في الحقيقة، كانت لويسا تتمنى منذ مدة أن تفهم طبيعتها الغريبة هذه على نحو أفضل، فرأت أن الذهاب إلى الشمال في هذه الفرصة ليس خياراً سيئاً.
فالأمر الذي حيّرها أكثر هو أنها كثيراً ما بصقت الدم في الآونة الأخيرة، وكأن المانا المظلمة منتشرة حولها أكثر مما ينبغي.
‘إن كان في أطراف الأرض النائية لكان مقبولاً، لكن في العاصمة يجب ألا يكون هناك أي أثر للمانا المظلمة…’
من زاوية أخرى، بدا الأمر فرصة مواتية.
إذ كانت لا تزال منزعجة من كلام الأمير الثاني ساينف في حفل الحديقة عن القوة المقدسة، وظنت أنّ اختفائها عن الأنظار فترة كافية سيجعل الجميع ينسى الأمر تدريجياً.
وفوق ذلك، إن هي وضعت مسافة واضحة بينها وبين رافاييل، فستحصل يوماً ما على ورقة فسخ الخطوبة مع تعويض ضخم لا شك فيه.
ارتسم على وجهها ابتسامة ارتياح سريعة.
قالت بثبات:
“لقد قررت. سأذهب إلى الشمال.”
رفع الدوق حاجباً بدهشة:
“أحقاً؟”
“نعم. ففي الشمال سأستطيع التفرغ للعلاج أكثر من أي مكان آخر.”
“…ليس عليك أن تجيبي فوراً. خذي وقتك وفكّري جيداً.”
هزّت رأسها بابتسامة:
“لا داعي. حتى لو فكرت أكثر فالجواب لن يتغير. متى سيكون السفر إذاً؟”
بدت سرعة جوابها مفاجِئة للدوق، لكنه حين رأى لويسا تحدّق إليه ببرود وثبات وميض عينيها يفضح عزمها، أيقن أنها جادة.
فأطلق زفرة طويلة وقال:
“لديّ أمر عاجل يستدعي أن أرحل غداً مباشرة. أنتما تستطيعان اللحاق بي لاحقاً.”
انزلقت عينا لويسا إلى الصندوق الصغير الذي لم يكفّ الدوق عن العبث به منذ قليل. بدا وكأنه يحمل داخله شيئاً خطيراً هو سبب هذا القلق.
‘ما الذي يحتويه ذاك الصندوق؟ منذ عاد من الاجتماع الطارئ في القصر وهو لا يفارقه لحظة…’
عادةً ما يترك مثل هذه الأشياء لمساعديه، لكنه حمله بنفسه، ما أوحى بجدّية غير معهودة.
لا شك أن أمراً غير عادي قد وقع.
ترددت لويسا لحظة؛ هل من الحكمة مرافقة الدوق في حال كان يحمل شيئاً خطيراً؟ لكن خطر البقاء في العاصمة وسط المانا المظلمة لم يكن أقل سوءاً.
ثم إنّ البقاء هنا مع رافاييل تحديداً كان سبباً كافياً للمغادرة بأسرع وقت.
قالت بلهجة حاسمة:
“…سأذهب أنا أيضاً غداً. لا عمل لديّ هنا، والأفضل أن أرحل سريعاً لأرتاح هناك.”
“لكن الطريق شاق. صحيح أن هناك بوابات تنقل سحرية بين المناطق، غير أنّ بقية المسافة ستُقطع بالعربات، وهذا مُجهد. يمكنكِ اللحاق بنا لاحقاً بعد أن تستعيدي عافيتك.”
ابتسمت لويسا ونظرت إلى شقيقها:
“لا بأس. وأنت يا ديميان؟”
أمام نظراتها المتوسِّلة التي تحمل شيئاً من الإصرار، لم يجد ديميان بداً من الابتسام:
صفّقت بيديها بحيوية، بينما أطرق الدوق رأسه مستسلماً، وقد انعكس في عينيه بريق عزمها المتأجج.
***
أما رافاييل، فقد أمضى الأيام الثلاثة الأخيرة غارقاً في فوضى من الأفكار.
كلما حاول أن يلتقط أنفاسه قليلاً، تسللت الذكريات إلى ذهنه بلا استئذان وأعاقت عمله، فتضاعفت أكوام الأوراق فوق مكتبه ولم يبقَ له سوى السهر الطويل.
ذلك المساء أيضاً، كان يهمّ بتجاوز العشاء، غير أن نائبه أصرّ بشدة حتى ساقه إلى مطعم القصر الكبير.
وكانت المائدة قد امتلأت للتوّ بشرائح لحم ساخنة تفوح منها رائحة شهية.
‘…تذكّرت، كانت تحب اللحم كثيراً.’
لم يكن يفكر في شيء حين بدأ يقطع شريحة من اللحم، لكن الذكرى قفزت فجأة إلى ذهنه، ومعها سيل من صور أخرى تتابعت كلوحة بانورامية:
لويسا وهي تركّز على تقطيع اللحم.
لويسا وهي تتفاجأ بالطعم وتفتح عينيها مدوّرتين.
لويسا وهي تمضغ مبتسمة طوال الوقت.
كلها لويسا.
كيف ظلّت هذه المشاهد راسخة في ذاكرته رغم أنه لم يُلقِ لها بالاً حينها؟ كان الأمر مدهشاً حدّ الغرابة.
فتجهمت ملامح رافاييل بعصبية.
لقد حاول مراراً أن يُبعدها عن تفكيره، لكن صورتها ظلت تطارده حتى حرمتْه النوم ليالٍ عديدة.
وها هو الآن يعيد الكرّة من جديد.
‘هذا جنون.’
لم يفهم ما الذي يحدث له، لكن مجرد شبح ذكراها كان كفيلاً بتعكير صفو يومه وإغراقه في مزاج ثقيل.
‘عقدٌ سينكسر عاجلاً أم آجلاً، فالأجدر ألا نرهق أنفسنا عبثاً.’
‘أما لديك ذرة من حياء؟’
كان ما يثير ضيقه أكثر أن ما يتذكره تحديداً هي تلك اللحظات التي تعمّد فيها أن يقول لها كلمات جارحة، وكأنه أراد أن يقطع كل سبيل للرجاء.
‘هل هذا شعور بالذنب؟ لكن لا… لا يصح أن أسمّيه ذنباً.’
فهو قبل الخطوبة لم يتردد في إطلاق كلمات أبرد وأقسى من ذلك، حتى إن حدود المعايير باتت مبهمة.
فقد صرّح لها في السابق وبكل وضوح أنه لا يرتاح إليها، لكن ردود فعلها تغيّرت، ولهذا صار ما تفوّه به بعد الخطوبة يثير في قلبه ثِقَلاً غريباً.
‘أم أن السبب أنّني بدأت أظن أنها ربما لا تكنّ لي أي ميل؟’
بل إذا استعاد ملامحها الآن، وجدها هادئة متجردة على نحو عجيب، كأنها شخص آخر تماماً، أو كأن الأمر كله لا يعنيها البتة.
اندفعت فيه رغبة ملحّة ليتحقق من سبب تداخل ذكرياته بهذا الشكل المضطرب.
“هاه…”
زفر رافاييل أنفاساً قصيرة وهو يدلك جبهته المقطّبة ببطء.
‘ما الذي أحاول أن أتحقق منه أصلاً؟ يا لسخافتي، أفي مثل هذا الوقت أضيع نفسي بهذه الأفكار؟’
لم يعد لديه مزاج لمواصلة الطعام، فقرر أن يعود إلى مكتبه ليمضي في إنجاز ما تراكم من عمل.
لكن ما إن رفع عينيه حتى التقت عيناه بنائب القائد الذي ظلّ يرمقه بصمت منذ قليل.
“سيدي القائد، هل حدث أمر ما؟”
كان كايل نائب القائد يتأمل رافاييل بوجه يملؤه القلق وهو يراه يعبث بالطعام دون أن يأكل شيئاً.
ولمّا رأى أنه يوشك أن يترك المائدة بعد لقيمات قليلة فقط، شعر أن الأمر لا يُستهان به، فلم يملك نفسه عن السؤال.
“…… لا شيء.”
“ألأجل تزايد الطاقة المظلمة إذن؟”
ظل رافاييل صامتاً.
فهو بالكاد يستطيع التركيز في أعماله، فكيف كان سينشغل بمتابعة نسبة الطاقة المظلمة؟
غير أنّ كايل الذي لا يعرف في الدنيا سوى العمل، اعتبر صمته إقراراً.
فأشرق وجهه بحماسة وكأنه يُكبر في قائده هذا الهمّ الإمبراطوري العظيم، وقال بنبرة جليلة:
“بلغني أن الدوق بليك قد غادر مسرعاً إلى الشمال. يقال إن هناك حالة طوارئ بشأن أزهار التطهير عند الحدود، فهل لا يجدر بسريّتنا أن تبادر أيضاً؟”
كانت عيناه تتلألآن بعزم الجندي المخلص، أما رافاييل فقد أعادته كلماته إلى ما دار قبل أيام في الاجتماع الطارئ بالقصر الإمبراطوري بشأن أزهار التطهير التي دنّستها الطاقة المظلمة.
إذ لم يكن ثمة ما يوقف انتشار الطاقة المظلمة سوى تلك الزهور المقدّسة المشبعة بقوة الحاكم.
وقد وُجد بعضها عند الحدود الشرقية وقد لوّثتها الطاقة المظلمة، فكان الأمر بمثابة إنذار خطير.
ورغم أنّ المتضرر منها لم يتجاوز ثلاث زهرات، فإن مجرّد تلوّث واحدة منها أمر لا يُسمح به البتة، لأنه ينذر بانفجار في معدلات الطاقة المظلمة، وهو ما كان موضع النقاش فعلاً.
‘كأنني مُسخَّرٌ، أو مأخوذ بروح غريبة.’
تجمّدت ملامح رافاييل على برود صارم.
كيف يمكنه أن يسرح في تلك الأفكار التافهة وفي يده قضية على هذا القدر من الخطورة؟ بدا له أن حالته النفسية ليست على ما يرام.
“…… هل وصلت لائحة الأسماء التي وعدنا بها الفيلق الإمبراطوري؟”
“لقد اكتملت الآن فقط، وأرسل السير آندي صباحاً ليستلمها، فلا بد أنها في الطريق إلينا.”
“حسناً. ولائحتنا نحن جاهزة بلا نقص؟”
“بالطبع. أعددناها منذ أسبوع، ولا يبقى إلا أن ندمجها مع لائحة الفيلق الإمبراطوري لإصدار القرار. لكنني أتساءل إن كان علينا أن نعزّز أفراد الشمال تحديداً؛ فهي المنطقة الأكثر ابتلاءً بالوحوش، وها هي أزهار التطهير فيها مهددة. مما أظنه يستحق النظر قبل إصدار القرار. يكفي أنّ حتى سليل الدوق بليك الذي اعتاد الإقامة في العاصمة قد اضطر للمغادرة إلى هناك.”
ارتسمت على وجه رافاييل مسحة استغراب.
“…… الدوق الصغيربليك ذهب إلى الشمال؟”
“نعم. بلغني أنه غادر قبل يومين، وبما أن عبور البوابة يستغرق يوماً كاملاً، فلا شك أنه وصل إلى مقاطعة بليك أمس.”
“إذن… آنسة بليك بقيت وحدها في العاصمة؟”
“كلا، سيدي. لقد قيل إنها أيضاً رافقتهم إلى الشمال.”
تذبذبت عيناه الزرقاوان للحظة خاطفة.
تحرّكت شفتاه بصعوبة بالغة، وكأن المفاجأة قد خنقته، ثم أخرج كلماته بصوت متكلف:
“…… بتلك الحال الصحية؟”
“آه، لعلها لم تكن على ما يرام؟ إن صحّ ذلك، فربما ذهبت لتلقي العلاج هناك.”
“ومن يذهب إلى مكان خطر كهذا من أجل العلاج!”
ارتفعت نبرة رافاييل على نحو غير معهود، وانكشفت فيها عجلة قلقٍ مكتوم.
أما كايل الذي لا يدرك شيئاً خارج حدود العمل، فقد ظنّ أن قائده يقلق وحسب من كون الشمال منطقة حدودية محفوفة بالمخاطر، فأجاب بجدية مطمئنة:
“لكن… المسافة بين حدود الشياطين ومقاطعة الدوق بعيدة جداً، ثم إن الدوق نفسه ومعه وريثه سيكونان بجوارها، فما وجه القلق إذن؟”
غير أن كلامه لم يبلغ مسمع رافاييل.
كل ما ظلّ يتردد في ذهنه هو:
‘ذهبت إلى الشمال؟’
—
ترجمة : سنو
حسابات المترجمين في الواتباد في خطر ويمكن ينحظر في اي وقت، جروب التيليجرام حيث كل رواياتي موجوده ملفات والنشر هناك اول
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات