مستبعدة أن يكون ممكناً.
‘لا يعقل أن يكون السحر الاسود قد تراكم هناك…… أممم؟ أيمكن أن يحدث ذلك فعلاً؟’
أمالت رأسها متفكرة، لكن طرقاً على الباب قطع خواطرها، فنهضت.
وهي تفكر أن عليها أن تسأل الكاهن يوران في وقت لاحق، التفتت إلى الخادمة ماري التي دخلت الغرفة متسائلة بعينيها عمّا هناك.
“آنستي، وليّ العهد الأول حضر لرؤيتك!”
“…هل قال إنه سيأتي؟”
حاولت أن تسترجع إن كانت قد سمعت شيئاً كهذا وأهملته، لكنها لم تذكر.
صحيح أنها اعتادت قديماً أن تتجاهل الكلام، لكنها في الآونة الأخيرة لم تفعل.
‘ولكن… لماذا لم أعد أتجاهل هكذا كما كنت؟’
شردت عيناها معلّقتين في الفراغ.
“آنستي؟”
“آه.”
“ماذا نفعل؟ هل أبلغه أن صحتك لا تسمح وأن يؤجل الزيارة؟”
ولأن ماري تعرف مزاج آنستها الذي يكره الإزعاج، فقد عرضت هذا الحل.
ولولا ما حدث البارحة لقبلت لويسا من فورها وادّعت المرض يوماً كاملاً.
لكن بعد أن رآها رافاييل تتقيأ الدم أمامه، إن قالت الآن إنها لا تزال مريضة فقد يظن أن حالتها خطيرة ويشيع الأمر بين العائلة.
“لا…… لننزل.”
قالتها وهي تضغط جفنيها المرهقين وتتمتم بفتور.
وما إن همّت بالخروج مترنحة حتى أسرعت ماري وأوقفتها.
كانت ترتدي ثوباً منزلياً بسيطاً لا يليق بملاقاة ضيف، فأسرعت الخادمة تمشط لها شعرها وتلقي على كتفيها رداءً خفيفاً.
وبعد قليل، دخلت لويسا إلى غرفة الاستقبال دون زينة تُذكر، فنهض رافاييل فوراً من مقعده.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات