اتجهت نظرة الدوق الثقيلة نحو براون، فانعكس وجهه القَلِق في عينيه البنفسجيتين الداكنتين، المتناقضتين مع اللون البنفسجي الفاتح في عيني لويسا.
قال الدوق بصوتٍ لا يخلو من الضيق:
“إن كنتَ تنوي عرضها على كاهن شفاء، فلا بد من الذهاب إلى معبد إقليم بليك.”
لم يكن صوته راضياً، وقد تجعّد ما بين حاجبيه على غير عادته التي لا يظهر فيها أي تعبير.
ولوهلةٍ، بدا كأنه عاجز عن اصطحاب لويسا إلى ذلك المكان البارد، حتى أن براون لم يدرِ إن كان قرأ ملامحه على وجه الدوق حقاً أم توهّم.
أن يُرى وجه الدوق المعروف بصلابته الحديدية، وهو يتداعى بهذا الشكل… كان أمراً غريباً لم يألفه أحد.
قال براون مرتبكاً حتى كاد يتلعثم:
“ل-لماذا؟”
فأجابه الدوق:
“حين أرسل رئيس الأساقفة الكهنة إلى المعبد الشمالي، اختار أقواهم في الشفاء، لأن المكان يعج بالوحوش.”
قال براون متنهداً بأسف:
“إذن… هل يصعُب على الآنسة الذهاب إلى الشمال؟”
فأجاب الدوق بحزم:
“مستحيل. الشمال خطر. صحيح أننا نصدّ الهجمات عند الحدود، لكن أعداد الوحوش ازدادت على نحو غير مألوف حتى أُعلنت حالة الطوارئ. لا يمكن أن آخذ لويسا إلى مكان كهذا.”
اعترض براون بحذر:
“لكن حالة الطوارئ أُعلنت في القرى الواقعة عند أطراف الشمال، أما وسط الإقليم فهو في مأمن…”
فتنفس الدوق عميقاً ثم قال:
“… إذن، سأطلب من رئيس الأساقفة أن يرسل كاهن الشفاء مؤقتاً إلى العاصمة.”
كان يعلم في قرارة نفسه أن براون محق، ولو كان الأمر يخص أي شخص آخر لاتبع العقل والمنطق، واختار الطريق الأكفأ.
لكن بما أن الأمر يتعلّق بلويسا، فكل ما يشغله هو أن تبقى آمنة ومطمئنة، بعيدة عن القلق.
لذا لم يتردد في التفكير في اللجوء إلى توسّل المعبد لمنع أي متغيرٍ قد يهددها.
ساد الصمت حيناً، ولم يقطعه سوى حفيف أوراقٍ تتلاعب بها الريح خلف نافذة الممر.
لم يكن ذلك النسيم الربيعي العليل، بل ريحاً باردةً أيقظت في قلوبهم شيئاً من الوحشة.
وأخيراً، وبعد طول تفكير، قال ديميان ببطء:
“أبي… أرى أن نسأل لويسا أولاً.”
رفع الدوق حاجباً قليلاً وهو يرمق ابنه بعينيه الغارقتين في الكآبة:
“لويسا؟”
“نعم. هذا ليس قراراً نتخذه نحن وحدنا. صاحبة الشأن هي من يجب أن تختار.”
ومع ختام كلماته، تألقت عينا ديميان بعزمٍ قاطع.
أما نظرات الدوق التي كانت تراقبه فقد هبطت شيئاً فشيئاً وكأنه غاص في التفكير.
“… هذا صحيح.”
قالها بنبرة يعلوها زفير ثقيل، كأنه يلوم نفسه على أنه كان قاب قوسين من الوقوع في خطأٍ جديد.
كان يدرك أن اتخاذ قرارٍ منفرد بحجة أنه الأفضل ليس حرصاً على لويسا، بل مجرد تبريرٍ لأنانيته.
لكن لماذا يصرّ في كل مرة على اختيار الطريق الذي يبعده عنها أكثر؟ كان صدره يضيق حسرة.
شدّ على أسنانه، ثم رفع عينيه من جديد قائلاً:
“إذن، فلنناقش الأمر مع لويسا غداً.”
وعندما التقت عيناه البنفسجيتان بعيني ابنه اللتين تشبهانه، ابتسم ديميان براحةٍ وأدار وجهه بعيداً.
أما الدوق، فظل يحدّق بعاطفةٍ عميقة نحو الباب المغلق، كأنه ينظر عبره إلى لويسا الغافية وراءه.
***
أطرقت لويسا بوجه كئيب وهي تحدّق في صندوق كنوزه.
لقد آلَمها قلبها بشدّة حين رأت كمية الماء المقدس تتناقص شيئاً فشيئاً.
‘لا يزال كثيراً، لكن القلق ينهشني، وكأنني أريد أن أُكدّس منه المزيد.’
تناولت قارورة صغيرة من الماء المقدس وأغلقت غطاء الصندوق.
صحيح أنّها شربت بالأمس فلا حاجة لأن تشرب مجدداً اليوم، لكنها تقيّأت دماً كثيراً، وفوق ذلك كان ذلك الهواء الكريه المقيت فظيعاً إلى درجة أنّها شعرت بضرورة شربه مرة أخرى.
ما ذاك الهواء الخانق بالضبط؟ وما صلة السحر الأسود بطاقة الظلام؟ كل شيء كان غامضاً عصيّاً على الفهم.
لكنها تعلم أنّه لا يليق بها أن تتدخل أو تُحدث ضجّة لا طائل منها، فحاولت كبح فضولها.
على أية حال لم تكن تنوي الخروج في الوقت القريب، خاصة بعدما جاءها ديميان صباحاً بعينين دامعتين يرجوها ألّا تغادر القصر، فوافقت على ذلك فوراً، بشرط واحد، أن تُعفى من شرب ذلك الدواء الفظيع، الذي لا يختلف عن عصير الخضار الكريه.
‘ترى، ماذا يريد أبي أن يحدثني عنه حين يأتي بعد الظهر؟ الحديث عن مرضي؟ لكن لا علاج جاهزاً أصلاً……’
سحبت لويسا شالاً خفيفاً وألقته بلا اكتراث على كتفيها، ثم وقفت عند النافذة.
قطرات المطر الخفيفة كانت تتساقط وتطرق أوراق الأشجار خارجاً.
‘الآن وقد تذكّرت، كيف تسير الأمور مع نبيذ روزيه؟ لقد حان تقريباً وقت أن يأتيني اتصال بشأنه…… إن لم يصلني أي خبر خلال بضعة أيام، فربما يجدر أن ألتقي به بنفسي.’
كانت قد قررت أن تتحلى بالصبر وألا تستعجل، غير أنّ الوضع لم يترك لها مجالاً للانتظار فقط.
وبينما كانت تحدّق في الخارج شاردة الفكر، لمحَت فجأة عربةً تقترب مسرعة من بعيد.
“هم؟ من يكون؟”
حدّقت بعينيها نصف المغمضتين في هيكل العربة، وما إن اقتربت أكثر حتى اتسعت عيناها دهشة.
“……لا يكون رافاييل؟”
تمنّت من كل قلبها أن تكون مخطئة، غير أنّ العربة سرعان ما توقفت، وكان عليها ختم النجمة السداسية، وخرجت منها هيئة مألوفة.
‘ما الذي يحمله بيده؟ صندوق؟’
وبالفعل، كان الزائر المفاجئ هو رافاييل.
أصلح بزته البيضاء المهيبة بيديه الضخمتين، ثم رفع رأسه ناظراً إلى الطابق الثاني، فارتجف كتفا لويسا وكأنّ عينيهما تشابكتا في الفراغ للحظة لم تنفصم.
كان دخول القصر بلا إخطار مسبق وقاحة عظيمة، فدهش جميع أفراد بيت الدوق أن يتجرأ رافاييل على هذا الفعل.
أسرع كبير الخدم ليبلغ لويسا، لكنها كانت قد أدركت الأمر مسبقاً وخرجت من غرفتها.
وبما أنّها كانت مستريحة لمرضها فلم ترَ حاجة لتكلّف الزينة، فاكتفت برداء حريري فوق ثوبها المنزلي.
“أستميحكِ عذراً على هذا التطفّل. لم أملك نفسي من القلق فارتكبت ما يُعدّ تجاوزاً.”
حين دخلت قاعة الاستقبال وضع رافاييل يده على صدره وانحنى برأسه اعتذاراً.
ارتعش حاجبه للحظة حين وقعت عيناه على زيها البسيط، لكنه سرعان ما تمالك نفسه.
ابتسمت لويسا ابتسامة خفيفة وأشارت له بالجلوس.
في الحقيقة راودها أن تتركه يرحل بلا لقاء، لكنها تذكرت مشهدها بالأمس وهي تتقيأ دماً، فشعرت أنّ تركه ينصرف سيكون أثقل على نفسها.
وأرادت أن تعرف سبب قدومه.
“هذه هدية للمرضى.”
ما إن جلس حتى وضع صندوقاً ضخماً على الطاولة، وأحدث ثقلاً مدوّياً.
“آه، شكراً لك.”
كان فضولها قد بلغ مداه، فأرسلت نظرة متوسّلة تسأله إن كان بوسعها فتحه.
نظر إليها رافاييل وأومأ موافقاً.
بدأت يداها تحلّ الشريط بلا تردد.
كان الصندوق كبيراً للغاية، لكن لا يخطر في بالها ما الذي قد يحتويه، خصوصاً أنّ مقدّمه هو رافاييل نفسه.
‘أيعقل أن يحمل مثل هذه الهدية؟ لم يأتِ قط حتى بوردة عادية، فكيف بهذا؟’
زادها ذلك لهفة لمعرفة ما بداخله.
نزعت الشريط بسرعة ورفعت الغطاء دفعة واحدة.
“آه……!”
كاد قلبها يتوقف.
لم تصدق عينيها.
وضعت يديها على فمها مذعورة، تحدّق بالصندوق تارة، وبرافاييل أخرى.
‘أيُعطيه لي ثانية؟’
أما هو، فبدا غير متفاجئ، وكأنّه توقّع دهشتها.
اكتفى بالتحديق في عينيها ذات اللون البنفسجي، قبل أن يقول بهدوء:
“ظننتُ أنّكِ بحاجة إلى الماء المقدس فجئت بكل ما أملك.”
“……كلّه؟ أحقاً جئت به كله؟”
لقد كان هناك ما لا يقل عن ثلاثين قارورة.
عجزت حتى عن إطباق فمها من شدة الدهشة.
‘تماسكي، عليّ أن أتماسك…… لكن كيف أتماسك أمام هذا؟!’
كانت قد تألمت لرؤية مخزونها يتناقص يومًا بعد يوم، فإذا به يتضاعف أضعافًا أمام عينيها.
حاولت أن تكبت فرحتها لئلا تبدو جشِعة، لكن ابتسامتها المتسعة خانتها، فلم تستطع السيطرة على ارتعاشة شفتيها.
“أتعني أنك ستمنحني هذا حقًا؟”
“نعم. للأسف هذا كل ما لدي الآن، لكن ما إن أحصل على المزيد فسأقدّمه لكِ يا آنسة بليك.”
‘إلى هذا الحد؟!’
صحيح أنّها سعيدة، لكنها لم تنسَ أنّه لم يكن يومًا مُحسنًا إليها، فماذا وراء هذا التغيّر المفاجئ؟
بعينين حذرتين سألت بصوت متردّد:
“أشكرك، ولكن… لِمَ تُبالغ في العطاء إلى هذا الحد؟”
لمع بريق غامض في عينيه الزرقاوين، ولم يُجب على الفور.
تبادلا نظرات صامتة، قبل أن تتحرك شفتاه القرمزيتان ببطء:
“لست ملمًّا بالطب، لكنني أعلم أنّ السعال المصحوب بالدم لا يأتي عبثًا.”
“……”
“فإن كان طبيبك لم يحدّد بعد ماهية الداء، فليتك تستشيرين طبيب البلاط، أو أحد كهنة الشفاء.”
“آه…”
تفجّر من صدرها زفير حار، وقد خابت فجأة بهجتها.
لم يكتفِ بأن يذكر طبيب البلاط، حتى أضاف كهنة الشفاء الذين كانت تخشاهم.
شعرت كأن فرحتها المنتفخة قد انفجرت في لحظة.
‘هذا ما توقّعته.’
—
ترجمة : سنو
حسابات المترجمين في الواتباد في خطر ويمكن ينحظر في اي وقت، جروب التيليجرام حيث كل رواياتي موجوده ملفات والنشر هناك اول
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات